في هذا المكتوب، الذي ينشر على حلقات طيلة شهر رمضان، دعوة صادقة إلى الإقبال على الحياة. إنه يقول، من خلال سرد أحداث واقعية من حياة إعلامي مغربي قهر المستحيل بقدم واحدة، إن الحياة جهد وعرق وتضحية.. وإنها – قبل ذلك وبعده – جميلة حقا، وتستحق أن تعاش. الحلقة الثالثة والعشرون وإني لمقيم على ذلك الحال حتى أذن مؤذن الرحيل عن مدينتي الكبيرة. والحق أنها تَألف وتُألف. وقد عشقت أزقتها العتيقة، فكنت إذا مررت عليها أخذتني الدهشة كالسائح يراها لأول مرة. ثم يشتعل خيالي فكأن الزقاق قطعة من قرون مضت، بأسمائها وأزيائها وأشيائها. وكنت أشم رائحة البخور المنبعث من زوايا العهود الغابرة. وإذا نغمة الملحون تصدح كأنها موسيقى تصويرية تصاحب المشاهد المعروضة على مخيلتي. وحين أقف اليوم على جسر الذكرى ماضيا إلى ذلك الزمن الجميل، أراني شعلة أمل تهبُّ عليها أعاصير الإحباط فلا تنطفئ.. إيهٍ، يا صاحبي! فكيف القول حين جلست إلى ذلك الكاتب تعرض عليه روايتك. وإنك لم تجتز الجملة الأولى حتى وهن عظمك وذبل جلدك وأقسمت بالأيمان المغلظة ألا تعود إليه ما حييت. ووضع الأديب نظارته قريبا من أرنبة أنفه، وقال: - هذه الكلمة بدّلها. وهذه.. وهذه أيضا.. ثم بدا لي كأنه يغفو أو هو يستجمع تركيزه. ووضع نظارته على المائدة. وإن عينيه لتخبراني بالأمر الجلل. ولقد صدقته أو كدت. وبدا أن الرجل فهم روايتي بأحداثها وشخصياتها، ولم يقرأ فيها سطرين ! واعتدل في جلسته وحرك يديه كأنه يسبح في الهواء ثم انطلقت كلماته. وإني لأسأل الله أن يسكت لأذهب إلى حال سبيلي، فما سكت. وما كان لي من سبيل سوى الصبر الجميل. وكنت أهز رأسي موافقا، في حركة ميكانيكية أرهقت عظام رقبتي. ثم آلمتني جلستي. وكان الحذاء الطبي يقرصني في قدمي. واعتراني العياء والذهول والسأم. وشعرت أن منتهى أحلامي، في تلك اللحظة، أن أستلقي على ظهري وأغط في نوم عميق. وكان يقول: - في الرواية الحديثة لا ينبغي الإفراط في توظيف الكلمات.... فكنت أدعو الله في نفسي: - يا رب.. يسكت.. يا رب! ولكنه لم يسكت حتى أحالني خرقة بالية قد يبست فتحاثّت كما تحاثُّ أوراق الشجر اليابسة. وكنت أهم بالكلمة فيعلو صوته ويتطاير اللعاب من فمه ثم ينحرف ريقه إلى جهة اليمين وإلى جهة الشمال فيركم بعضه بعضا حتى يتبدى في صورة الزبد ناصع البياض. فإذا رأيت ذلك لهجت بالدعاء صابرا ومحتسبا. وقد عرضت روايتي على كتاب آخرين، فمنهم من رفعها إلى أعنان السماء ومنهم من هوى بها إلى سحائق الأرض. وتعلمت من ذلك أن العملية الإبداعية تجربة شخصية لا تخضع لمنطق الأشياء من خارج منطقها هي. وأن المعيار الوحيد المشترك هو معيار الوعاء الفني، أعني اللغة وقواعدها والصورة وأدواتها والنغمة ومقاماتها. وأعدت قراءة المكتوب. وأرهفت السمع لتدفق الموسيقى فبدا انسيابيا يطرب الأذن. ثم تابعت فإذا بالنشاز يعكل علي التدفق المألوف. وخفق قلبي فغيرت وبدلت. ثم ألقيت بصري على الورق فارتد حسيرا. وبدا لي - ساعتها - أن ثمة شيء ما على غير ما يرام في هذه الرواية. وقال لي خاطر مفاجئ: - ستكتب خيرا منها.. ثم مزقتها. وانتهى النشاز! وكنت مشغولا بالنجاح. وقلت لنفسي إنه تيمة فنية، أو هذا ما ينبغي أن يكون. ثم أعددت برامج تعلي من شأن هذه القيمة وتراهن على إفشائها. وكانت الإذاعة وجهتي، وفي قلبي أمنية: - هذا الزخم الذي راكمته يحسن توظيفه في عمل إيجابي.. وقال الخاطر: - قل للناس.. في الإذاعة وفي كل مكان.. إن الحياة لا تمنح هدايا مجانية. وإنها حب وأمل وخير وعطاء. وكذلك كان. [email protected]