أثارت الأزمة الخليجية الأخيرة عدة تساؤلات ومخاوف حول استقرار ومستقبل ومصير الخليج العربي، خاصة في ظل التجاذب الحاد الذي باتت تعيش المنطقة على إيقاعه منذ أن قامت كل من السعودية والإمارات العربية والبحرين ومصر بقطع علاقتهم بدولة قطر، بل وصل الأمر إلى محاولة شيطنة النظام القطري من خلال "اتهامه بدعم وتمويل الإرهاب"، وفرض حصار بري وجوي عليه بغية الضغط عليه لينخرط عنوة في المحور الذي تقوده السعودية، وما يستتبع ذلك من مراجعة شاملة لسياسات هذا النظام تجاه مجموعة من القضايا والملفات الحساسة بالمنطق. وبغض النظر عن القراءات والتحليلات التي اختلفت حول تشخيص أسباب الأزمة الخليجية الأخيرة، فإنه لا يمكن الاختلاف حول الدور الأمريكي في هذه الأزمة، خاصة أنها ظهرت مباشرة بعد الزيارة الأخيرة التي قام بها الرئيس ترامب للمنطقة، وتوقيعه لمجموعة من الاتفاقيات والشراكات التي أثارت مجموعة من التساؤلات حول دواعيها وخلفياتها في هذا التوقيت، لا سيما أن المبالغ المالية الضخمة التي تم ضخها من لدن الخليجيين في الخزانة الأمريكية تتجاوز لغة الاقتصاد والتجارة، وتدخل ضمن ما يسمى في التراث الإسلامي ب"الجزية". وعلى ضوء هذه الأزمة، تتبادر إلى الذهن مجموعة من التساؤلات والإشكالات حول مستقبل العلاقات العربية البينية في ضوء التحولات والتعقيدات الدولية الراهنة، بحيث كشف النزاع الأخير بين الدول الخليجية أن "العقلية العربية" هي انقسامية بطبعها واصطدامية في منهجها وأسلوبها. فبعيدا عن الأحكام الجاهزة، فمجلس التعاون الخليجي شكل الاستثناء في الرقعة العربية على مستوى التحالفات الاقتصادية والسياسية والأمنية؛ لكن سرعان ما سقط هذا التكتل الإقليمي في أول امتحان له. البيض الخليجي في السلة الأمريكية مرة أخرى أظهرت الأزمة الخليجية الراهنة أن الأنظمة الحاكمة بهذه المنطقة لم تستوعب الدروس جيدا ولم تستخلص العبر من فترة حكم الرئيس السابق بارك أوباما، عندما أدارت الإدارة الأمريكية السابقة وجهها إلى الخلف وقلبت الطاولة على حلفائها الخليجيين خلال ثلاث محطات رئيسية: الأولى، التحول في المواقف والتراجع الأمريكي في خلال عهد أوباما، بحيث انعكس هذا "التراجع التكتيكي" سلبيا على مستوى الالتزامات وخريطة التحالفات التي كانت تربط هذه القوة العظمى بمجموعة من الدول التي كانت تضع أمنها ومستقبلها في السلة الأمريكية، ويأتي في مقدمتها دول مجلس التعاون الخليجي التي استفاقت على وقع صدمة مدوية تمثلت في الاتفاق النووي الأمريكي-الإيراني. ثانيا، التغلغل الشيعي داخل اليمن على الحدود السعودية، حيث خلال الأزمة اليمنية تركت أمريكا حلفاءها الخليجيين في مواجهة شبه مباشرة مع الإيرانيين، لولا تدخل ومساهمة الجيش المغربي ضمن "عاصفة الحزم" والذي أعطى نفسا قويا بفضل تمرسه وخبرته القتالية؛ وهو ما أسهم في حماية الأمن القومي الخليجي من المد الشيعي الإيراني، من خلال القضاء على الحوثيين المعرفين ب"جماعة أنصار الله". ثالثا، التدخل الروسي بسوريا وما إلى ذلك من انعكاسات سلبية على مصالحهم، خاصة أن السعودية كانت تدفع في اتجاه رحيل الرئيس السوري بشار الأسد. بالمقابل، فالروس كانت لهم نظرة مغايرة ومناقضة، بحيث إن التدخل الجوي أسهم في تغيير موازين القوى ميدانيا، وترجيح كفة القوات الموالية للنظام السوري. وفي المحصلة، ومن خلال مختلف المحطات السابقة، اكتفت أمريكا بالتفرج والترقب، وتركت حلفاءها الخليجيين في مرمى نفوذ القوى الإقليمية الإيرانية والتركية. وعوض أن تقوم الأنظمة الخليجية باستقراء التجارب السابقة واستخلاص العبر والدروس، سواء بمراجعة سياساتها وتوجهاتها أو علاقاتها وتحالفاتها الإستراتيجية والحيوية مع بعض القوى الدولية والإقليمية، قامت بعكس ذلك، واتخذت قرارات وخطوات عدائية تجاه بعضها البعض؛ وهو ما جعل منطقة الخليج العربي تعج بالوجود العسكري الاجنبي في مشهد يعيد إلى الأذهان بعض التجارب السابقة مثل ما وقع في غرناطة. الاستقواء بالأجنبي.. التاريخ يعيد نفسه عرّت الأحداث غير المسبوقة التي وصلت إليها الأزمة الخليجية عن طبيعة النظم الحاكمة في المنطقة، بحيث لا تزال هذه النظم محكومة بعقلية قبلية انقسامية تميل أكثر إلى العاطفة في بلورة سياساتها وتتحدث بلغة أقرب إلى "منطق الثأر" و"العناد" و"التباهي" عوض الاحتكام إلى العقل والبراغماتية في رسم توجهاتها ونسج تحالفاتها. هذه الصفات والطباع هي نفسها التي حكمت حقبة ملوك الطوائف في الأندلس، بعدما بدأت الخلافات تدريجيا تزداد شيئا فشيئا في هذه المنطقة، حيث قسمت دولة الأندلس إلى أكثر من عشرين دويلة صغيرة؛ وهو ما أدى إلى سقوطها. وفي سياق محاولة تحصين الأمن القومي الخليجي، قامت السعودية بإبرام عدة اتفاقيات ومعاهدات وصفقات مع أمريكا قدرت بحوالي 400 مليار دولار، تتضمن حزمة من المعدات الدفاعية والخدمات تدعم أمن السعودية ومنطقة الخليج على المدى الطويل، خاصة في مواجهة النفوذ الإيراني والتهديدات ذات الصلة بطهران التي توجد على حدود السعودية من جميع الجوانب. وبالرغم من تضمين تلك الاتفاقيات لبعض الجوانب الإيجابية على قلتها، مثل توقيع اتفاق مع مقاول الدفاع "جنرال دايناميكس" على "توطين التصميم وهندسة وتصنيع ودعم المركبات القتالية المدرعة،" للبرامج الحالية والمستقبلية في المملكة، بما يدعم هدف توطين 50 في المائة من الإنفاق الحكومي العسكري في السعودية وفقا لرؤية 2030؛ فإنها تعكس، في مجملها، مدى مراهنة تلك الأنظمة على أمريكا/ ترامب لحماية أمنها ووجودها. أما قطر التي فرض عليها الحصار من لدن السعودية والإمارات والبحرين ومصر بسبب مواقفها وعلاقاتها مع "الإخوان المسلمين" وتركيا وإيران، فإن قطر بدورها تحتضن أكبر قاعدة أمريكية، وهي قاعدة "العديد"، التي يستغلها الجيش الأمريكي لتنفيذ عمليات تستهدف متشددي تنظيم "داعش" وجماعات أخرى في العراق وسوريا وأفغانستان وغيرها. وتستضيف قاعدة "العديد" الجوية في قطر أكثر من 11 ألف جندي من القوات الأمريكية وقوات التحالف. ومن المفارقات العجيبة التي تؤشر على تلاعب أمريكا بالأنظمة الخليجيين، إبان الأزمة الأخيرة، أنه بعد أقل من أسبوع من اتهام الرئيس ترامب قطر بأن لها تاريخا في دعم وتمويل الجماعات الإرهابية، أبرمت الدوحة صفقة شراء مقاتلات "إف-15" من الولاياتالمتحدة بقيمة 12 مليار دولار وسفينتين أمريكيتين. وحسب التقديرات الأولية، فإن هذه الصفقة ستسهم في خلق ما يقارب 60 ألف وظيفة في الولاياتالمتحدةالأمريكية. وتأتي هذه الصفقة كرد من قطر على المقاطعة الاقتصادية والدبلوماسية للسعودية وحلفائها، بحيث ذكر المسؤولين القطريين تعليقا على صفقة شراء مقاتلات بأن "هذا بالطبع دليل على أن المؤسسات الأمريكية معنا ونحن لم نشك في ذلك قط... ودعم أمريكالقطر متأصل ولا يتأثر بسهولة بالتغيرات السياسية". ولم يتوقف الاحتقان بين النظم الخليجية عند الاحتماء بأمريكا من بعضهم البعض؛ بل وصل بهم الأمر إلى فتح أبواب الخليج على مصراعيه لمختلف القوى الإقليمية التي كانت تبحث منذ مدة عن موطأ قدم بالمنطقة، حيث قامت قطر في هذا الإطار باستقدام ونشر ما يقارب 500 جندي تركي تحسبا لمزاعم بإمكانية وقوع اجتياح سعودي/ إمارتي لدولة قطر. وما أشبه اليوم بالبارحة، فسقوط الأندلس هو قصة تصلح لأن تكون عبرة ومثالاً حياً لما يقع حاليا بمنطقة الخليج، حيث بسبب التنازع بين الإمارات الإسلامية لم يبق في الأندلس بعد هزيمة المسلمين سوى ولاية غرناطة وولاية إشبيلية، وكان حاكم غرناطة قد عقد معاهدة مع ملك قشتالة، وكان من نصوص المعاهدة أن يحارب مع ملك قشتالة أيا كانت الدولة التي سيحاربها، ووصل الأمر إلى مساعدة ملك قشتالة في حصار إشبيلية، لتسقط هذه المدينة الإسلامية سنة 646ه/ 1248م، بعد أن سقطت إشبيلية نقض القشتاليين الهدنة مع غرناطة، وحاصروها مما أدى إلى سقوطها. المغرب والجزائر ومستقبل شعوب المنطقة المغاربية.. إن الربط بين ما يقع في الخليج ومنطقة المغربي العربي تفرضه مجموعة من الاعتبارات التاريخية والاقتصادية والسياسية والإستراتيجية والأمنية؛ فانطلاقا من الازدواجية التي تعاملت بها أمريكا مع الدول الخليجية خلال الأزمة الراهنة، فإن ذلك يؤشر على التوجهات والسياسات الجديدة المرتقبة للإدارة الأمريكيةالجديدة تجاه مختلف الدول. فالرئيس الأمريكي ترامب لم ينزع قبعة رجل الأعمال عندما دخل إلى البيت الأبيض، بحيث إنه في سياق محاولاته الرامية إلى تنفيذ وعوده الانتخابية وتوفير فرص عمل للأمريكيين، فهو يوظف جميع الأوراق بما فيها تسخير القوة العسكرية الأمريكية لتوفير الحماية لبعض الدول مقابل دفع المال، أو بيع الأسلحة، هذا التوجه عبر عنه تلقائيا ومباشرا في تغريداته عبر موقع "تويتر" عندما ربط بين صفقة 400 مليار دولار التي وقعها مع السعودية وتوفير وظائف كثيرة بأمريكا. ومع بروز بعض ملامح النزعة الأمريكيةالجديدة في المنطقة العربية، فليس من المستبعد أن يلجأ "ترامب التاجر" إلى اعتماد الأسلوب نفسه والطريقة مع المغرب والجزائر، وذلك بتوظيف الموقف الأمريكي حول نزاع الصحراء، ولا سيما أن الاحتقان الموجود منذ عقود بين البلدين يعتبر أرضية خصبة لتنزيل السياسات الأمريكيةالجديدة، وتأجيج الصراع والخلافات؛ وهو ما يسمح ببيع مزيد من الأسلحة وجر المنطقة المغاربية بأسرها إلى المجهول. هذا الوضع الجديد، بالإضافة إلى الأوضاع الدولية والإقليمية كلها عوامل تدفع في اتجاه مراجعة المغرب والجزائر لسياساتهما وعلاقاتهما البينية، والانخراط بشكل جدي وفعال بغية تجاوز الملفات العالقة وبناء جسور الثقة، وإقامة تحالف إستراتيجي للدفاع عن المصالح المشتركة واستقرار ومستقبل شعوب المنطقة المغاربية. هذه المنطقة تعيش في الآونة الأخيرة على إيقاع مجموعة من التحديات الأمنية والاقتصادية والسياسية؛ ومن أبرزها الإرهاب والجريمة المنظمة والاتجار بالمخدرات والأسلحة والهجرة غير الشرعية٬ وتمويل الإرهاب بكافة أشكاله٬ هذه كلها تشكل أخطارا تهدد الأمن المغاربي ومحيطه المتوسطي. وبالإضافة إلى التوجهات الجديدة للإدارة الامريكية التي تثير التوجس والريبة، توجد كذلك مجموعة من الملفات الحيوية بالمنطقة التي تستلزم تحالف المغرب والجزائر وتفرض تنسيق جهودهما في المرحلة المقبلة، ويمكن اختزالها في ثلاثة ملفات حساسة: الأول، يرتبط بالوضع في ليبيا؛ فهذه الدولة بمثابة ثقب أسود يهدد المنطقة المغاربية برمتها، حيث يبقى السيناريو الأسوأ هو أن تسقط ليبيا في سيناريو الصومال في ظل استمرار العداء بين الفرقاء الليبيين المتحاربين، ما قد يجعلها تتحول إلى ملاذ آمن "للحركات الجهادية"، وتصبح كذلك معقلًا لها لتدريب الشباب المستقطب، وتمويل أنشطتها من خلال محاولة السيطرة على آبار النفط. كما أن "التدخل الاجنبي" يندر بقرب "أفغنة ليبيا" واستحالة استعادة وحدة أراضيها، الأمر الذي يعتبر بمثابة تهديد حقيقي لأمن واستقرار شمال إفريقيا ككل. ثانيا، يتعلق بالتهديد الأكثر خطورة الذي تمثله الجماعات الإرهابية الموجودة بكثرة بالقرب وعلى تماس مع الفضاء الجغرافي المغاربي، وبالتحديد بمنطقة الساحل وجنوب الصحراء، حيث إن رفض الجزائر التنسيق مع المغرب لمحاربة هذه التيارات المتشددة يؤثر سلبا على المجهودات الرامية إلى محاصرة وتجفيف منابع هذه الظاهرة. ثالثا، وهو الملف الاقتصادي والاجتماعي، بحيث إن رفض الجزائر فتح الحدود مع المغرب أثر سلبا على ساكنة المناطق المحاذية للحدود في كلا البلدين. كما أن توتر العلاقة بين الجارين حال كذلك دون تطوير وإنعاش المبادلات التجارية وفوّت على الشعبين فرصة الاستفادة اقتصاديا وسياحيا من الموارد والإمكانات المتوفرة في كلا البلدين. وختاما، فالتدخلات الغربية الملتبسة والخفية بالمنطقة العربية عامة، وانتشار التيارات الاسلامية المتشددة بالمنطقة المغاربية والوضع المعقد في ليبيا خاصة، تجعل من التحالف المغربي-الجزائري في المرحلة الراهنة تحالفا إستراتيجيا وضروريا لدفع المخاطر المحدقة بالشعوب المغاربية والتصدي كذلك للمشروع الغربي التجزيئي الذي يتربص بالمنطقة. ويمر المدخل الجوهري لتجاوز الوضعية الحالية بين البلدين وطي صفحة الماضي عبر قيام الجزائر بمراجعة شاملة وموضوعية "لعقيدتها السياسية والعسكرية" التي تعتبر المغرب "جارا عدوا"، مراجعة تستحضر المصالح والمصير المشترك والروابط التاريخية والدينية والثقافية التي تجمع الشعبين المغربي والجزائري. وعوض أن تكون "العقيدة العسكرية الجزائرية" التي تمت بلورتها خلال الحرب الباردة من لدن جنرالات معظمهم مات أو تقاعد أو أقيل، مخالفة ومعاكسة لمنطق الجغرافيا والتاريخ والمستقبل، فالأجدر هو أن تكون منسجمة ومتناغمة مع مصالح الشعب الجزائري وتصب في اتجاه تعزيز وحماية أمن ومستقبل شعوب المنطقة المغاربية التي تجتاز مرحلة حساسة في تاريخها؛ فتغيير "العقيدة السياسية" سينعكس إيجابا على علاقة الجزائر بجيرانها وتحالفاتها ومواقفها تجاه العديد من القضايا والملفات ليغدو أكثر انسجاما مع المغرب في التعامل مع الإشكالات والتحولات الدولية. وفي هذا السياق، فالموقف المغربي الأخير تجاه قطر من خلال إرسال مواد غذائية كان هدفه كسر الحصار المفروض على هذا البلد رمزيا ومعنويا؛ وهو موقف ينسجم مع العقيدة السياسية الجديدة للمملكة على المستوى الدبلوماسي، بحيث ترتكز هذه العقيدة على تنويع الشركاء والحلفاء وعدم وضع البيض في سلة واحدة، وتفادي الاصطفاف بشكل غير متوازن وبخلفيات عاطفية ومزاجية غير محسوبة وراء بعض القوى العظمى. وهنا، يجب استحضار مؤشرين مهمين: الأول رفض الملك حضور القمة العربية الأخيرة التي أقيمت بالأردن؛ والثاني رفض الملك الحضور كذلك للقمة الخليجية- الأمريكية التي أقيمت أواخر ماي من هذه السنة. وكلتا القمتين كانتا مقدمة لخلق تحالف عربي جديد لم تكن خلفياته وأهدافه واضحة وشروطه مكتملة. *باحث في العلوم السياسية