من أسوء ما قد يُقدم عليه المثقف أن يعطي لقرائه انطباعا خاطئا مفاده أنه (أي المثقف) على دراية بموضوع من مواضيع البحث يكتب حوله ، بينما هو، في حقيقة أمره جاهل به، ولا دُربة له في مناهج التحقيق العلمي فيه ولا مِراس. هذا مبدأ من مبادئ اييتيقا البحث العلمي كثيرا ما ردده برتراند راسل في كتاباته سأبين أن السيد حميش لم يحترمه في مقال له نشر في منبر هيسپريس عنوانه "حميش يكتب: فصل المقال في ما بين الفصحى والدارجة من اتصال". سأبين، تحديدا، أن عدم معرفة حميش بالعلم اللساني كما يمارسه أهله من المتخصصين فيه والمدققين في شؤونه أسقط هذا المثقف المغربي ووزير الثقافة السابق في مظنة "العلم الباطل" pseudo-science. سأبين أن من مظاهر "العلم الباطل" في خطاب حميش أنه ليس على علم بموازين تقييم الدعاوى في العلم اللساني evaluation heuristics ككفاية "الملاحظة" و"الكفاية الوصفية" و"الكفاية التفسيرية" و"وكفاية "الواقع النفسي"، ولا علم له بطرق تقدير العلماء لأحوال اللغات، صوتا وبناء ومعجما، ولا معرفة علمية له بما يسميه ب"العامية" المغربية وبطرق اشتغالها وتعقد مبانيها ومعانيها، ولا علم له بعلاقة الدارجة المغربية بالأمازيغية، لأستنتج بأن الرجل إنما هو مدفوع بتحيزه الأيديولوجي ضد الأمازيغية ومتعلقاتها الهوياتية." جملة دعواي في هذا المقال أن حميش تطفل على علم لا يتقنه، فكان أن نتج عن تطفله أنه صرح بحديث كثير لا أثر فيه للعلم قد يضلّل به كل من يتوسم في الرجل رأيا حصيفا. معايير تقييم مغلوطة من مظاهر عدم أهلية حميش للخوض في شؤون اللغات والعلاقات بينها أنه يستعمل معايير للتقييم غير علمية تدل على عدم تمكنه من آليات البحث اللساني. الشاهد على ذلك أنه يستخدم عبارة "الدليل المادي الأبلغ والأدمغ" ليوهم القارئ أنه (أي حميش) يتوفر على أدلة "مادية" لا يطالها الشك تؤكد عدم جواز "سلخ" ما يسميه ب"العامية المغربية" عن "جذورها العربية" (وكأنما هناك، بالفعل، من يقول إن معجم الدارجة المغربية لا علاقة له بالعربية). وجوه المغالطة في مثل هذه التعابير (""الدليل المادي الأبلغ والأدمغ") كثيرة، منها أنه لا ينسجم مع ما يومن به العلماء الحقيقيون من ضرورة التواضع في إصدار الأحكام وتأكيدها. فمعظم اللسانيين المتمكنين يفضلون الاشتغال على ظواهر ميكروسكوپية مثل الضمائر، أو جزء صغير من المعجم، أوظواهر صوتية محددة، ويفعلون ذلك لفترة طويلة من الممارسة المهنية القريبة قبل أن يتخذوا حكما متواضعا يرجحون فيه رأيا من الآراء بدون أن يتجرأوا على اعتبار حكمهم العلمي "دليلا ماديا أبلغ وأدمغ". من أوجه التغليط في هذه التعابير (""الدليل المادي الأبلغ والأدمغ") أيضا أن صاحبها يظلم نفسه بعدم البحث في معايير التقييم اللساني المعتبرة عند العلماء المتخصصين التي من بينها معيار "كفاية الملاحظة"Observation adequacy، ومعيار "كفاية الوصف"Descriptive adequacy، ومعيار "كفاية التفسير" Explanatory adequacy، ومعيار "كفاية "الواقعية النفسية" Psychological reality. فنقول إن لقول علمي "كفاية ملاحظة" إذا وجهتنا استلزامات هذا القول إلى ملاحظة ظواهر ما كان لنا أن نلاحظها لولاها (كما تمكن شومسكي من ملاحظة وجود نوع من الضمائر الفاعلية الصامتة تسمى ب PRO عندما قاده بحثه إلى ضرورة وجود ضمير غير معمول فيه). ومعيار "كفاية الوصف" هو أن تمكننا استلزامات القول العلمي من وصف الظاهرة اللسانية وصفا كاملا لا يهمل جانبا من جوانبها أويغض النظر عنه. وكفاية "التفسير" أن يكون بإمكان القول العلمي أن يفسر ظواهر كانت ذات طابع إشكالي (كما فعل علماء اللسانيات التاريخية عندما فسروا وجود معجم مشترك بين السنسكريتية القديمة واللاتينية). وكفاية "الواقعية النفسية" هي أن ينسجم ما نعرفه عن اللغة مع ما نعرفه عن اشتغال عقل الإنسان وبنائه النفسي (كما كما فعل براون وليڤينسون عندما وصفوا ظواهر التأدب في اللغات الطبيعية بدلالة مفهوم "الوجه" عند ڭوفمان، وهو مفهوم نفسي أنتروپولوجي). تلكم بعض من معايير التقييم العلمي التي يستخدمها العلماء اللسانيون الذين أقنعهم تعقد اللغة وغناها وعمقها بأن يتعاملوا مع فهمهم للغات والعلاقات بينها بكثير من الحذر في إصدار الأحكام .. فلا مكان بين العلماء اللسانيين لمن يؤمن ب"الدليل الأبلغ والأدمغ" أصلا. وإذا تأملنا شيئا ما في ما يعتبره حميش "الدليل الأبلغ والأدمغ" على صلة الدارجة المغربية بالعربية (وهذا موضوع سأبين بعد قليل أن حميش لا يفهمه جيدا)، فلن نجد أثرا ل"الأبلغية" و"الأدمغية" التي يدعيها الرجل، بل سنكتشف أنه يحمل في ذهنه سذاجة إپستيمولوجية يتعجب المرء كيف لمثقف "حداثي" ووزير سابق للثقافة أن يحملها. فالدليل "الأبلغ والأدمغ"، في نظره، يتجلى "في صنف من الأبحاث ينضوي في فلك المعجمية، كما عرفها ومارسها العرب قديما، منذ أواخر القرن الثالث الهجري". وهو يشير بذلك إلى الأعمال المعجمية التي حاول فيها أصحابها جمع الألفاظ التي توجد في الدارجة وتقريبها مبنى ومعنى لمقابلاتها في العربية، مثل أعمال عمر الدسوقي والشيخ أحمد رضا وأحمد أبو سعيد، في الشرق، وعبد العزير بنعبدالله ومحمد الحلوي في المغرب. فما وجه "أبلغية وأدمغية" هذا "الدليل المادي"؟ هل يكفي أن يشتغل باحث في العلاقة بين لغتين ويقدم رأيه في ذلك لنعتبر بحثه "دليلا ماديا دامغا"؟ أليس العلم هو أن نخضع الدعاوي لمبضع النقد بكل ما نستطيع من الصرامة، فلا نقبل منها إلا ما اجتاز امتحان النقد. أليس من أمارات العبث في العلم أن نعتبر قول فلان أو علان حجة فقط لأنه فلان أو علان؟ أولا يتأثر الباحث في آرائه حول اللغة بميولاته الأيديولوجية والسياسية، فيُثبت ما تمليه عليه الأهواء والمصالح، وينفي ما لا ينسجم معها؟ أليست الرغبة في اختزال الدارجة المغربية إلى لغة عربية شاردة محرفة إرضاء للطبقة الحاكمة هي التي دفعت أحمد بن محمد الصبيحي السلاوي إلى جمع ”معجم“ قدمه وأخرجه محمد حجي عنوانه ”إرجاع الدارج في المغرب إلى حظيرة أصلة العربي“ أهداه (الصبيحي) إلى ”جلالة مولانا السلطان“ (ويقصد به محمد الخامس) حاول أن يرجع فيه 982 وحدة معجمية دارجية إلى ”أصولها العربية“؟ حتى إنه لا يعسر على طلبتي المبتدئين في علم اللسانيات التاريخية أن يتبينوا اللغط الكثير الذي تجده في مثل هذه "المصنفات" وجهل أهلها بتاريخ العربية والدارجة والعلاقة بينهما. وحتى إنه بإمكان كل عارف باللسانيات التاريخية، مهما كانت سطحية معرفته بها، أن يلاحظ الإعتباطية والتكلف اللذين ميزا جهد الصبيحي في محاولته لرد بعض كلمات الدارجة إلى أصول عربية كادعائه بأن أصل كلمة ”أحواش“ الأمازيغية من فعل ”حاش“ (حاش الإبل أي ساقها) دون أن يبرر علاقة السياقة بالرقص، ودون أن يقدم دليلا تاريخيا أو لسانيا على هذا الإشتقاق. ومن طرائف ما ذكره الصبيحي أيضا أن كلمة ”تاڭرا“ التي تستعمل في بعض المناطق بالمغرب للدلالة على ”الآنية“ هي من أصل ”تاجرة‘ لأن التجار وحدهم يستعملون هذه الأواني! وأن أصل ”تاباكنّا“ (بالأمازيغية: الغرض والمراد والفرصة يغتنمها الإنسان) التي تستعمل في بعض المناطق المغربية بمعنى ”المرغوب فيه، المتعمّد“ هو ”تبارك الله“! ولو توفر لي الوقت لسرد عجائب "رد الدارجي" إلى "العربي" عند "التعريبيين" لذكرت الشيء الكثير! فهل هذا من صنف "الدليل المادي الأبلغ والأدمغ" الذي تحدث عنه حميش؟ فقيمة العلم لا تستمد من مصدره بل من استيفائه لمطالب الملاحظة والوصف والتفسير وغيرها، هي مناط القول العلمي، ومعها تدور حجيته. ومن أوجه التغليط في استعمال حميش لعبارة "الدليل المادي الأبلغ والأدمغ" أنه يخلط في ذهنه، الذي لم يتمرن على التعامل مع دقائق النظر اللساني، بين مواضيع مختلفة يعتقد، كعوام الناس، أنها متطابقة. من ذلك مثلا خلطه بين وجود معجم مشترك كبير بين الدارجة والعربية، من جهة، وكون الدارجة والعربية لغة واحدة، من جهة أخرى. فوجود معجم كبير مشترك بين الدارجة والعربية أمر تشهد له الجذور المشتركة بين اللغتين لا خلاف في ذلك (فنقول: "الباب" في كلا اللغتين، ونقول "الجمل" في كلا اللغتين، ونقول "الخبز" في كلا اللغتين، ونقول "التفاح" في كلا اللغتين، ونقول "الماء" في كلا اللغتين، إلخ، مع اختلاف قليل أو كثير في النطق، من طبيعة الحال). لكن هل وجود هذا المعجم الكبير المشترك "دليل مادي أبلغ وأدمغ" على أن الدارجة والعربية لغة واحدة؟ الجواب من طبيعة الحال هو: ليس الأمر كذلك بالضرورة. فاشتراك لغتين في معجم كبير إما أن يعني أن اللغتين تنويعتان انحدرتا من نفس اللغة، وإما أن يعني أن إحدى اللغتين نتجت عن "كريلتها" creolization (أي تمازجها) مع لغة أخرى فاحتفظت بجزء كبير من معجم إحدى اللغتين "المكريلتين"، وإما أن اللغتين هما من نفس العائلة اللغوية. من الأمثلة عن الحالة الأخيرة أن اللغات السامية كالعربية والعبرية والآرامية والسريانية وغيرها لغات مختلفة تشترك في تراث معجمي ضخم جمع جزءا منه اللساني المعروفDavid Cohen في معجم ضخم مكون من سلسلة من المجزوء ات عنوانه ”معجم الجذور السامية“ ولم يدفع اشتراك هذه اللغات السامية في معجم ضخم بديڤيد كوهن إلى أن يستتنج بأن كل اللغات السامية هي مجرد لغة عبرية لاحنة مثلا وبأن المعجم الضخم (المستوفي لمعايير التدقيق في اللسانيات التاريخية) هو "الدليل الأبلغ والأدمغ" على صدق دعواه. ولو كان اشتراك الدارجة المغربية مع العربية في معجم كبير "دليلا ماديا" على أن الدارجة مجرد تنويعة من تنويعات العربية لاعتبرنا اللغة الإنجليزية تنويعة من تنويعات اللاتينية، كالفرنسية والاسبانية والبرتغالية، فقط لأن حوالي 60% من معجمها لاتيني (وفقط 38% من معجمها جرماني). لكن هذا لا يستقيم عند أهل التحقيق اللساني لأسباب من بينها أن النظام الصوتي للغة الانجليزية جرماني وليس لاتينيا، وأن نظامها الصرفي جرماني وليس لاتينيا، وتركيب العبارة والجملة فيها جرماني وليس لاتينيا. فقد يفضل المتكلم باللغة الانجليزية أن يتجنب استعمال الجزء اللاتيني للمعجم الانجليزي ويكتفي باستعمال مكونه الجرماني تحيزا للأصل الجرماني للإنجليزية، ولكنه لا يستطيع أن يتجنب استخدام النظام الصوتي والصرفي والتركيب الجرماني إذا ما هو أراد أن يتكلم بهذه اللغة. يمكن للمعجم أن يتبدل ويتغير، ويمكن لمستعمل اللغة أن يستعمل منه ما يتماشي مع أهوائه ولكنه لا يستطيع أن يتجرد من خصائص النظام الصوتي والصرفي والتركيبي مهما حاول. فإذا لم يكن هناك من معنى ل"دليل" حميش "المادي الأبلغ والأدمغ"، فهل تتوفر الفرضية القائلة بأن الدارجة المغربية والعربية هما تنويعتان مختلفتان لنفس اللغة، واحدة تستعمل في السياقات "الرسمية"، والأخرى في سياق التخاطب اليومي (وهذه هي الصورة التي يريد أن يرسخها في ذهن قارئه) هل تتوفر هذه الفرضية، على الأقل، على قدر محترم من "كفاية الملاحظة"؟ (علما أن "كفاية الملاحظة" هي الحد الأدنى لما يطلب في القول العلمي حول اللغات). الجواب ينبغي أن يكون بالسلب لأن ما اعتبره حميش "دليلا ماديا" إن هو إلا ملاحظة ناقصة لمعجم الدارجة المغربية. فجملة كلام الرجل أن الدارجة تحتوي على معجم كبير مشترك مع العربية، وهذه ملاحظة صحيحة ولكنها ناقصة من أوجه عدة. أولها أن ما رتب عليها من نتائج لا يستقيم (وهذا بيناه)، وثانيهما أن لكل مفردة دارجية ذات أصل عربي مفردة تقاربها من نفس المجال الدلالي أصلها أمازيغي. وثالثها أن طرق نطق الألفاظ في الدارجة وتركيب المفردات وجمعها في التراكيب والجمل تغلب عليها الخصائص الأمازيغية للنطق وآلصرف والتركيب. وهذا تفصيل دعوانا: أولا لكل مفردة في الدارجة من أصل عربي مفردة تقاربها من نفس المجال الدلالي أصلها أمازيغي. من ذلك مثلا أن "خلط" عربية لكن "روّن" أمازيغية معناها "لتّ وخلط"، من ئروي ⵉⵔⵡⵉ وئسّروي ⵉⵙⵙⵔⵡⵉ . "الفدان" عربية، و"الرّوا" أمازيغية من أروا ⴰⵔⵡⴰ هو مربط الدواب. "فرح" عربية، أما "رشق ليه" فأمازيغية من ئرشق ⵉⵔⵛⵇ . "ضعاف" عربية من أصل "ضعف"، أما "رشا" ⵉⵔⵛⴰ فأمازيغية معناها "بلي" و"نخر". "طلب" عربية، أما "زاوڭ" فأمازيغية من ئزوڭ ⵉⵣⵓⴳ معناها "نفي فاستجار". "الفساد" عربية، ولكن ”الزبلة“ بتفخيم الزاي أمازيغية من تيزبلت ⵜⵉⵥⴱⴻⵍⵜ وتوزبيلت ⵜⵓⵥⴱⵉⵍⵜ ."ركل" عربية، ولكن ”زطم“ أمازيغية من ئزضم ⵉⵥⴹⴻⵎ معناها "هاجم" و"جار على". "الخبز" عربية، ولكن "سكسو" ⵙⴻⴽⵯⵙⵓ أمازيغية. "ضحك" عربية، أما ”فرنس“ ⵉⴼⵔⵏⴻⵙ فأمازيغية، منه أفرناس ⴰⴼⵔⵏⴰⵙ وهو "الأجلع" الذي لا تنضم شفتاه إلى بعضهما البعض (منه على الأرجح اسمه العالم الأمازيغي الشهير "عباس أفرناس التكريتي مخترع آلة "الميقاتة" وأول من حاول الطيران). "الفلج" عربية، من "الأفلج"، أما "الفرماش" فلفظة أمازيغية من أفرماش ⴰⴼⴻⵔⵎⴰⵛ من فعل ئفرمش ⵉⴼⴻⵔⵎⴻⵛ بمعنى "ثرم" و"لطع". "الذكر" لفظة عربية قد تعني مما تعنيه "الجهاز التناسلي الذكري"، أما "القلوة" فمن لفظ أمازيغي يعني "الخصية" وهو أقلْوو ⴰⵇⵍⵡⵓ . "الكذاب" عربية، أما "البوحاطي" فمن أبوحاط ⴰⴱⵓⵃⴰⵟ تعني نفس الشيء في أصلها. "ضاصر" ربما عربية من "جاسر"، أما "باسل" فمن اللفظة الأمازيغية ؤبسيل ⵓⴱⵙⵉⵍ "الباب" عربية، أما "شرجم" فأمازيغية من "أسرزم" ⴰⵙⴻⵔⵣⴻⵎ، "فتحة في الحائط". "رمى" عربية، أما "كركب" فأمازيغية من فعل ئكركب ⵉⴽⴻⵔⴻⴱ معناه "دحرج". "رتاح" عربية ، ولكن ئفجّج ⵉⴼⵊⵊⴻⵊ فأمازيغية تعني "ابتهج". ومن هذه المتقاربات الدلالية بين الأمازيغية والعربية داخل الدارجة المغربية الشيء الكثير مما قد نعود له بالتفصيل في مقال قادم. فأصل القاعدة في كل هذا التمازج بين معجم العربية والأمازيغية في الدارجة المغربية أنك إذا لم تجد للفظ الدارجي أصلا في العربية، فابحث عنه في الأمازيغية حيث ستجده هو ومشتقاته الكثيرة. فهذا على الأرجح ما مكن اللساني المغربي الكبير محمد شفيق أن يجمع مصنفه الضخم والمتزن الذي نشر سنة 1999 والذي عنوانه “الدارجة المغربية: مجال توارد بين الأمازيغية والعربية“. خلاصة الكلام أن استخدام حميش لتعابير عامية ك"الدليل الأبلغ والأدمغ" دليل على عدم درايته بمعايير التقييم في العلوم اللسانية .. وأمارة من أمارات سقوطه في العلم الباطل. منهج في البحث مغلوط يعد حميش بعمل له سيجمع فيه مفردات الدارجة المغربية ذات الأصل العربي، مستشهدا على وفرتها في الدارجة المغربية بأبيات من رباعيات عبدالرحمن المجذوب. ويصرح بأن المنهج الذي سيعتمله لانجاز هذه المهمة هو منهج "تركيبي سنكروني" معرفا منهجه "التركيبي السنكروني" بأنه "المنهج التركيبي السنكروني الذي لا يبحث بالضرورة والأسبقية في نشوء الكلمات التاريخي، بل يقوم أساسا بتثبيت وتجميع الكلمات المشتركة بين الفصحى والدارجة كحالات لغوية واقعة." ولو كان حميش ذا تكوين في اللسانيات، لعلم أن البحث الذي ينوي القيام به (وهو غير مؤهل لذلك كما سأبين بعد قليل) يسمى عند أهل الاختصاص ب"اللسانيات المقارنة"Contrastive Linguistics تسمى أيضا ب"اللسانيات الخلافية" Differential Linguistics يعرفها المتخصصون فيها بأنها "تلك المقاربة اللسانية الموجهة تطبيقيا والتي تهدف إلى وصف المشترك وغير المشترك بين لغتين" (Wnguo and Mun 2014). فلكي تفهم العلاقة بين لغتين فهما علميا موضوعيا رصينا متحررا من المقاربات الأيديولوجية التي تهون من الفرق بين لغتين أو تهول منه (لأسباب أيديولوجية معلومة)، ثم تتجه، بعد أن تفترض ذلك، إلى محاولة إثبات تقارب اللغتين أو تباعدهما لكي تفهم ذلك ينبغي أن تدرس المشترك بين اللغتين كما تدرس الفرق بينهما، تدرس ما يتقاربان به كما تدرس ما يتباعدان به. وهذا عين ما يقوم به علماء اللسانيات المقارنة (أو اللسانية الخلافية). وهذا بالضبط ما يجعل عمل حميش الذي يحصر فيه اهتمامه بدراسة المشترك بين العربية والدارجة أشبه ما يكون بمن يحاول أن يقارن بين سحابة وبطيخة مؤكدا في مقارنته على ما يشتركان فيه، وهو كمية الماء التي يحتوي عليها كل منهما، فيستنتج من مقارنته أن السحاب من فصيلة البطيخ. وهذا عبث يغنينا ظهور عبثيته عن كل رد. ومن نتائج عدم إلمام السيد حميش بأساليب البحث المقارن في اللسانيات أنه عبر عن آراء غير موفَّقة وغير منسجمة مع فهم علماء اللسان للغات والعلاقات بينها. من ذلك، مثلا، أنه وصف الدارجة المغربية بأوصاف تدل على عدم فهمه لكيفية اشتغال اللغات الطبيعية، وعزا هذه الأوصاف لطابعها الشفوي الذي تُستخدم بموجبه في حياة الناس اليومية. من هذه الأوصاف، حسب زعمه، ما سماه ب"الاهمال" الذي عرفه بأنه "إهمال لتعدد المعاني Polysemy". ومن بينها أيضا ما سماه ب"التسهيل" الذي أدرج تحته "شتى أنواع الإدغام والاقتضاب والاختزال والتركيب الضغطي للمفردات". وفي ما يلي تبيين لأوجه التهافت في هذه الأوصاف وتعليلاتها غير العلمية. من أوجه اللغط في ادعاء حميش أن الدارجة تفتقد لصفة تعدد المعاني Polysemy بسبب استعمالها في التواصل الشفوي الذي يختزل المعاني ويحصرها في القليل أنه لم يثبت قط أن الاستعمال الشفوي للغة من اللغات اختزل تعدد معاني المفردات في لغة من اللغات، وإلا فإن الانجليزية والفرنسية لغتان بدون تعدد للمعاني فقط لأنههما تستعملان في الحياة اليومية. فمما لا يعلمه حميش أن ظاهرة تعدد المعاني لا علاقة لها بالاستعمال اليومي للغة أصلا بل هي نتيجة لعمل آليتين اثنتين وهما آلية "الانزلاق المعجمي" وآلية "التجاور داخل الحقل الدلالي الواحد". من الأمثلة على اشتغال آلية الانزلاق المعجمي أن الفعل الانجليزي command يدل على معنى "أمر" وعلى معنى "استحق" (كقولك: Your bravery commands my respect التي معناها "شجاعتك تستحق إعجابي"). فالمعنى الأقدم للفظة كان هو "استأمن الشيء في يد إنسان" لينزلق المعنى بعد ذلك بفعل الاستعمال اليومي إلى المعنيين اللذين للفظة اليوم. ومن الأمثلة على آلية "التجاور" أن استعمال لفظة star "نجم" في سياق الحديث عن مشاهير السينما أكسب اللفظ الانجليزية معنى جديدا وهو "الظهور في فيلم" (فتقول مثلا: John starred in the film معناها "شارك بدور البطولة في الفيلم"). فالاستعمال اليومي للغة لا يختزل تعدد المعنى بل يغنيه ويقوي من دينامية اشتغاله. من أوجه اللغط في دعوى حميش أيضا أن ليس هناك لغة لا تتعدد معاني ألفاظها. فهذه خاصية كلية من خصائص الألفاظ لا يكاد ينتبه الناس لوجودها في لغاتهم. فلو بحث الرجل في أبسط حرف من حروف الدارجة المغربية كما يفعل العلماء المتخصصون لألفى تعددا دلاليا قد يدهشه ويكشف له جهله بما يتحدث عنه. للتوضيح، اعتبر لفظة "غير" في الدارجة المغربية (أوردها للتمثيل لا للحصر لأني درستها بشكل مفصل في كتاب لي منشور عنوانه Toward an Ontologically Based Syntax). فلفظة "غير" في الدارجة قد تستعمل للحصر كما في قولك "شريت غير كتاب واحد"، وللتقليل كما في قولك "غير هضرت معاه ماشي ضربتو"، وللتهديد كما في "غير آجي ولّا راه غادي نضربك"، وللاستثناء كما في "جيب شي واحد غيرو"، وللتحقير كما في قولك "واش غير لّي جا يطيب الطاجين!؟"، وغير ذلك كثير من المعاني البينية التي تنتج عن تمازج هذه المعاني. خذ أيضا مثال فعل "ضار" الذي يعني "التف" وتأمل في تعدد معانيه: فتقول "ضار براسو" أي "اعتنى بنفسه"، و"ضار فيه" أي "هاجمه باللوم ونحوه بشكل مفاجئ"، و"ضار عليه" أي "غدره". خذ أيضا مثال اسم "ولد" الذي يستخدم بمعنى "مكان الاقامة" كقولك "ولد مراكش"، والاتصاف بالشيء كقولك "ولد الحّرام"، و"الانتماء إلى نوع من الناس والاتصاف بصفاتهم كقولك "ولد الناس"، والاتصاف بصفة معلومة كما في "ولد الخير" و"ولد الجوع" و"ولد باب الله".. خذ أيضا كلمة تبدو بسيطة ككلمة "شمس" التي قد تعني "كوكب الشمس"، وقد تعني الجو الحاركما في قولك "فاين خارج فهاد الشمس؟"، أو "بقعة مشمسة" كما في قولك "مالك واقف فالشمس؟" تلكم عينة من الألفاظ البسيطة التي تتعدد معانيها نمثل بها للالاف من الألفاظ الدارجية التي تتعدد معانيها إما بسبب مجاورتها لألفاظ شبيهة، أو بسبب الانزلاقات المعجمية التي تنتج عن أسباب مختلفة كالتداول الاستعاري والكنايات المنسية وتوسيع المعنى أو تضييقه وغير ذلك كثير. غرضنا من عرض ما يمثل لها أن نبين أن دعوى حميش أن الدارجة تتميز باختزال المعاني هي دعوى كاذبة، وأن تصريحه بهذه الدعوى مظهر من مظاهر عدم درايته بعلوم اللسان وجهله بمناهجها. من أوجه تهافت دعوى حميش أيضا أنه اعتبر عدم وجود الأصوات /ذ/ و/ظ/ و/ث/ وتعويضها ب/د/ و/ض/ و/ت/ نوعا من "الاهمال"، مغفلا أن غيابها ليس "إهمالا" بل نتيجة من نتائج استخدام الدارجة للنظام الصوتي الأمازيغي الذي لا يحتوي على فونيمات بين أسنانية (إلا على مستوى التحقيق الفونولوجي في بعض اللهجات الأمازيغية). وهذا هو الواقع الذي يتهرب الرجل بشكل غريب عن الاعتراف به أو حتى الايحاء به. فكل دارس للنظامين الصوتيين الدارجي والأمازيغي سيلاحظ أن التقارب بينهما يصل إلى حد التطابق على المستويين المقطعي segmental (أي على مستوى الأصوات) والتطريزي prosodic (على مستوى النبر وغير من الوحدات المتجاوزة للصوت) كليهما. وهي أمور أشبعها العلماء اللسانيون المغاربة (وليس الفرنسيون) كالدكتور المدلاوي والدكتور اليوسي وغيرهما بحثا وتحقيقا. من ذلك مثلا أن الدارجة تستعمل نظام التدوير في القاف ("قْتْلْ" بقاف مدورة [بتدوير الشفتين] يعني "صيغة فعل الأمر لفعل قتل"، وبقاف غير مدورة [ببسط الشفتين] يعني "فعل قتل في الماضي، صيغة الغائب المذكر])، والكاف ("كتار" بكاف مبسوطة يعني "كثُر" وبكاف مدورة يعني صيغة الجمع للنعت "كثير")، والغين ("غبرة" بغين مدورة تعني "الغبار" وبغين مبسوطة تعني "الغياب"). كما تستعمل نظام التفخيم في بعض الأصوات التي لا تستخدم فيها في العربية. من ذلك مثلا تفخيم الباء ("بولة" بباء مرققة تعني المصباح، وبباء مفخمة تعني "البول")، وتفخيم الراء ("برا" براء مفخمة تعني "شفي"، وبراء مرققة تعني "إبرة")، وتفخيم الزاي ("زبلة" بزاي مرققة تعني "مؤنث زبل"، وبزاي مفخمة تعني "خطأ جسيم"). من ذلك أيضا أن الدارجة على عكس العربية (ومثل الأمازيغية) لا يغير مد الصائت من المعنى (المد غير فونيمي)، وتقبل بتتابع الصوامت، وتقبل تطابق الفعل بالفاعل بغض النظر عن ترتيبهما، وتستعمل عوائد "الرأس" (مثلا "شفت راسي" = "زريغ إخف إينو")، وتستعمل حرف الإشارة للتأكيد ("راه شفتو" = "هان زريخت")، وتستعمل نظاما رباعيا في صيغة الفعل (كلا، ياكل، كياكل، غادي ياكل)، وغير ذلك الكثير من الخصائص الصوتية والصرفية والتركيبية المشتركة بين الدارجة والأمازيغية والتي لا مثيل لها في العربية. فاختلاف النظام الصوتي للدارجة عن مثيله في العربية ليس "إهمالا" ناتجا عن الاستعمال اليومي للغة، بل توظيف للنظام الصوتي الأمازيغي في استعمال ألفاظ ذات أصل عربي. فهذا مظهر من مظاهر تمازج للأمازيغية والعربية نتج عنه ظهور لغة ثالثة هي الدارجة المغربية. من مظاهر التقدير غير العالِم للخصائص اللسانية للدارجة اعتقاده العجيب أن حذف المغاربة للهمزة في بعض مواقع الكلام هو نوع من "تسهيل" النطق، يقصد ب"التسهيل" ربما "التيسير". وهي دعوى عجيبة لأن كل عارف بالأنظمة الصوتية للغات الطبيعية يعلم أن الأصوات في كل لغة من اللغات الطبيعية تخضع لنوع من القواعد تسمى بقيود "الترتيب" Phonotactic Constraints تقصي إمكانيات محددة لتوالي الأصوات. من الأمثلة على ذلك أن الاسپانية والدارجة المصرية لا تقبلان بدأ الكلمة بصامت consonant، وأن الانجليزية ترفض أن تبتدأ الكلمة بهاء متبوعة بصائت vowel، وترفض أن تنتهي الكلمة بهذا الصوت. من ذلك أيضا أن الأمازيغية والدارجة يشتركان في قيد يقصي الكلمات التي تبتدأ بهمز أو تنتهي به. لهذا فكل الكلمات ذات الأصل العربي التي تبتدأ بهمز يُحذف همزها في الدارجة (إبرة ... برا، الإيمان ... ليمان، الأذان ... لادان، إلخ). وكل لفظة يتوسطها همز في العربية تحذف في الدارجة إذا ما استعملتها (الفأر ... الفار، البئر ... البير، الفأل ... الفال، إلخ). ومن القواعد التي أضافتها الدارجة لتكييف هذه القاعدة مع معجمها أنه إذا ما أدى حذف الهمز إلى التباس في المعنى، أقحم صوت إضافي لتمييز المعنى. من ذلك مثلا أن همز "البناء" حُذف في الدارجة فصارت "البنّا"، لكن التباس هذه الكلمة بمعنى "اللذة" أدى إلى أن أضافت الدارجة صوت /ي/ لتصبح "البنّاي". فلو كان حذف الهمزة للإستثقال لتركت في هذه الحال لرفع الالتباس. ولو كان استعمال الهمز يثمر استثقالا ينبغي تيسيره لما احتوت اللغات الطبيعية على قواعد الاضعاف التي تحول بعض الصوامت إلى همز، كما يحدث في الإنجليزية عندما تحولت التاء إلى همز في بعض اللهجات عندما تنطق little "لِّألْ"، أو كما حدث في اللهجات الجنوبية للدارجة المغربية التي تحولت فيها راء حرف التأكيد "راه" إلى "آه" (تقول: "آه جاو عندي" بمعنى "راه جاو عندي"). فلا علاقة ل"التهميز" ب"التيسير" (الذي يدعوه حميش "تسهيلا"). أما اختزال الكلمات بحذف صوائتها فليس نوعا من "التيسير" العامي كما قد يسميه حميش وإنما هو استخدام للنظام الصوتي الأمازيغي الذي درسه المدلاوي بدقة. من ذلك أن الصائت المشموم يلعب دورا في تغيير معاني الكلمات في الدارجة المغربية والأمازيغية كليهما مما لا علاقة له بالنظام الصائتي للعربية. فكلمة ”فرح“ تعني العرس إذا وضع الصائت المشموم بين الفاء والراء، بين تعني فعل ”فرح“ إذا وضع بين الراء والحاء. وإذا وضع بين الدال والراء في ”درس“ فإن الكلمة ستعني إسم ”درس“، أما إذا وضع بين الراء والسين فإ نها ستعني فعل ”درس“. أما ما أسماه حميش ب"إهمال" الإعراب فليس سوى فمظهر آخر من مظاهر الفهم العامي لطرق اشتغال اللغات. فكل عارف باللغات الطبيعية يعلم أن اللغات تستعمل نوعين من الاعراب أحدهما مورفولوجي ظاهرMorphological Case، الآخر بنيوي Structural Case غير ظاهر. فمن المبادئ التي تحكم اللغات الطبيعية مبدأ سماه شومسكي ب"المصفاة الاعرابية" Case Filter مقتضاه أن كل اسم ينبغي أن يسند له إعراب معلوم قد يكون ظاهرا كما في اللاتينية والألمانية والعربية والانجليزية القديمة وكثير من لغات العالم، وقد يكون مستترا كما في لغات أخرى. ومن علامات التحول من لغة ذات إعراب مورفولوجي إلى لغة ذات إعراب بنيوي، أن اللغات ذات الاعراب البنيوي تستعيض عن الاعراب المورفولوجي بتعدد التراكيب ذات المحتوى القضوي. لهذا فإن الدارجة استعارت البناءات التركيبية للأمازيغية لتعوض بها ما تخلت عنه من الاعرابات المورفولوجية. من هذه البناءات التي درسها كاتب هذا المقال بشيء من التفصيل: 1 التراكيب الوجودية ذات المحمول الموصولي كما في قولك "كاين البنت لّي عمّرها ما تخرج من الدار" (ترجمة حرفية للعبارة الأمازيغية "تلا تفروخت أد جو ور يتّفوغن سغتڭمي". تعوض بها الدارجة عن عدم توفرها على إعراب Partitive الذي يسند إلى للأسماء التي تعمل فيها الأفعال الوجودية. 2 تراكيب الفواعل الإشارية كقولك: "را هو أنير فاين كيلعب" (ترجمة حرفية للتركيب الأمازيغي "هان أنير مانيخ ئتّهضار") تعوض بها الدارجة الاعراب الذي يسند للاسم الذي يكون في موقع الفاعل المشار إليه وهو في حال الفعل. 3 تراكيب التبئير المحمولي كقولك "أنير لّي كيلعب ماشي ختو" (ترجمة حرفية للتركيب الأمازيغي "أنير دا يتّهضارن أورد ولتما نس") تعوض به الدارجة عن إعراب الأسماء المبأرة. ولتوضيح استخدام الدارجة المغربية لتركيب الأمازيغية، يكفي أن نتأمل بشيء من التفصيل في تركيب جملة دارجية كاملة فنقارنها بتركيب الأمازيغية مقارنة تفصيلية. للتوضيح، اعتبر المثال التالي: ”راه شافو الدراري راسهوم فواحد المرايا“ لنحلل هذه الجملة التي جمعت فيها خصائص تركيبية متعددة من اليمين إلى اليسار. ”راه“ رأس وظيفية تعبر عن “الإثبات” وترتبط بلفظة إشارية أخرى وهي ”را هو“. مقابلها الأمازيغي السوسي هو ”هان“ التي تستعمل أيضا للإثبات ”هان زريخك“ (لقد رأيتك) والإشارة كليهما (هان أنير مني خ يتهضار). ولا وجود لمثل هذه الرأس الوظيفية الثنائية الإستعمال في العربية. وهذا ما يفسر وجود جمل الفواعل الإشارية في الدارجة والأمازيغية وعدم وجودها في العربية: هان أنير ماني خ يتهضار. راهو أنير فاين كيلعب. هاهو أنير أين يلعب. (جملة لاحنة في العربية). يتطابق الفعل ”شافو“ مع الفاعل في الشخص والجنس والعدد، ولا يتغير هذا التطابق إذا غير ترتيب الفعل والفاعل (الدراري شافو، شافو الدراري). ونفس القاعدة تنطبق على تطابق الفعل بالفاعل في الأمازيغية (دّان إفراخن، إفراخن دّان). أما الفعل في العربية فلا يتطابق مع الفعل إلا إذا تقدم الفاعل فكان مبتدأ (رأى الأولاد، الأولاد رأووا). تختلف اللغات عن بعضها البعض في أمور من بينها نوعية العوائد التي تستخدمها كل لغة. فالفرنسية تستعمل se والإنجليزية self والنرويجية sig والصينية zji واليابانية zibun والعربية ”نفس“ (كما في قولنا ”انتقد جمال نفسه“). أما الدارجة المغربية والأمازيغية فيجمع بينهما أنهما تستعملان ”الرأس“ في موقع العائد (فتقول: زريغ إخف إنو، شفت راسي). ويجمع بين هذين اللغتين أيضا أن كليهما يستعمل العائد في موقع الفاعل عندما يستعمل مع فعل “الإعجاب” (إعجبيي إخف إنو، عجبني راسي) مما لا يجوز في العربية: (لا نقول: أعجبتني نفسي). وقد درس صاحب هذا المقال ظهور العائد الانعكاسي الذي يستعمل لفظ "الرأس" فاكتشف من خلال دراسته لنصوص الملحون أن هذا اللفظ كان لا يستعمل حتى القرن السابع عشر سوى في الكناية ("يا راسي") وأن المتن المنسوب لعبد الرحمن المجذوب لم يستعمله سوى في سياق واحد يجمع المتخصصون في شعر المجذوب أنه سياق مقحم غير أصيل، وأن الدارجة المغربية كانت تستعمل عائد "الروح" الذي لايزال يستعمل في بعض المناطق في شرق المغرب. تستعمل الدارجة المغربية العدد “واحد” للتعبير عن التعريف فنقول (واحد الراجل، واحد تالاتة دالرجال، واحد ربعين مرا …)، وهذا عين ما تفعله الأمازيغية التي توظف العدد ”يان“ واحد) في التنكير: (يان ؤرڭاز، يان سين إرڭازن …). أما العربية فإنها لا تستعمل هذا الأسلوب التركيبي (فلا نقول: واحد ثلاثة رجال!). تستعمل الدارجة المغربية والأمازيغية كليهما ثلاثة أزمنة صرفية (بالإضافة إلى صيغة الأمر) وهي: الماضي والمضارع والمحايد: مثال الماضي: كلا/إشّا. مثال المضارع: كاياكل/أر إشتّا. مثال المحايد: ياكل/إشتّا. هذا النظام الثلاثي يميز الأمازيغية والدارجة المغربية بشكل واضح عن العربية. يتضح إذن أن ما سماه حميش بالمنهج "السنكروني التركيبي" ليس سوى ممارسة غير عالِمة للسانيات المقارنة من طرف مثقف كان من الأفضل له أن يركز جهده الأكاديمي على أمور تدخل في تخصصه الأكاديمي بدل أن يتطفل على علم لا يتقنه. خلاصة لقد سقط السيد حميش في مظنة العلم الباطل، فلم يحترم معايير التقييم في علوم اللسان، ولم يستعمل مناهجها في البحث والتحقيق، ليس فقط لأنه لا دُربة له في هذه العلوم ولا مراس ، بل أيضا لأنه يكره للدارجة المغربية أن تكون متأثرة بالكثير أوالقليل من الأمازيغية. حتى إن الرجل يصرح بأن الدارجة قد تأثرت بلغات بعيدة ك "الفارسية واليونانية واللاتينية والتركية والسريانية" (دون أن يعطي دليلا على ذلك)، بينما يتجنب أن يشير إلى تأثرها باللغة الأقرب، وهي الأمازيغية. فالمسألة، إذن، ليست مجرد خوض غير عالِم في شأن اللغات، بل هو أيضا نوع من الفوبيا الحضارية خوف مرضي من لغة وثقافة جديدة قادمة كالطوفان، بالنسبة لمن يكرهها، وكالفجر الجميل بالنسبة لمن يحبها.