هل نملك المسافة الضرورية للتفكير في حدث 20 فبراير 2011، بما يكفي من التمثل الموضوعي الذي يلتقط العناصر الجوهرية في التحولات التي لا تزال تتسارع بدينامية غير مسبوقة؟ سؤال لا تعفي وجاهته، الحاجة إلى الفهم والحاجة إلى تجريب كل المسالك الممكنة لقراءة الحدث، بعيدا عن هواجس التموقعات الظرفية والمواقف السريعة، وبعيدا كذلك عن الترسيمات والخطاطات التي تستدعيها شبكات القراءة والتحليل التي تعودنا عليها منذ مدة غير وجيزة. هل نملك المسافة الضرورية للتفكير في حدث 20 فبراير 2011، بما يكفي من التمثل الموضوعي الذي يلتقط العناصر الجوهرية في التحولات التي لا تزال تتسارع بدينامية غير مسبوقة؟ سؤال لا تعفي وجاهته، الحاجة إلى الفهم والحاجة إلى تجريب كل المسالك الممكنة لقراءة الحدث، بعيدا عن هواجس التموقعات الظرفية والمواقف السريعة، وبعيدا كذلك عن الترسيمات والخطاطات التي تستدعيها شبكات القراءة والتحليل التي تعودنا عليها منذ مدة غير وجيزة. تطرح قضية التفكير في 20 فبراير، بدءا مسألة الداخل والخارج، في العلاقة مع موجة الحراك الديمقراطي العربي. لقد تابعنا كيف أن النقاش الذي شكل رد الفعل الأولي حول الأحداث العربية، والذي تموقع الرأي العام المغربي حوله، انطلاقا من قضية «الاستثناء المغربي»، لم يصمد أمام تسارع الدينامية الداخلية التي تقر بالتراكم الوطني في مجال العمل المدني السياسي من أجل الديمقراطية، لكنها تمتح في نفس الوقت من الأفكار السياسية التي توجد في عمق خلفية الثورات العربية والمنطلقة من كونية القيم الديمقراطية، في مواجهة خطاب الخصوصية الذي شكل في حالات عديدة ذريعة إيديولوجية بدائية في يد الاستبداد. لذلك فالحقيقة تأكيدا توجد في المنطقة ما بين التحليل الذي يعتبر المغرب مجرد إمتداد لما يقع، وبين التحليل الذي يعتبر المغرب معزولا عن كل ما يقع في الخارج. وبالقدر الذي كان الشباب حاضرا وفاعلا في دينامية هذا الحدث وداخل تداعياته، نعيد من جديد اكتشاف هذا «الشباب»، هذه «القارة» البشرية والاجتماعية، الغامضة.والتي نحمل حولها الكثير من الكليشهات والأفكار الجاهزة، لعل أكثرها كاريكاتورية هو ذلك الخطاب السهل حول «العزوف». إن دينامية الاحتجاج الشبابي أو الاحتجاج المجتمعي بأدوات ووسائل الشباب، قد تعتبر امتدادا لتعبيرات ثقافية وفنية وموسيقية، ظلت حاضرة منذ عشر سنوات على الأقل داخل شبيبتنا الحضرية، وهي تعبيرات لم تكن تخفي هواجسها السياسية. إن السؤال الذي يطرح على هذا المستوى، يتعلق ببحث مدى إمكانية قراءة حدث 20 فبراير كطلب هائل على السياسة؟ لقد شكلت بعض اللحظات النادرة في حياتنا السياسية، حالات مدرسية لتلك «العودة المفاجئة» للسياسة، لكن الرهان هو الاحتفاظ بهذا النفس وهذه الروح داخل المؤسسات وداخل الثقافة السياسية للنخب وللفاعلين، وهو رهان مرتبط بدرجة الاستيعاب والإنصات والفهم لدى عموم مكونات المجتمع السياسي والمدني. سياسيا، تبدو 20 فبراير كلحظة حاملة لمعادلة جديدة للإصلاح السياسي والدستوري، معادلة تتجاوز المحاورة الثنائية التي ظلت تطبع ملف الإصلاحات المؤسساتية، بين الأحزاب الوطنية والديمقراطية وبين الدولة. فهل يتعلق الأمر بفاعل جديد، بإستراتيجيات جديدة وبأساليب جديدة، حتى ولو ظل بنفس المطالب القديمة؟ أم أن الأمر يؤشر إلى تحولات عميقة في النسيج الاجتماعي توحي بميلاد مجتمع المواطنين، القادر على التعبير الذاتي عن مطالبه دون الحاجة إلى المرور الحتمي عن طريق الوساطات «التقليدية» خاصة مع توفره على إمكانيات ولوج سهل إلى «الساحة العامة»؟ لقد ظل الاحتجاج جزء من المشهد العام، منذ ما يزيد عن العقد، وأصبحت إستراتيجية اللجوء إلى الشارع والفضاء العام جزءا من دينامية الحركات الاجتماعية وبعض الفاعلين الحقوقيين، لكن مؤشر التحول هنا، يتمثل في الانتقال من حالة الاحتجاج الاجتماعي (معطلون، تنسيقيات، الأسعار، دورات الاحتجاج بالمدن الصغرى: صفرو، سيدي إفني....)، ومن حالة التظاهر العمومي بناء على التعاطف الشعبي مع قضايا قومية أو مع القضية الوطنية، إلى حالة احتجاج بهوية سياسية معلنة. إن عودة السياسة تعني هنا كذلك إعادة انتشارها من داخل المؤسسات نحو الشارع، ومن داخل الفضاء الإعلامي العمومي نحو الفضاء الافتراضي.. طبعا إن 20 فبراير، هي كذلك هذا الاستثمار الهائل لإمكانيات شبكات التواصل الاجتماعي، لكن الأمر لا يجب أن يبدو كما لو أننا نجعل كل عناصر التحليل والمقاربة مختبئة وراء «أسطورة الأنترنيت»، نعم إن الوسيلة في عالم التواصل جزء من المضمون، لكن تحويل «الفيسبوك» إلى عامل محدد لكل الظاهرة السياسية، التي عبرت عن نفسها في 20 فبراير، قد يبدو مجانبا للتحليل الرصين. لقد بنت الكثير من التحاليل الإعلامية، أطروحتها حول فكرة «الأقلية السياسية» التي تلجأ إلى الشارع للتعبير عن مطالبها، لكن الواضح أن هذه الأطروحة تستعيد خطاطة المجتمعات الديمقراطية العريقة، حيث لمفهوم الأغلبية والأقلية سياقه التمثيلي والسياسي الواضح، وحيث الأغلبية السياسية في الغالب تطابق أو تكاد الأغلبية السوسيولوجية، لأن المؤسسات ليست بعيدة كل البعد عن الشارع. وكما دائما فإن التحاليل السهلة التي تقدم الأوضاع المعقدة، في صورة تنميطات وتقابلات جاهزة، كانت في الموعد، حيث سمعنا وقرأنا عن عودة مقولة «صراع الأجيال» على صهوة التكنولوجيات الجديدة هذه المرة، وعن تناقضات الشباب/الأحزاب، وتقابلات الحركات الاجتماعية/الحقل السياسي، بل و عن القطيعة بين شباب 20 فبراير/وشباب الشبيبات الحزبية... إن جزء أساسيا من التفاعل مع الواقع، ينطلق من فهم هذا الواقع، لكن المشكلة في «20 فبراير» تتعلق بحجم تسارع التاريخ الذي قد لا يسمح للباحث بالتقاط أنفاسه بحثا عن «ترف» المسافة الضرورية للتحليل. لنقراذا بمعطى حالة «تسارع التاريخ» التي نعيشها على إيقاع تحولات المحيط العربي، وهي حالة تبدو واضحة على مستوى تغير منسوب «الزمن السياسي» وكثافة الأحداث والتفاصيل والتحاليل والمواقف والتموقعات، داخل حياة سياسية عودتنا على خصائص الرتابة والانتظارية وندرة السياسة وضعف التسيس... ثم لنلاحظ أننا أمام ظاهرة (=20 فبراير)، تأخذ يوما بعد يوم، حجم الفعل المهيكل للحياة السياسية الوطنية. حيث يصبح الموقف اتجاهها،بالدعم أو الرفض أو التجاهل، محددا للتموقعات وللمواقف. إن اثر هذا الفعل يبدو مخترقا للبنيات وللأحزاب القائمة، صانعا تقاطبات وشروخ، ليس فقط بين الأحزاب مثلا، بل حتى داخل كل حزب على حدى. إن الاختلافات في التقدير السياسي لهذه الظاهرة، ينطلق في العمق من اختلاف واضح في استيعابها وفي فهم أبعادها وسياقاتها ومضمونها. وطبعا فإن الاستيعاب والفهم عادة ما يتم داخل «العقل السياسي» الجمعي للبنيات الحزبية والاجتماعية عموما، من داخل شبكات القراءة المعتمدة، ومن داخل الخانات الجاهزة للتحليل. لذلك يبدو أن الارتباك الأولي الذي سجله الفاعل الحزبي اتجاه دعوة 20 فبراير ناتج بالضبط عن عجز هذه الأنساق التقليدية عن فهم تحولات مجتمعية وثقافية وسياسية متميزة بالتسارع والجدة. على المستوى السياسي، استكانت القيادات الحزبية إلى مدرسة سياسية تنظر إلى السياسة كمجال لتدبير العلاقة مع الدولة (=المؤسسة الملكية تحديدا)، كمجال لالتقاط وتشفير الإشارات والرسائل والرموز الملقاة من أعلى، وتنظر إلى الصراع السياسي كتدافع للنخب المعزولة عن المجتمع من أجل من يقترب أكثر من الدولة. عندما يحضر «المجتمع» في هذه الخطاطة، يحضر عبر الأحزاب التي تتكلم نيابة عنه، أو يحضر «كخطر غامض» يستدعي توافق النخب و»حكمة» الأحزاب والدولة، وقد تستعمله الدولة كحجة لسياسة التحكم والضبط ضد الانفلات الممكنة والمتخيلة، أوقد تستعمله الأحزاب كحجة لوساطة ضرورية للتأطير والعقلنة ، كما قد تستعمله إيديولوجيا تفوق الدولة، كمبرر لبناء وهم «حزب الدولة» انطلاقا من «هيغيلية» مبتذلة تعتبر الدولة فاعلا في التاريخ والمجتمع عبئا عليه. على أنه في كل أشكال هذا الحضور، يظل «المجتمع» غائبا كصوت وكفعالية. 20 فبراير هي بالضبط تململ لهذا الصوت وإرهاصا لهذه الفعالية المستقلة، لأجل ذلك كانت مربكة داخل مشهد حزبي يحدد تقاطباته تبعا للموقف من الدولة وللعلاقة مع الدولة، وليس الموقف من أسئلة المجتمع والعلاقة مع المجتمع. الأمر الذي يطال كذلك جزءا من أحزاب اليسار التي حملت قضايا وهموم المجتمع طيلة سنوات، ودافعت عنه ضد هيمنة الدولة وسطوتها. لكنها لم تستطع أن تتحول من العمل نيابة عن المجتمع إلى العمل مع هذا المجتمع، بالنظر إلى شروط موضوعية متعلقة بمدى «تبنين» هذا الأخير واكتسابه لآليات الدفاع الذاتي وللمناعة التاريخية ضد الهشاشة والضعف، ثم بالنظر إلى شروط ذاتية متعلقة باختيار سياسي فضل في بعض اللحظات الرهان على قطار «الدولة» السريع عوض الرهان على قطار «المجتمع» المعطوب. تنظيميا تعيش هذه الأحزاب، حالة قطيعة واضحة مع تحولات المجتمع، مع فئاته الأكثر رغبة في الانعتاق والأكثر مصلحة في التغيير والحداثة، مع الشباب ومع النساء، مع المثقفين وعموم المتعلمين ومع ممثلي الطبقة الوسطى الحضرية. إن الفرضية الأساسية هنا، تتجلى فيما إذا كنا أمام دينامية توحي بميلاد ثان لمجتمع مدني، مستقل عن الدولة وعن الأحزاب، تهيكله شبكات الشباب والنساء والجمعويين والحقوقيين الحاملين لأفق المواطنة، ميلاد ثان ربما يذكرنا بلحظة بداية التسعينات، عندما أشرت لحظتي: جنازة الفقيد عبد الرحيم بوعبيد ومسيرة التضامن مع العراق، وفورة نسيج جمعوي صاعد، لحديث البعض عن ميلاد المجتمع المدني المغربي. تبعات هذه الفرضية تصل إلى حدود إعادة بناء طبيعة العلاقة بين الحزبي والاجتماعي (النقابي/الشبابي/النسائي/الجمعوي..)، وتحويلها من علاقة موسومة بالهيمنة والتبعية إلى علاقة تعاقد موسومة بالندية . أكثر من ذلك نظريا قد نكون أمام إعادة تعريف للوظيفة السياسية نفسها للحزب، لربطها اكثر بقضايا المجتمع،كمورد رئيسي للشرعية الجديدة ،ولتحديد التموقع السياسي و الفكري،أي الانتقال بصيغة أخرى من الوظيفة المنبرية (العمل والدفاع عن المجتمع بالنياية عنه)الى و ظيفة الوساطة(العمل مع المجتمع و ليس نيابة عنه) .