سبق لي أن بينت في مقالين سابقين أن لاكتشاف إنسان "إيغود" نتائج على مستوى تصنيف اللغة الأمازيغية وتقدير علاقتها باللغات الأخرى، وأن بقايا الهومو ساپيان المتقدم (Early Homosapiens) تؤكد توفره على الخصائص التشريحية التي يحتاج إليها مستعمل اللغة، وأن التصنيف التقليدي للأمازيغية بصفتها لغة أفرو أسياوية أمر مطعون فيه، وأن التحليل الإيتيمولوجي للمفردات الأمازيغية ومقارنتها باللغات الأخرى يوحيان بأن الصورة الأصلية للأمازيغية هي طبقة لسانية دنيا Linguistic Substratum يمكن أن نكتشفها في أعماق معاجم لغات العالم باستعمال تقنيات "المنهجية المقارنة" في اللسانيات التاريخية وبهذا المعنى فإن اللغة الأمازيغية "شفرة سرية" تخترق لغات العالم. والآن سأبين بأن الخصائص الإحالية للضمائر pronouns والعوائد reflexives في اللغات الطبيعية تتميز بتعقد صرفي وتركيبي شديد لا يمكن فهمه وتفسيره (بما نفترض في التفسير من الأناقة النظرية والإقتصاد في التسليم بما لا يمكن تبريره) إلا إذا قمنا برده إلى أصله الأمازيغي. وبهذا المعنى فإن "الشفرة السرية" التي تخترق نظام الضمائر والعوائد وغيرها مما يحتاج إلى سوابق تعود عليها لتُتِمّ معناها هذه "الشفرة" هي نظام الضمائر في اللغة الأمازيغية الأصلية. ملاحظات منهجية وقبل أن أبين كيف تنتظم الأنظمة الضميرية الأمازيغية في قلب لغات العالم وتخترق تعقّداتها، ليسمح لي القارئ العزيز أن أذكره ببعض القواعد المنهجية التي تتحكم في تحليلنا وتوجهه. أول هذه القواعد قواعد "المنهجية المقارنة" الأربعة Comaparative Methodology التي شرحتها بشكل مقتضب في مقالي الثاني، فالمرجو العودة لها عند الحاجة. وثاني هذه القواعد هي قواعد يمكن أن يستهدي بها القارئ غير المتخصص في علوم اللسان الذي لا دُربة له في التحليل اللساني، أي تلك التوجيهات التي تحرّره فهمه للظاهرة اللغوية من التصورات العامّية حول طبيعة اللغات التي يؤمن بها عوامُّ الناس وجهّالهم وتنتشر بينهم بشكل كثيرا ما يعوق فهمهم للظاهرة اللغوية ومتعلقاتها. من هاته القواعد التي ينبغي احترامها ما يلي: 1 تجنّب التصورات الخاطئة (غير العلمية) التي تنتشر بين العوام كتلك التي يميزون بمقتضاها بين ما يسمونه "لهجة" وما يسمونه "لغة". فأول درس نقدمه لطلبتنا في أول سنة يدرسون فيها اللسانيات أن هذا التمييز السائد بين عوام الناس مبني على جهل بطبيعة اللغة. فالعلماء يعرفون اللغة بدلالة 13 خاصية تجتمع في اللغة ولا تجتمع في الأنظمة التواصلية الأخرى (كالتواصل الحيواني مثلا). من هذه الخصائص الثلاثة عشرة أن جميع اللغات بدون استثناء تتفرع إلى تنويعات تختلف عن بعضها البعض في على مستوى الصوت والمعجم والتركيب اختلافا هينا لا يمنع التواصل بين متكلمي التنويعات المختلفة إذا كان التفاعل بينهم دائما. لذلك فإن كل "لغة"، بهذا المعنى لهجة وكل "لهجة" لغة. الفرنسية لغة تتضمن تنويعات مختلفة (لهجات مختلفة تختلف بين شمال فرنسا وجنوبها)، ولكنها أيضا "لهجة" من لهجات اللاتينية تنضاف إليها لهجات أخرى كالإسپانية والبرتغالية وغيرهما من "اللغات الرومانسية"Romance languages. وقد يختار شعب من الشعوب لهجة من اللهجات فيقرروا استعمالها في التواصل الأكاديمي والقانوني والسياسي وغيره من السياقات "العالمة"، كما حدث مع البريطانيين الذين اختاروا لهجة لندن لتكون إنجليزية معيارية يتواصلون بها في السياقات العالمة. فلا يُنقِصُ من لهجة من اللهجات إذا مُعيِرت ولا يجعلها "لغة"، فلم تكن ما دون ذلك قبل أن تُمعير. ولا يزيد شيئا للغة إذا لم تُمعير ولا "ينزلها" إلى مستوى لهجة، فهي لم تكن فوق مستوى لهجة أصلا. لذلك فكل من يقول: "الأمازيغية" ليست لغة بل هي "مجرد لهجة" كأنما يقول: "أنا لست إنسانا" بل اسمي "عبد الرحمن" أو "فاطمة". وهذا جهل يظلم الإنسان به نفسه بحرمانه من صحيح العلم. 2 صحح اعتقادك بأن هناك لغات تخضع لقواعد وأخرى مرسلة على الألسن لا قواعد لها ، فليست هناك لغة لا تنضبط لقواعد نحوية معقدة. لكل لغة قواعد معقدة لا يكون المتكلم واعيا بها يستطيع أن يكشف عنها اللساني بعد أن يدرسها. يسمي العلماء هذه الخاصية بخاصية patterning و مقتضاها أن ا للغة، كيفما كانت هذه اللغة، تتضمن أنساقا (أنماطا نسقية) يمكن أن نعبر عنها بدلالة قواعد مجردة ومعقدة تنطبق على مستوى الصوت، وعلى مستوى بناء الكلمة، وعلى مستوى تركيب الجملة، وعلى مستوى استعمال الجمل في سياقات مخصوصة. فإذا لم يدرس اللساني قواعد لغة ما، فإن هذا لا يعني أن هذه القواعد غير موجودة، لأن مستعمل اللغة يستعملها بشكل غير واع وباستقلال تام عن وعي اللساني بها. فلا تلتفت إلى لغط الجهال ممن لا يزال يعتقد أن الأمازيغية أو الدارجة المغربية مجرد كلام مرسل لا تحكمه قواعد ولا ينضبط لقيود نحوية. هذا إمعان في العبث. وقد جمع صاحب هذا المقال هذه المغالطات السائدة بين غير المتخصصين وصنفها وأفرد لها كتابا باللغة الإنجليزية يصححها فيه بتفصيل غير قليل عنوانه Initiation to Language: A Moroccan Perspective . فليراجعه غير المتخصص ممن يرغب في إنماء وعيه اللغوي. الضمائر غير الشخصية لنتذكر أولا أن الأمازيغية تتوفر على نظامين من الضمائر. أولهما شخصي (لا يدل على الشخص بالتمييز بين المتكلم والمخاطب والغائب) يجمع سمات الشخص والجنس والعدد مثل نكّي ⵏⴽⴽⵉ تعني "أنا"، سنحلله بالتفصيل في الفقرة الثانية، وثانيهما غير شخصي (يميز بين المتكلم والمخاطب والغائب) يجمع سمتي الجنس والعدد بدون شخص مثل وا ⵡⴰ لنبدأ تحليلنا بتذكير القارئ الكريم ببعض خصائص مجموعة الضمائر غير الشخصية حيث نجد: 1- الضمير المفرد المذكر: وا ⵡⴰ (تنطق أيضا وو ⵡⵓ) 2- الضمير المفرد المؤنث: تا ⵜⴰ (تنطق أيضا تو ⵜⵓ)، 3- الضمير الجمع المذكر: وي ⵡⵉ ينطق أيضا وين ⵡⵉⵏ (وهو الذي تجده في لفظة النداء آهياوين ⴰⵀⵢⴰⵡⵉⵏ التي كان ناس الغيوان يتغنوين بها في إحدى أغانيهم الجميلة) 4- والضمير الجمع المؤنث ⵜⵉ : تي الذي ينطق أيضا ⵜⵉⵏ من خصائص هذه الضمائر أنك تجدها مدمجة في غيرها من البُنى لا تكاد تستقل بنفسها، كما في قولك وا لّي يدّان ⵡⴰⵍⵍⵉ ⵢⴷⴷⴰⵏ "ذاك الذي ذهب"، وتا لّي يدّان ⵜⴰⵍⵍⵉ ⵢⴷⴷⴰⵏ تلك التي ذهبت. بل إن هذه الضمائر تدمج دمجا في أسماء الإشارة فلم تعد تتميز عنها كما في غُّاد ⵖⵖⵡⴰⴷ "هذا" (تنطق بغين مدورة) و ختاد ⵅⵜⴰⴷ "هذه" (تنطق بخاء غير مدورة). فالأصل في غُّاد ⵅⵜⴰⴷ غ وا آد (التي معناها الحرفي: "في هذا الذي" حذفت واوها بعد أن دوّرت الغين ودُمج مد حرف الوصل فيها آد ⴰⴷ في مدّ الضمير وا ⵡⴰ)، والأصل في ختاد ⵅⵜⴰⴷغ تا آد (التي معناها الحرفي: "في هاته التي" هُمِست غينها تأثرا بتاء الضمير تا ⵜⴰ المهموسة ودُمج مد حرف الوصل فيها آد ⴰⴷ في مدّ الضمير تا ⵜⴰ. من مظاهر قدم هذه الضمائر التي بينها اللساني النمساوي الهنغاري ويرنر ڤيسيشل (في مقال له سنة 1957 عنوانه "أداة التعريف في الأمازيغية") أنها أدمجت في الأسماء حتى صارت أدوات تعريف. من ذلك قولك أفوناس ⴰⴼⵓⵏⴰⵙ أصلها وافوناس ⵡⴰⴼⵓⵏⴰⵙ (أداة التعريف فيها الضمير وا ⵡⴰ)، وتافوناست (تدل تا ⵜⴰ على المفرد المؤنث فيها، وهي عين الضمير المفرد المؤنث)، وئيفوناسن ⵉⴼⵓⵏⴰⵙⴻⵏأصلها ويفوناسن ⵡⴰⴼⵓⵏⴰⵙⴻⵏ (أداة التعريف فيها الضمير وي ⵡⵉ)، وتيفوناسين ⵜⵉⴼⵓⵏⴰⵙⵉⵏ (تدل تي ⵜⵉ فيها على الجمع المؤنث، وهي عين الضمير الجمع المؤنث). ومن الأدلة القوية على حدوث هذا الإدماج أن هناك بعضا من الأسماء الأمازيغية لا زالت تحتفظ بالضمير كاملا كما في واڭرزام ⵡⴰⴳⵔⵣⴰⵎ "الفهد" (تنطق أيضا أڭرزام ⴰⴳⵔⵣⴰⵎ) و ويتريكن ⵡⵜⵔⵉⴽⴻⵏ "نوع من العشب" (لم تحذف واو ضمير الجمع المذكر فيها. من أمارات القدم أيضا في هذه الضمائر أنها إشارية deictic بمعنى أنها لا تدل على معنى مجرد بل تحيل على أشخاص كما تحيل أسماء الإشارة على مواضيعها في سياقات معلومة. ومعلوم أن الإشارة أسبق زمنيا من المعاني المجردة وألصق منها بمقام الكلام الذي لا يُتَصوّر أن يبتعد عنه عقل الإنسان البدائي الأول بعميق التجريد وبعيده. من اللغات التي احتفظت بجزء من هذا النظام الضميري لغة "البداوي" أو "تابداوي" Beja التي يتحدث بها حوالي مليوني شخص في الساحل الغربي للبحر الأبيض المتوسط حيث تستعمل هذه الضمائر أدوات تعريف شكلها كما يلي: وو ... (بواو ممدوة): المفرد المذكر تو ... (بواو ممدودة): المفرد المؤنث يا ... (بألف ممدودة): الجمع المذكر تا ... (بألف ممدودة): الجمع المؤنث فقد اكتسبت هذه الأدوات مَدّها من علامات إعراب الفاعل في لغة البداوي وهو ما حرف نطقها عن أصله في الأمازيغية. ومما يدل على أن أصلها قديم يوجد في غير هذه اللغة (أي في الأمازيغية) أن البداوي تستعملها بصورتها الضعيفة (أدوات التعريف) ولا تستعملها بصفتها القوية (الضمائر الإشارية). واحتفظت اللغة الهندو أوروپية القديمة بضمير واحد من هذا النظام وهو وا ⵡⴰ، ألحقت به سينا فصار "سوا". فتحول هذا الضمير إلى "هڤا" في الهندية القديمة، و"هو" في اللغات السامية، و"سوڤاس" في اللاتينية القديمة التي منها الضمير غير الشخصي soi في اللغة الفرنسية (معجم اللغات الأوروپية الأسياوية). إلا أن هذه اللغات فقدت الجزء الأكبر من هذا النظام الضميري غير الشخصي أو أدمجتها في نظام ضميري شخصي. فتتميز الأمازيغية عليها كلها باحتفاظها بنظامين كاملين متمايزين: الشخصي وغير الشخصي. الضمائر الشخصية لنبدأ أولا بالضمير الدال على المفرد المتكلم الحامل لإعراب الرفع (الفاعل) المقدر الذي يُعبَّر عنه ب"أنا" في العربية وب I في الإنجليزية وب je في الفرنسية. فلو تأملت في هذه الألفاظ في ذاتها لما وجدت شيئا تشترك فيه يدلُّ على وحدة أصلها التاريخي. لكنك بمجرد أن تفحص ما يحمل نفس دلالة هذه الألفاظ في الأمازيغية، وبمجرد أن تحفر بمعول البحث اللساني التاريخي في تاريخ الألفاظ غير الأمازيغية، ستبدأ مظاهر التنوع والإختلاف اللفظي في التساقط واحدة تلو الأخرى إلى أن يبقى اللفظ الأمازيغي ثابتا في أعماق الكَلِمِ تنتظم حوله كل ألفاظ اللغات الأخرى كما ينتظم العقيق حول واسطة العِقد. وفي ما يلى شرح لدعواي بشيء من التفصيل أتمنى أن يكون كافيا. اللفظ الدال على ضمير المتكلم المفرد الحامل لإعراب الرفع المقدر في الأمازيغية هو نك ⵏⴻⴽ يفصل بين النون والكاف فيها صائت مشموم. ينطق هذا الضمير في تنويعة غدامس نش ⵏⴻⵛ ونشّان ⵏⴻⵛⵛⴰⵏ وعند المزابيين نشّ ⵏⴻⵛⵛⴰⵏ بتشديد الشين، ونشّي ⵏⵛⵛⵉ و نشّين ⵏⵛⵛⵉⵏ أما أما في اللغات السامية فنجد "أن" في الأوغارتية و "آني" في العبرية، و"أنا" في الإثيوپية تنطق بألف يسحب فيها اللسان إلى الخلف. لكننا عندما نفحص لغات سامية أخرى، نكتشف أن هذا الضمير ينتهي بكاف كما في الأمازيغية. فنجد بأن الضمير ينطق "أناكو" في الأكادية، و "أنك" في الأوغارتية تُتبع فيه الهمزة بفتحة، و "أنك" في الفينيقية لا صائت فيها بعد الهمزة، مما يعني أن الكاف جزء من الضمير في اللغة السامية الأصلية. لذلك يقدر العلماء أن الأصل في نطق الضمير في اللغات السامية هو ʔan-akV (يدل فيه الرمز V على صائت لم يجمع العلماء على طبيعته). وإذا قارنا هذا الأصل بالضمير الأمازيغي نجد أنه مشابه له في الإحتواء على النون والكاف nk كليهما. ماذا عن اللغات الهندو أروپية التي جاءت منها الإنجليزية؟ تخبرنا قواعد المعطيات المختصة بهذه العائلة اللغوية أن الأصل في I الإنجليزية هي ic الصوت الأخير فيها شبيه بالشين، والأصل في هذا اللفظ هو التعبير الهندو أروپي الأصلي eg تنطق uk و ug في الحيثية، و es في الأرمينية، و ego في اليونانية (منها التعبير المعروف egoism)، كلها لغات هندو أروپية. إذا كان اللفظ الهندو أوروپي eg مشتقا من اللفظ الأمازيغي نك ⵏⴻⴽ فينبغي أن نثبت أن النون أصلية في اللفظ الهندو أوروپي ولكنها اختفت في التطور التاريخي للفظة. المفاجأة المثيرة هي أن هناك دليلا ماديا قاطعا على أن النون كانت جزءا من اللفظ الهندو أروپي ثم اختفت. كيف نعرف ذلك؟ في بداية القرن العشرين، اكتشف علماء اللسان مخطوطات تعود إلى ما بين القرنين السادس والثامن بعد الميلاد مكتوبة باللغة التوكارية الأولى، وهي لغة هندو أوروپية منقرضة كان يتحدث بها سكان شمال غرب الصين. وبتحليل مباني هذه اللغة ومعانيها استطاع العلماء أن يغيروا بعضا من فهمهم للغة الهندو أوروپية وأن يعمّقوا بعضا آخر، مما مكن لسانيا أمريكيا اسمه دوڭلاس كوينتين آدمس من جمع معجم لنسخة متأخرة لهذه اللغة يتألف من ألف صفحة تقريبا. و بعودتنا إلى هذا المعجم المهم وجدنا أن اللفظ الدال على ضمير المتكلم في اللغة التوكارتية هو näs تبتدأ بالنون متبوعة بالمقطع äs الذي نجده في اللغات الهندو أوروپية الأخرى (يشبهه es في الأرمينية مثلا). مما يعني أن النون ليست دخيلة على الهندو أروپية، بل كانت موجودة ثم اختفت. ومما يزيد في تأكيد هذه النتيجة أن لهذا الضمير في التوركاتية مقابلا مؤنثا هو nuk يتطابق مع الأصل الأمازيغي في النون والكاف كليهما. الأصل في ما يعبر عن ضمير المفرد المتكلم المذكر الحامل للإعراب الفاعلية المقدر هو نك ⵏⴻⴽ الأمازيغي لنبحث الآن في صيغة الجمع للضمير الدال على المتكلم المرفوع (أي الذي يستعمل ضميرا مستقلا حاملا لوظيفة الفاعل). الفائدة التي سنحصل عليها بدراسة البناء الصرفي لصيغة الجمع هو أن هذه الدراسة ستكشف لنا عن الكيفية التي جمعت بها الأمازيغية بين الضمائر الشخصية مثل نك ⵏⴽ والضمائر غير الشخصية (التي بينا بعض خصائصها في ما سبق من هذا المقال مثل وا ⵡⴰ في المفرد و وين ⵡⵉⵏ في الجمع) في صورة واحدة. صيغة الجمع في ضمير المتكلم المبني على الفاعلية نكّني ⵏⴻⴽⴽⵡⵏⵉ بكاف مدورة (في الأمازيغية السوسية والقبايلية وتنويعات أخرى أيضا)، تنطق الكاف فيها أحيانا مخففة نكني ⵏⴻⴽⵡⵏⵉ كما في في تنويعة الأطلس المتوسط بالمغرب. ويختفي التدوير في بعض التنويعات كما في تنويعة غدامس نكّنين ⵏⴻⴽⴽⵏⵉⵏ لا تدوير في كافها، وتنويعة مزاب نشنين ⵏⴻⵛⵏⵉⵏ لا تدوير في شينها. فمن أين جاء تدوير الكاف في بعض التنويعات؟ لاحظ أن صيغة الجمع نكّني ⵏⴻⴽⴽⵡⵏⵉ تتكون من جزأين، أولهما ما يدل على الشخص وهو ما تشترك فيه مع صورة المفرد نك ⵏⴽ أي الصوتان ن ⵏ وك ⴽ، ثم ني ⵏⵉ فماذا تضيف ني ⵏⵉ هاته؟ هناك مؤشران اثنان يدلاننا على معنى اللاحقة ني ⵏⵉ أولهما أن صيغة المؤنث هو نكّنتي ⵏⴻⴽⴽⵡⵏⵉ (في السوسية والقبايلية وغيرهما)، تنطق نكّانيتيض ⵏⴽⴽⴰⵏⵉⵜⵉⴹ في التوارڭية، حيث يستعمل جمع الضمير المؤنث غير الشخص تي ⵜⵉ الذي ذكرناه قبلا. والمؤشر الثاني هو تدوير الكاف الذي تحدثنا عنه، علما بأن التذكير دليل على وجود واو ⵡ حُذفت (كما تقول في الدارجة المغربية "فّْيّْر" ابستدارة الشفتين لتصغير "فار" نتيجة الوجود القبلي للواو بعد الفاء: "فْوِيّر"). نستنتج من هذين المؤشرين أن صيغة الجمع المذكر نكّني ⵏⴽⴽⵡⵏⵉ تحتوي على واو محذوفة هي نفسها وين ⵡⵉⵏ الضمير غير الشخصي الدال على الجمعّ المذكر الذي أشرنا إليه سابقا. فيكون أصل نكّني ⵏⴽⴽⵡⵏⵉ هو نك وين ي ⵏⴽ - ⵡⵉⵏ - ⵉ تعوض فيه وين ⵡⵉⵏ ب تين ⵜⵉⵏ في حالة التأنيث (نكّنتي ⵏⴽⴽⵡⴻⵏⵜⵉ)، وعندما يحذف واو الضمير غير الشخصي وين ⵡⵉⵏ يترك وراءه علامة على وجوده القبلي وهو استدارة الكاف تأثرا بالواو المدورة. يترتب عن هذا التحليل أن الأصل في نكّني ⵏⴻⴽⴽⵡⵏⵉ هو نك وين ي ⵏⴽ - ⵡⵉⵏ - ⵉ يدل فيها نك ⵏⴽ على قيمة الشخص ( أي المتكلم)، ويدل فيها وين ⵡⵉⵏ على العدد والجنس (أي الجمع المذكر)، فحذفت واو ⵡ وين ⵡⵉⵏ وياؤها ⵉ إذ أُدغمت الواو في الكاف يجمع بينهما علو الجزء الخلفي للسان عند النطق بهما، وتَرَكَت إحدى سماتها في الكاف، أي الإستدارة. أما اللاحقة ي ⵉ فالراجح أنها علامة إعراب الفاعل في الضمير ينطق ي ⵉ (كما في السوسية والقبايلية وغيرهما)، و ئيض ⵉⴹ (كما في التوارڭية التي تضيف ض ⴹ للاحقة). فتكون البنية الصرفية (المورفولوجية) المجردة لهذا الضمير هي: الشخص الجنس/العدد إعراب الرفع. هذا عن الأمازيغية. فماذا عن اللغات الأخرى؟ مقابل لفظ "نحن" في الإنجليزية we لا تختلف صورته في الإنجليزية القديمة عن صورته المعاصرة إلا في مدّ الصائت: wē و في الجرمانية الأصلية wiz، وفي الهولندية wij، وفي النرويجية vi وعندما نفحص صورة اللفظ في لغات أعرق نجد بأن الواو المستعمل في اللفظ الهندو أوروپي we كان كافا أو ڭافا أو خاء مخففة يجمع بين هذه الأصوات أنها تُنطق برفع الجزء العلوي للسان. من هذا ما أثبته صاحب المعجم الجامع (Nostratic Dictionary ، آرون دولڭوپولسكي، أنظر المادتين 19 و580) من أن الأصل الأوروپي الأسياوي لهذا اللفظ هو ʔVkV أو ʔVgV تتوسطه الكاف أو الڭاف، ينطق كافا في العائلة الألتية (التي تجمع اللغات التركية والمنغولية وغيرهما)، وتنطق في القوقازية الجنوبية ڭافا مدورة، وتنطق في التشوكتشي (في أقصى الشمال الشرقي لسيبيريا) ڭافا متبوعة بصائت مشموم. أقدم لفظ يدل على معنى "نحن" يتضمن كافا كما في الأمازيغية. فماذا عن الإستدارة التي نجدها في هذه اللغة؟ هل هناك ما يشهد لوجودها في اللغات الأخرى؟ تثبت الشواهد اللسانية المتوفرة أن الكاف كانت مدورة أو متبوعة بصوت مدور في لغات عديدة من بينها التشادية التي تنطق فيها gw بڭاف مدورة أصلها في اللغات الأفرو أسياوية aku (معجم Nostratic Dictionary المادة 19)، وتنطق kVw متبوعة بصائت نجهله ثم واو في اللغات الأوسترية (التي تجمع لغات عديدة في شرق الهند، والتايلاند وجزر المحيط الپاسيفي، وأخرى كثيرة)، وينطق في القوقازية الجنوبية ڭافا مدورة، وفي الأصل الأفرو آسياوي aku (المادة 19 في Nostratic Dictionary). لكن ماذا عن النون التي نجدها في بداية اللفظ الأمازيغي نكّني ⵏⴻⴽⴽⵡⵏⵉ؟ هل له ما يشهد له في تاريخ اللغات؟ نجد له شاهدين على الأقل أولهما في اللغات السامية حيث نجد naħnu في اللغتين المانية والعربية، ونجد neħna في الإثيوپية، و anini في الأشورية البابلية، و enaħnan في الآرامية (Welfinson, Israel: The History of Semitic Language). فكل هذه الألفاظ إما أنها تبتدأ بنون وإما أن نونها يتبع صائتا يقع في صدر الكلمة. الشاهد الثاني على الوجود القديم للنون في اللفظ الدال على "نحن" في الأمازيغية نجده في العائلة اللغوية الصينية القوقازية وهو na-xwa يجمع بين النون في بداية الكلمة، وخاء مخففة لها نفس مخرج الصوت الذي للكاف، والإستدارة. فهي بذلك تشهد لأصالة معظم الخصائص الصوتية للفظ الأمازيغي. نستنتج من كل ما سبق أن الصيغة المجردة للضمير الأمازيغي الدال على المتكلم المفرد المذكر هي نك ⵏⴽ تضيف إليها صيغة الجمع للضمير غير الشخصي الدال على الجمع المذكر وين ⵡⵉⵏ ، وإعراب الفاعلية i أو يض ⵉⴹ. فاحتفظت اللغات الأخرى بكاف اللفظ الأمازيغي، وبكافه ونونه، أو بكافه ونونه واستدارة كافه الناتجة عن إدغام الضمير غير الشخصي في كافه، رغم أن معظم هذه اللغات فقدت الضمير غير الشخصي وين ⵡⵉⵏ. الضمائر المنعكسة (العائدة) لنتوجه الآن إلى تحليل الضمائر العائدة مثل himself في الإنجليزية و "نفسه" في العربية و soi في الفرنسية. أول لساني درس هذه الضمائر العائدية بتفصيل هو ليونارد فالتز في رسالة دوكتوراه ناقشها عام 1977 في شعبة اللسانيات بجامعة بركلي عنوانها Reflexivization: a study in universal syntax. صنف فالتز أنواع الضمائر العائدية في اللغات الإنسانية بحسب صورتها الصرفية. فمنها ما سماه بالعوائد الرأسية وهي تلك العوائد التي تتكون من لفظة واحدة (لا من مضاف ومضاف إليه كما فالعربية: "نفسه") لا تحمل سمات الشخص والجنس والعدد، ك zibun في اليابانية، و apnā في الهندية. منها أيضا العوائد المنعوتة حيث يتكون لفظ الضمير العائدي من ضمير منعوت ك féin في الإرلندية الذي تنعت الضمائر في الإرلندية فيتحول النعت والمنعوت إلى ضمير عائدي. ومقابل هذا النعت في الإنجليزية القديمة هو selfy الذي منه الضمائر himself و myself وما جانسهما. من أنواع الضمائر العائدية أيضا تلك التي تتكون من مضاف، عادة ما يدل في أصله على جزء من الجسد أو النفس أو الروح، ومضاف إليه ضميري، منها "نفسه" في العربية، و acmo في العبرية (تعني حرفيا "عظمه") و ئخف نس ⵉⵅⴼ في الأمازيغية (تعني حرفيا "رأسه") و "راسو" في الدارجة المغربية (كقولك: "شاف راسو فالمرايا" أي "رأى نفسه في المرآة"). فمن أين يأتي هذا التعدد وكيف نفسره؟ لنسجل أولا أن اللسانيين (منهم فالتز وهوانڭ وهورنشتاين، وغيرهم كثيرون) لاحظوا أن هذه الضمائر العائدية رغم تعددها المشهود فإنها تنقسم على العموم إلى نوعين كبيرين. أولهما تلك التي لا تعود إلا على اسم داخل نفس الجملة التي يوجد فيها العائد. وتلك التي يجوز أن تعود على فاعل خارج الجملة التي يوجد فيها العائد. من النوع الأول:"نفسه" في العربية، فتقول: "أخبرني زيد أن عمروا رأى نفسه في المرآة"، لا يستقيم المعنى إذا قصدت أن "نفسه" تعود على "زيد"، فلا تعود بالضرورة إلا على "عمرو". نفس الشيء ينطبق على ئخف ⵉⵅⴼ في الأمازيغية، و Himself في الإنجليزية، و acmo في العبرية، وكل العوائد المركبة من مضاف ومضاف إليه. ومن النوع الثاني ziji في الصينية هي مفردة غير مركبة ك zibun في اليابانية و apnā في الهندية. فعندما تقول باللغة الصينية Zhangsan renwei Lisi zhidao Wangwu xihuan ziji معناها "ظن زانڭسان أن ليسي يعلم أن وانڭوو يحب نفسه"، فإن "نفسه" في هذه اللغة (وهي ziji) يجوز أن تعود على "زانڭان"، فاعل الجملة الرئيسية، أو "ليسي"، فاعل الجملة المدمجة الوسطى، أو "وانڭو"، فاعل الجملة الدنيا. وبهذا فإن هذه الجملة الصينية ملتبسة بين ثلاثة تأويلات ممكنة. القاعدة إذن أنه إذا كان العائد مركبا ومكونا من مضاف وضمير مضاف إليه، فإن الإسم الذي يعود عليه الضمير يكون محليا (أي ينتمي إلى نفس الجملة التي ينتمي إليها العائد)، أما إذا كان بسيطا (أي غير مركب)، فيجوز أن يعود على فاعل بعيد غير محلي (أي خارج الجملة التي ينتمي إليها العائد). لنقل، باختصار، العائد المركب ينتقي محالا عليه قريبا، والعائد البسيط ينتقي محالا عليه بعيدا. فما سر هذا الفرق؟ سأبين لك في ما يلي أن السر في ذلك يوجد في الأمازيغية، "الشفرة السرية" التي تخترق لغات العالم. لتوضيح الصورة، لنتذكر بأن في الأمازيغية نوعين من الضمائر، أولها غير شخصي ك وا ⵡⴰ (فهو مفرد مذكر لا يدل على الشخص)، وثانيهما شخصي ك نكّي ⵏⴽⴽⵉ (فهو مفرد مذكر متكلم). لاحظ كثير من اللسانيين أن اللغات لا تتوفر على ضمائر عائدية في أحوالها القديمة، لذلك فكل لغة تصوغ استراتيجيتها الخاصة للتعبير عن فكرة العائدية. فلماذا لم تستخدم الأمازيغية أحد أنواع الضمائر للتعبير عن العائدية بدل العائد المحدث ئخف نس ⵉⵅⴼ ⵏⵏⴻⵙ (ئمان نس ⵉⵎⴰⵏ ⵏⵏⴻⵙ "روحه" في بعض اللهجات)؟ لنفترض مثلا أن الإنجليزية عبرت عن فكرة العائدية باستعمال الضمائر فنقول: John saw him in the mirror. حيث يعود الضمير him على John. مستعملين him بدل الضمير العائد himself.المشكلة في هذا التركيب أنه يبني "سلسلة" chain (أي تعالقا تركيبيا) مكونا من اسم (وهو John) و ضمير (وهو him). والقاعدة الجامعة التي اكتشفها اللسانيون أن اللغات الطبيعية لا تسمح بسلسلة (تعالق تركيبي) مكون من اسمين متمايزين يحملان دورين دلاليين مختلفين كما في الجملة الإنجليزية السابقة حيث "جون" هو الرائي والمرئي في نفس الوقت. لذلك فإن اللغات الطبيعية لجأت إلى استراتيجيات مختلفة تتفادى بها خرق هذه القاعدة. من هذه الإستراتيجيات أن بعض اللغات اختارت أن تستخدم الضمير الأمازيغي غير الشخصي وا ⵡⴰ الذي لا يدل على الشخص، حتى تمنع تعلقه بالإسم المُحال عليه الدال على الشخص، مما يكسر السلسلة ويمنع خرق القاعدة (والقاعدة هي استحالة وجود سلسلة باسمين متمايزين يحملان دورين دلاليين مختلفين). فعندما نحلل اللفظ self المستعمل في الإنجليزية مثلا نجد أنه مشتق من النعت selfy الذي يتكون من جزئين أولهما se وهي مشتقة من اللفظة الهندو أروپية sewe التي تقابلها في الفرنسية soi هو ضمير مفرد مذكر غير شخصي مثل نظيره وا ⵡⴰ في الأمازيغية. وثانيهما bho ينطق بباء تنفسية معناها "ثانيا" أو "مضاعفا". فأصل self الإنجليزية في الهندو أوروپية إذن هو sel-bho معناه "هو أيضا". ونجد أصلا للفظة bho في الأمازيغية هي المادة بّي by (المادة 64 في معجم حدادو) تفيد معنى "قطع" (ئبّي ⵉⴱⴱⵉ)، و"المحصول" (أبّاي ⴰⴱⴱⴰⵢ) في الأمازيغية الشاوية، وتيبويت ⵜⴻⴱⵓⵢⵜ هو البرعم الذي يتفرع عن شجرة (في الأمازيغية التوارڭية)، وفعل سيبّويي ⵙⵉⴱⴱⵓⵢⵢⵉ (في الأمازيغية التوارڭية أيضا)، فالجامع بين كل هذا المعاني هو "المضاعَفة" و"إعادة إنتاج الشيء". لذلك نجد أن self الإنجليزية كانت تنطق silba في القوطية و selbaz في الجرمانية الأصلية، و sel-bho في الهندو أروپية الأصلية. الشواهد على وجود الضمير غير الشخصي وا ⵡⴰ في الإنجليزية كثيرة منها أنه وجد بلفظ في بعض أدوات الإستفهام ك which التي أصلها في الجرمانية الأصلية hwa - lik معناها "هو بجسده". ومن sewe الهندو أروپية جاءت suus اللاتينية، و savs اللاتڤية، و svoy الروسية، كلها لغات هندو أوروپية، و zibun اليابانية. وهكذا فإن الصورة العامة التي تتحصل عندنا هي أن لغات العالم انقسمت إلى نوعين: تلك التي احتفظت بالضمير غير الشخصي وا ⵡⴰ واستعملته ضميرا عائديا، وتلك التي أضافت إليه ما يدل على "المضاعفة"، أي الأداة بو bho، فأضافت الحاصل إلى ضمير شخصي يعود على فاعل الجملة. مثال النوع الأول الإنجليزية التي حولت selfy إلى إسم يضاف إلى الضمير في himself وما يجانسها، ومثال الثانية الصينية التي استعملت ziji، واليابانية التي استعملت zibun والهولندية التي استعملت zich فالجامع بين هذه اللغات الثلاثة وغيرها من اللغات التي استعملت نفس الإستراتيجية أنها لم تضف إلى ضميرها الشخصي أي ضمير، مما مكنها من تجويز عودة العائد على فاعل خارج الجملة إذ لا يشترط قصر المسافة إلا إذا كان الضمير المحيل يشكل سلسلة يتعالق بها مع المحال عليه (يسمي علماء التركيب هذا الشرط ب"قيد الرابط الأدنى" minimal link condition). بينما لا يُجوّز النوع الأول من اللغات للضمير العائد أن يعود على فاعل بعيد لأن الضمير الذي يضاف إليه هذا العائد يحتوي على سمة الشخص التي تفرض تعلقه بالمحال عليه في إطار سلسلة مقيدة ب"قيد الرابط الأدنى". خلاصة الضمائر الأمازيغية طبقة لسانية دنيا linguistic substratum تخترق خصائصها الصوتية والتركيبية كل التفاصيل التي نعرفها عن الضمائر في اللغات الأخرى. لذلك فلا مناص من الإقرار بأن الأمازيغية هي أم لغات العالم "شفرةٌ لسانيةٌ سرية" تخترق أدق تفاصيل اللغات وجزئياتها.