دروس وعِبر للمستقبل.. الكراوي يقارب 250 سنة من السلام بين المغرب والبرتغال‬    أخنوش: فقدنا 161 ألف منصب شغل في الفلاحة وإذا جاءت الأمطار سيعود الناس لشغلهم    طنجة.. توقيف شخص بحي بنكيران وبحوزته كمية من الأقراص المهلوسة والكوكايين والشيرا    عمره 15 ألف سنة :اكتشاف أقدم استعمال "طبي" للأعشاب في العالم بمغارة الحمام بتافوغالت(المغرب الشرقي)    "المعلم" تتخطى مليار مشاهدة.. وسعد لمجرد يحتفل        الإسبان يتألقون في سباق "أوروبا – إفريقيا ترايل" بكابونيغرو والمغاربة ينافسون بقوة    انعقاد مجلس الحكومة يوم الخميس المقبل    أخنوش: حجم الواردات مستقر نسبيا بقيمة 554 مليار درهم    الجديدة.. ضبط شاحنة محملة بالحشيش وزورق مطاطي وإيقاف 10 مشتبه بهم    استطلاع رأي: ترامب يقلص الفارق مع هاريس    هلال يدعو دي ميستورا لالتزام الحزم ويذكره بصلاحياته التي ليس من بينها تقييم دور الأمم المتحدة    النجم المغربي الشاب آدم أزنو يسطع في سماء البوندسليغا مع بايرن ميونيخ    أطباء القطاع العام يخوضون إضرابا وطنيا الخميس والجمعة المقبلين    حصيلة القتلى في لبنان تتجاوز ثلاثة آلاف    سعر صرف الدرهم ينخفض مقابل الأورو    البحرية الملكية تحرر طاقم سفينة شحن من "حراكة"    استنفار أمني بعد اكتشاف أوراق مالية مزورة داخل بنك المغرب    الجفاف يواصل رفع معدلات البطالة ويجهز على 124 ألف منصب شغل بالمغرب    المعارضة تطالب ب "برنامج حكومي تعديلي" وتنتقد اتفاقيات التبادل الحر    «بابو» المبروك للكاتب فيصل عبد الحسن    تعليق حركة السكك الحديدية في برشلونة بسبب الأمطار    في ظل بوادر انفراج الأزمة.. آباء طلبة الطب يدعون أبناءهم لقبول عرض الوزارة الجديد    إعصار "دانا" يضرب برشلونة.. والسلطات الإسبانية تُفعِّل الرمز الأحمر    الجولة التاسعة من الدوري الاحترافي الأول : الجيش الملكي ينفرد بالوصافة والوداد يصحح أوضاعه    رحيل أسطورة الموسيقى كوينسي جونز عن 91 عاماً    مريم كرودي تنشر تجربتها في تأطير الأطفال شعراً    في مديح الرحيل وذمه أسمهان عمور تكتب «نكاية في الألم»    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الثلاثاء    مصرع سيدة وإصابة آخرين في انفجار قنينة غاز بتطوان    عادل باقيلي يستقيل من منصبه كمسؤول عن الفريق الأول للرجاء    الذكرى 49 للمسيرة الخضراء.. تجسيد لأروع صور التلاحم بين العرش العلوي والشعب المغربي لاستكمال الاستقلال الوطني وتحقيق الوحدة الترابية    أمرابط يمنح هدف الفوز لفنربخشة        متوسط آجال الأداء لدى المؤسسات والمقاولات العمومية بلغ 36,9 يوما    "العشرية السوداء" تتوج داود في فرنسا    إبراهيم دياز.. الحفاوة التي استقبلت بها في وجدة تركت في نفسي أثرا عميقا    بالصور.. مغاربة يتضامنون مع ضحايا فيضانات فالينسيا الإسبانية    أطباء العيون مغاربة يبتكرون تقنية جراحية جديدة    مدرب غلطة سراي يسقط زياش من قائمة الفريق ويبعده عن جميع المباريات    عبد الله البقالي يكتب حديث اليوم    تقرير: سوق الشغل بالمغرب يسجل تراجعاً في معدل البطالة    "فينوم: الرقصة الأخيرة" يواصل تصدر شباك التذاكر        فوضى ‬عارمة ‬بسوق ‬المحروقات ‬في ‬المغرب..    ارتفاع أسعار النفط بعد تأجيل "أوبك بلس" زيادة الإنتاج    استعدادات أمنية غير مسبوقة للانتخابات الأمريكية.. بين الحماية والمخاوف    الكاتب الإسرائيلي جدعون ليفي: للفلسطينيين الحق في النضال على حقوقهم وحريتهم.. وأي نضال أعدل من نضالهم ضد الاحتلال؟    عبد الرحيم التوراني يكتب من بيروت: لا تعترف بالحريق الذي في داخلك.. ابتسم وقل إنها حفلة شواء    الجينات سبب رئيسي لمرض النقرس (دراسة)        خلال أسبوع واحد.. تسجيل أزيد من 2700 حالة إصابة و34 وفاة بجدري القردة في إفريقيا    إطلاق الحملة الوطنية للمراجعة واستدراك تلقيح الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 18 سنة بإقليم الجديدة    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    وهي جنازة رجل ...    أسماء بنات من القران    نداء للمحسنين للمساهمة في استكمال بناء مسجد ثاغزوت جماعة إحدادن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ظاهرة الاحتجاج .. نبذ "العصا والجزرة" وضرورة العقلنة السياسية
نشر في هسبريس يوم 28 - 06 - 2017


(مساهمة في نقض الشعبوية وتأسيس العقلنة السياسية)
في سياق احتجاجات الريف أتحدث.. !!
لقد أمست الاحتجاجات غير النظامية وفي الشوارع طقسا يوميا في الكثير من المناطق والمواقع الرمزية في المملكة، ربما قد تَخِف وتيرتها في بعض اللحظات والظروف لكنها لا تموت، إذ سرعان ما تعود للظهور وبشكل أقوى، كما أمست الطريق الأقصر والأيسر لتحقيق المطالب والتطلعات العامة والخاصة بعد انسداد القنوات الطبيعية أو اختناقها، وأمست في كثير من الوقائع والحالات كما تشهد على ذلك الكثير من الوقائع وسيلة الاتصال الرئيسة والفعالة بين الدولة والشعب، فهل وجود ظاهرة الاحتجاج وتنامي وتيرتها واتساعها علامة صحية، ودليل عافية في الوطن، أم هي مؤشر أولي على اختلال في النظام؟ هل هذا النوع من الاحتجاجات قوة دفع تقدمية في الظروف والأوضاع التي يعيشها المغرب أم بالعكس هي قوة رجعية تجر للوراء؟ ثم – أيضا – ما هي دلالاتها السياسية والإستراتيجية؟ وهل من سبيل لتجاوزها أو الإفادة منها كطاقة إيجابية؟.
إن تحليل ظاهرة الاحتجاج، والبحث في دلالتها السياسية، وربط كل ذلك بدقة المرحلة التي تجتازها المملكة اقتصاديا وسياسيا أمر مهم، بل بالغ الأهمية، فالمملكة المغربية تعيش لحظة فارقة في مسارها، لا تمنحها الحق في الخطأ. والمسؤولية السياسية والثقافية تقتضي - والحالة هاته– عدم الاستسلام للانفعالات العاطفية التي تتعلق غالبا بالدوافع المشروعة لأمثلة الاحتجاج وتغفل جملة عن تقدير وتقييم آثاره وانعكاساته خيرها وشرها، فالاحتجاج بلغة أهل المقاصد قد يكون مباحا ومطلوبا بالجزء مرفوضا بالكل.
لا نريد من خلال هذا «الرأي» الحكم على الظاهرة الاحتجاجية سلبا أو إيجابا، وتوجيه رسائل مبطنة للمحتجين والدولة، فهذا العمل/الحكم قليل الفائدة إذا ما قارناه بالبحث فيما يكمن وراءها من معان ونذر، وما يتوجب فعله إنقاذا للمستقبل. أو بعبارة أخرى هذا الرأي يروم الفهم أكثر من الحكم والتقييم، وسنحاول في الأسطر التالية القيام ببعض من هذا.
الاحتجاج والفساد وسوء الفهم الكبير
إن ظاهرة الاحتجاج في جوهرها تعبير عن توتر العلاقة بين الجمهور والدولة، أو بعبارة مخففة شكل متشنجٌ من التواصل بين الطرفين، فالوضع الحرج الذي تعاني منه الدولة في وطننا العربي، والذي تعكس بعضه ظاهرة الاحتجاج هو نتيجة مباشرة للمآل الذي آلت إليه جهود بناء الدولة القطرية الحديثة بالبلاد العربية، فالاحتجاج غير النظامي على الدولة ومحاكماتها المفتوحة واللامتناهية تصدر بالأساس عن جيل من الساكنة جديدة، لم تتعرف على الدولة «السلطانية»، ولم تتشرب ثقافتها. «أعداء» الدولة اليوم هم أبناؤها الذين تربوا في مدارسها، وتخرجوا من جامعاتها، واستفادوا من خدماتها.. هم جيل ما بعد الاستقلال الذي تشبع بثقافة الحقوق، والعدالة.. وفَهِم أن الدولة مسخرة لخدمته وتلبيةِ حقوقه، والمسؤولة عن ممارسته السليمة لها، وتقريرا لهذه القناعة جاءت جل الدساتير التي تعبر عن نظام الدولة وهويتها مشبعة ببنود الحقوق والوعود في الكرامة، والعدالة، والمساواة...
إذا؛ يرجع هذا التوتر في العلاقة بين الدولة والجمهور الذي يتجلى بعضه في الاحتجاج غير النظامي إلى تحول ثقافي عميق عرفته الثقافة السياسية للمواطن المغربي في الخمسين سنة الماضية، عنوانه العريض أن الدولة التي جاءت لخدمته وملبيةً لحاجاته «خائنة»، لم تَفِ بوعودها الدستورية والسياسية التي وعدته إياها بمناسبة أو بدونها. ولا يلتفت هذا المواطن/المحتج في سياق هذه القناعة المحدثة إلى المتاح لهذه الدولة، ووسعها وطاقتها، أو الظروف الصعبة التي مرت بها.
ويستعمل "الاحتجاجيون" –عادة- دليلا لإدانة الدولة، وإثبات تهمة خيانتها على مسكوكات وفرضيات شعبوية سهلة، من قبيل تفشي الفساد والاستبداد، واستمرار سوء توزيع الثراء العمومي.. ويتجاهلون كُلية العوامل والظروف الموضوعية التي قد تكون سببا في تعثر الدولة وسوء أدائها الاقتصادي والاجتماعي في الماضي والحاضر، وهو فقر وكسل تحليلي خطير.
وحسب هذه المسكوكات الجاهزة، يرجعُ الفقر والتدهور الاجتماعي والاقتصادي الذي يعاني منه البلد إلى بعض الفسدة الذين أكلوا أموال الناس بالباطل، واستفادوا من غياب المحاسبة التي يتيحها الاستبداد، ومن ثم فالبرنامج السياسي الذي يقترحه الاحتجاج لتجاوز الأزمة واضح وبسيط، ويتكون من نقطتين: محاكمة الفسدة ومعاقبتهم؛ ورد الحقوق إلى أهلها، أو بعبارة أخرى إعادة توزيع الثراء العمومي. إن هذا البرنامج – بحسب العقيدة السياسية الشعبوية – كاف لإحداث المصالحة التاريخية بين الدولة والشعب، وتجاوز كل الأزمات الاجتماعية والاقتصادية.
إن هذا الوعي الشعبوي السطحي والبسيط المُوَلِد لطاقة الاحتجاج يعكس اختزالا خطيرا للمشكلة، ويحتاج إلى عمل نقدي رصين وذي مصداقية لتجاوزه والتخفيف من آثاره الكارثية، فالفساد – مثلا - كأحد العوامل الأكثر استعمالا وفعالية في إنتاج التوتر بين الدولة والشعب هو ظاهرة معقدة وممتدة، فهو لا يتجسد في التدبير السيء للأموال العمومية، أو سرقتها كما يردد ذلك الخطاب الشعبوي، فهذه أبسط مظاهره، وأسهلها في المعالجة. وحتى الدولة لا تتردد مبدئيا في محاربة هذا النوع من الفساد إذا ثبت.. بل الفساد السياسي الحقيقي والخطير، الذي يشكل معضلة تاريخية، هو أكبر من ذلك، بنيوي، يتجلى بعضه في استغلال النفوذ، والفوز بالصفقات العمومية دون موجب حق، وعدم تكافؤ الفرص (الريع)، ومراكمة الامتيازات، والاستئثار بالثراء العمومي من خلال هياكل إدارية ومكاتب وطنية، وضعف معايير الشفافية في النفقات، وضعف مقاومة ابتزاز اللوبيات الاقتصادية المحلية والإقليمية والدولية...
وإذا كان النوع الأول من الفساد سهلا ولا يطرح أدنى مشكلة إلا من جهة إثباته وأدلته (نعني السرقة وسوء تدبير المال العمومي)، فإن النوع الثاني بنيوي، وصعب التجاوز، فهو من جهة أسلوب في الحكم أنتجته أطوار الصراع السياسي الحاد الذي عاشه المغرب في مرحلة ما بعد الاستقلال، والذي تمثل أساسا في اقتصاد الريع، وسياسة الامتيازات وما إليها من ممارسات؛ وهو من جهة ثانية جزء من مشاكل البناء المؤسساتي للدولة الحديثة في بلد حديث العهد بالتقليد.. لازالت مفاهيم المالية العمومية والدخل العمومي وإعادة توزيعه مفاهيم حديثة جدا، تعاني من منافسة ثقافة «بيت المال»، حيث المال مال السلطان يتصرف فيه كيف يشاء، ولا أحد يحق له مساءلته؛ وهو من جهة ثالثة أحد تداعيات الاختيارات السياسية والاقتصادية التي اختارها المغرب بعد الاستقلال، فعلى سبيل المثال الرغبة في تكوين قاعدة اقتصادية وطنية صلبة وتأهيل نخبة اقتصادية قادرة على الاستثمار في بعض المجالات بعد الاستقلال دفعت الحاكمين ومقربيهم إلى ممارسة عدد من الأنشطة الاستثمارية الجديدة والخلط بين الثروة والسياسة، وأيضا توزيع الامتيازات على بعض الفاعلين. ولازال شيء من هذا مستمرا إلى اليوم.. وينضاف إلى هذا كله ما تحصل عليه بعض قوى الابتزاز الدولي والإقليمي..
إن هذا النوع من الفساد ليس إشكالية أخلاقية تتعلق باستقامة فرد أو مجموعة من الأفراد، ولا يمكن التغلب عليه بالمتابعات القضائية، وتشديد المراقبة والمحاسبة على أهمية هذه الوسائل، ولا يمكن التغلب عليه – أيضا - بالإنشاء الثقافي والأخلاقي.. بل هو إشكالية سياسية تاريخية عويصة لا يمكن القضاء على جذوره البنيوية سوى بالنجاح في إرساء ثقافة المال العام؛ وتعزيز الاستقرار وطي صفحة الصراع السياسي حول الدولة وطبيعتها؛ وتجديد شرعية النموذج الاقتصادي المغربي وتحقيق الزخم السياسي الضروري له، إذ لا يمكن للمغرب النجاح في عدد من أوراشه الاقتصادية الإستراتيجية إذا لم يمارس بعض ما يعتبر فسادا مبدئيا.
ومن ثم، فمقولة محاربة الفساد كمقولة شعبوية-وكما درج على استعمالها الكثير من الإعلاميين والنشطاء في شبكات التواصل - تُسْهِمُ بطريقة غير مباشرة في استمرار الفساد، ورسوخ عوامله، وذلك بخلاف محاربة الفساد كمقولة عقلانية، تتوسل بالاستقرار والإصلاح المؤسساتي والمالي والثقافي لإخراج عقل الدولة من ثقافة «بيت المال» والتضييق على الفساد، وتراهن في سياق ذلك على النجاح في تحقيق التقدم والرفاه بما يخرج الإرادة السياسية من الضائقة، ويُضْعِف أشكال الابتزاز.
إن النقاش العمومي حول ظاهرة الفساد بالمغرب الذي تخوضه بعض أطراف النخبة السياسية والثقافية – وللأسف – يعاني من ضعف شديد في منسوب العقلنة، ويسقط في كثير من الحالات والأمثلة في مستنقع الشعبوية القاتلة، فبدل الاضطلاع بأدواره التنويرية المتمثلة في تثمين النضال المؤسساتي، وتعزيز الاستقرار السياسي والثقة في المؤسسات، والاجتهاد في ترسيخ الحداثة المالية والحكامة الجيدة.. تجدها ترافع لأجل الشعبوية، وتمنحها الشرعية، بحيث يبدو الحكام في مرآتها مجموعة من اللصوص والأشرار المتآمرين على الشعب..
إن ظاهرة الاحتجاج الممتدة في لحظتنا الراهنة، والتي تتجاهل الحقائق الآنفة الذكر، تسائل كل المؤسسات المعنية بالعقلنة السياسية وفي مقدمتها الدولة والأحزاب السياسية..
ظاهرة الاحتجاج وفشل الأحزاب في العقلنة السياسية
تسائل ظاهرة الاحتجاج مؤسسات الوساطة السياسية التي يفترض فيها حمل مطالب الجمهور، وعقلنتها، وأقلمتها مع الإمكانيات. وفي مقدمة هذه المؤسسات الأحزاب السياسية التي عجزت عن تمثيل هذه المطالب، والمرافعة المؤسساتية عنها، بل وفَقَد الكثير منها مصداقية هذا التمثيل..فالأحزاب المغربية في جملتها تعاني من ضعف في التجذر الاجتماعي، ويقتصر وجودها الفعلي على المدن، وتغيب كليا عن البادية، كما أن القليل منها فقط الذي يمتد في الأوساط الاجتماعية المحتجة أو المرشحة للاحتجاج، وهذا القليل يتكون بالدرجة الأولى من الأحزاب الإسلامية.
إن إشكالية عجز الأحزاب وقصورها في تمثيل الجمهور، وضعف إسهامها في عقلنة السياسة بالمغرب، ترجع من جهة إلى محدودية المنتسبين إليها، ومحدودية مجال عملها (المدينة)، وكلاسيكية خطابها، بحيث لازالت أسيرة مفاهيم «الحركة الوطنية» وصراعاتها مع النظام؛ وترجع من جهة ثانية إلى هيمنة الإسلاميين على الحقل السياسي، وفرضهم لأجندة صراع سياسي جديدة، تتصدرها مطالب هوياتية وسياسية يختزلها شعار شعبوي جذاب (محاربة الفساد والاستبداد)؛ وهو ما أدى إلى عودة الصراع حول الأصول، وهذه المرة بمذاق إسلامي، وهو الصراع الذي في العادة ترافقه الممارسات الريعية، ويحرف جهود التحديث.
لقد أدى هذا العجز الحزبي في مشروع عقلنة السياسة موقفا وممارسة إلى ازدهار وتوسع النزعات الشعبوية التي تتغذى على تعثر وبطء إرساء أسس دولة حديثة وعصرية قلبا وقالبا، وعودة أجواء الصراع القديم (الاستبداد/الديموقراطية)، وهو ما تجلى في انفجارات احتجاجية هنا وهناك، مختلفة الحدة والمدى.. احتجاجات تتأرجح بين وضعين حرجين، إما العفوية واللاتأطير مع كل ما تحمله العفوية من أخطار؛ وإما الإندراج الطوعي والتلقائي تحت يافطة الإسلاميين مع كل المشاكل التي يستدعيها هذا الاندراج، وعلى رأسها ضعف منسوب العقلنة (الشعبوية، الهوياتية، المثالية السياسية)، الذي يتجلى في الإدراك الخاطئ للفساد كظاهرة سياسية انتقالية، وما يستدعيه من واجبات (تعزيز الاستقرار، وتثمين العمل المؤسساتي، والتفرغ بالكلية لمهام بناء الدولة وإنتاج الثروة).
ظاهرة الاحتجاج وأزمة شرعية الدولة
إن الدولة المغربية الناشئة عقب الاستقلال كانت فلسفتها وغاياتها مُفارِقَة للثقافة السياسية للمغربي بشكل عام، ففي الوقت الذي تأسست على مفاهيم الدستور، والمواطنة، والحقوق، والمؤسسات، والأمة، وسيادة الشعب (الديموقراطية)..كانت في جانب الشرعية متكئة على المصادر التقليدية، وفي هذا السياق اعتمدت على مفاهيم من قبيل السلطان، وأمير المؤمنين، والمخزن، والجماعة، والرعية، والولاء، والطاعة.. وقد مارست هذه المفاهيم تأثيرا قويا على الوجدان السياسي للمغربي واتجاهه وميوله.
ومن ناحية أخرى نشأت الدولة المغربية واشتد عودها في مناخ سياسي شمولي ساد معظم البلاد التي تحررت من الاستعمار حديثا، إذ كان نظام الحزب الوحيد والأيديولوجيات الثورية الشمولية الاختيارَ المفضل لدى أغلب الدول الحديثة العهد بالاستقلال، مستفيدة في ذلك من الزخم الوطني الاستقلالي.
وترجع هذه المفارقة على صعيد شرعية الدولة إلى تَوَلُّدِها القصري في بيئة تقليدية الثقافة والمؤسسات.
إن الشرعية التقليدية التي عولت عليها دولة الاستقلال تعرضت للاستنزاف ونضبت مع مرور السنين، وذلك لانقراض أو ضعف مرجعياتها الاجتماعية والثقافية في مغرب الألفية الثالثة، بحيث لم تعد المفاهيم والمصادر التقليدية قادرة على توليد وتحرير ما يلزم من طاقة سياسية (شرعية) لاستمرار الدولة في أداء وظائفها بشكل سليم، وتزامن هذا النضوب والضعف في الشرعية التقليدية مع ظهور جيل جديد من المغاربة تَشَكَلَ في غالبيته من ساكنة المدن، وتعلم في المدارس الحديثة، وتنفس هواء الحداثة وروحها.
إن هذا الخلل في شرعية الدولة الذي نشأ مع ظهور الدولة الحديثة بمغرب الاستقلال في الخمسينيات من القرن الماضي كان حتميا وضروريا في البداية، ولم يكن ممكنا للدولةِ التوجه بالحديثِ إلى المواطن بغير اللغة التي كان يفهمها. غير أن استمرار هذا الخلل بالرغم من التحول الثقافي والسوسيولوجي العميق الذي شهده المغرب في العقود الماضية، وتَواطؤ بعض السياسيين لأجل هذا الاستمرار، لما لذلك من عوائد سياسية ريعية على هذا البعض، يعتبر خطأ جسيما وقاتلا للدولة. ربما كان للظروف التي عاشها المغرب بعد الاستقلال دور في استمرار هذا الخلل، بحيث كان أنصار الحداثة والشرعية الحديثة في معظمهم من حيث المبدأ ضد النظام ومن ألد أعدائه، وهو ما لم يوفر الأجواء السياسية لتعديل الشرعية، بل على العكس شجع الدولة ونظامها على الانغلاق السياسي واستمرار التقليد كحصن.
إن شرعية الدولة الحديثة تستمد في العادة من جهتين، من كونها مُنشأة سياسية عمومية أنشأها التعاقد الاجتماعي الطوعي بين مكونات الأمة (الديموقراطية)؛ ومن فعاليتها ونجاعتها في القيام بالمصالح العمومية الموكولة إليها، والدولة المغربية في الخمسين سنة الماضية وفي ضوء الصراعات التي عرفتها بين النظام وأعدائه – وللأسف –خرجت منهكة الشرعية، وجعلها تبدو دولة الغلبة والإكراه والتسلط؛ ذلك أن ضعف مصادر التقليد من جهة وتعثر تجارب التحول الديموقراطي لم يمكنا مؤسساتها وبرامجها من منسوب الشرعية اللازم لها، كما أن تواضع حصيلتها التنموية على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي هو الآخر زاد من تفاقم هذه الأزمة وتعميقها، والذي تجلى بعضه ولازال في انفجارات احتجاجية دورية.. إذ الاحتجاج في هذا المنظور هو امتحان قاس لشرعية الدولة، وطعن فيها...
إن ظاهرة الاحتجاج من منظور الشرعية هي تعبير عن صوت الجيل الجديد الناقم على الدولة، هي تعبير أيضا عن حصيلة صراع مزمن وقوي بين قيم الحداثة والتقليد في ميادين التنشئة السياسية للإنسان المغربي في الخمسين سنة الماضية، وهو ما جعل هذه الظاهرة من حيث فرضيات تفسيرها وتعليلها تتأرجح بين فرضيتين: الأولى ترى في الاحتجاج تعبيرا عن تشبع الشبيبة المغربية بقيم الحداثة والديموقراطية والحرية والعدالة والكرامة.. إذ تبدو الدولة في نظر هذه الشبيبة والقيم التي تحملها كيانا رجعيا، برانيا، وأجنبيا وجبت مقاومته؛ والثانية ترى في الاحتجاج أسلوبا جديدا لاستجداء ريع الدولة، وطلبا للمزيد منه، باعتبارها، أي الدولة، الأم والراعي، في إحالة واضحة على روح التقليد في كياننا الجماعي.
وعموما، ومهما تكن الفرضية التي ندفع بها لتفسير هذه الظاهرة، فإن المؤكد، الذي لا يرقى إليه الشك، أن ظاهرة الاحتجاج غير النظامي والممتد هي تعبير عن خصاص مهول في شرعية الدولة، وضريبة ثقيلة للبناء العشوائي للدولة الحديثة بالمغرب، وصراع النصف قرن الماضي. ولا يمكن بحال من الأحوال معالجة هذه الظاهرة، وتحويلها إلى طاقة إيجابية إذا لم ننجح في ترميم شرعية الدولة التي تضررت كثيرا بالماضي.
السؤال الذي يطرح نفسه في ضوء هذه الدلالات العميقة والإستراتيجية لظاهرة الاحتجاج، كيف السبيل إلى القضاء على أسبابها العميقة، وفي مقدمتها ضعف منسوب العقلنة السياسية وتفشي الشعبوية وهزال شرعية الدولة؟ هل المقاربة المعتمدة اليوم، والتي تستعمل سياسة العصا والجزرة، مفيدة في تجاوز أسباب الانفجار في المستقبل في هذه المنطقة أو تلك؟.
العقلنة كدواء فعال لداء الاحتجاج
إن ظاهرة الاحتجاج اللانظامي كتعبير عن طغيان الشعبوية في السياسة داء عضال ومدمر إذا لم يتدارك أمره. ويبدو – من خلال ما تقدم – أن الدواء الفعال القادر على إضعاف هذه الظاهرة، وتحجيم سلبياتها في الواقع، يكمن في الرفع من منسوب العقلنة في الحياة السياسية المغربية، الذي يتمثل في إعادة الاعتبار لمصادر إنتاج العقلنة السياسية وتنشيطها.
وبناء عليه؛ فإن خريطة الطريق الإستراتيجية الكفيلة بإنقاذ الدولة المغربية من الفشل، وتأسيس طور جديد من البناء والتقدم، والتي يجب على الجميع القيام بمقتضياتها كل من موقعه، تتكون - ضرورةً وليس اختيارا - من ثلاث خطوات كبرى:
- تجديد الثقة في المشروع المجتمعي الوطني وإدماج الحساسية الإسلامية فيه: من المعلوم لدى الخاص والعام أن المملكة المغربية بقيادة جلالة الملك محمد السادس ومنذ بداية الألفية الثالثة تبنت مشروعا طموحا لإخراج المملكة من شبح الإفلاس الذي خيم عليها مع نهاية عهد الحسن الثاني رحمه الله. وقد انخرطت عدد من القوى السياسية في تنفيذ هذا المشروع بدرجات متفاوتة، وتحققت في إطاره إنجازات إستراتيجية مهمة وغير مسبوقة.. ومن المؤكد في هذا السياق بعد مرور أزيد من عشر سنوات وحصول عدد من المتغيرات محليا ودوليا أن المملكة بحاجة إلى تحيين هذا المشروع، وتكثيف التواصل حوله بما يحقق النجاعة والفعالية. ويقع في صلب هذه العملية إدماج الحساسية السياسية الإسلامية في هذا المشروع، وتوظيفها بما يحقق أغراضه، فبقاؤها خارج هذا الطموح الوطني المشترك خيار خاطئ من الناحية الإستراتيجية. ولعل شعار «محاربة الفساد والاستبداد» الذي ترفعه هذه الحساسية في وجه الدولة في هذا المنظور هو شعار احتجاجي على الإقصاء أكثر منه مشروع بناء.
لقد أظهرت السنوات القليلة الماضية تشتتا في الرأي السياسي، وضعفا في التواصل بين الفاعلين الرئيسيين، وإقصاء واضحا للإسلاميين بالرغم من وجودهم في السلطة! انعكس سلبا على الأداء. ولا يخفى أن جانبا مهما من شرعية الدولة، وخاصة في الجانب المتعلق بالغاية منها، يتوقف على النجاح في تحقيق الرهانات التنموية للمشروع الوطني.
- إعادة هيكلة الحقل الحزبي وتجديده بما يرفع من منسوب العقلنة السياسية في الواقع: إن أول شيء تجب المبادرة إليه في هذا السياق، وبأقصى سرعة ممكنة، هو إعادة الاعتبار للسياسة كفعل نبيل ومظهر من مظاهر المواطنة الصادقة والسليمة، وفي صلب هذه المهمة إعادة هيكلة الحقل الحزبي بما يساعد على تأطير وتمثيل أكبر للمواطنين، ويساعد أيضا على ظهور أحزاب جديدة تعبر عن تطلعات الأجيال الجديدة.
فالأحزاب المغربية اليوم ثلاثة أصناف: أحزاب تاريخية من سلالة الحركة الوطنية؛ وأحزاب إدارية أنشأتها السلطة في ظروف مختلفة؛ وأحزاب إسلامية حديثة النشأة، وهذه الأحزاب بأصنافها الثلاثة يبدو أنها فاقدة للمبادرة في ما يتعلق بظاهرة الاحتجاج، سواء من حيث أسبابها أو آفاقها، بل الأهم من هذا كله والجدير بالاعتبار هو هجرة العديد من شباب هذه الأحزاب النظامية والتحاقهم بالاحتجاجات غير النظامية في ضرب صارخ لقيمة العقلنة والالتزام السياسي الحزبي.
والجدير بالذكر في هذا السياق أن مدح الاحتجاجات غير النظامية والاستسلام للنزعات الشعبوية هو في العمق إجهاز على شرعية الوسطاء السياسيين وفي مقدمتهم نشطاء الأحزاب، وتقويض لكل جهود العقلنة السياسية، وتسفيه لخطابها.
إن هذا الحال يبدي مسيسَ الحاجةِ إلى حزبية جديدة أو جيل جديد من الأحزاب يستوعب هذا «الكل» الجديد، ويعبر عن طموحاته تعبيرا صادقا، حزبية تراعي التحولات العميقة التي شهدها المغرب مع مطلع الألفية الثالثة في ظل ملكية «جديدة»، ومشروع وطني جديد، وجيل جديد. والدولة مسؤولة عن هذا العمل إذ قوتها في جانب منها مستمدة من قوة الأحزاب.
- التقدم في خطوات التحول الديموقراطي: إن جانبا من أزمة شرعية الدولة المولدة لطاقة الاحتجاج مرتبطة بتعثر خطوات التحول الديموقراطي بالمملكة، والفشل في تكريس معاني السيادة الشعبية في الإدارة وفي القرار السياسي (المركزي والوطني والجهوي والمحلي). ومن شأن هذا التحول أن يقلب موقف المواطن إزاء الدولة، ويمنحه إحساسا بتَمَلُكِها بعدما كانت تملكه، مع ما يستتبعه هذا الانقلاب في الموقف من إحساس بالكرامة والاعتبار من الناحية الرمزية. ولا نحتاج في هذا المقام إلى التذكير بأن هذا الانتقال في بلدنا من أشد وأقسى أنواع الانتقال؛ فالديموقراطية في بلدنا تعاني من صعوبات ثقافية وسوسيولوجية، وهشاشة في التعددية، و«السلفية السياسية». ولا يمكن تجاوز هذه الصعوبات الإستراتيجية بعيدا عن روح التوافق والمواكبة الملكية.
ومع الأسف الشديد، لازالت النخبة السياسية المغربية منقسمة انقساما حادا حول إستراتيجية التحول الديمقراطي ببلدنا، الشيء الذي يعمق أزمة الشرعية في الدولة ويهدد الاستقرار، فلا عذر لأحد مهما كان قدره في التملص من الإسهام في تحقيق التوافق حول الأفق الديموقراطي برعاية ملكية، والتفرغ للبناء بدل الصراع.
وأخيرا؛ إن التكتيكات التي تتبناها الدولة اليوم في معالجة عدد من الاحتجاجات اللانظامية في المركز والهامش، والتي تجمع فيها بين سياسة العصا والجزرة، ليست حلولا إستراتيجية للظاهرة، بل هي عبارة عن مهدئات سرعان ما يذهب مفعولها، فتعود من جديد، وربما بدرجة أقوى، ومن ثم فالحل الجذري يتمثل في ثلاث مهام إستراتيجية كبرى: تجديد الثقة في المشروع المجتمعي الوطني وتعزيز شرعيته السياسية؛ تجديد وإعادة هيكلة الحقل الحزبي بما يرفع من منسوب العقلنة السياسية؛ والتقدم في مشروع التحول الديموقراطي.
*أستاذ باحث – التاريخ والفكر السياسي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.