في هذا المكتوب، الذي ينشر على حلقات طيلة شهر رمضان، دعوة صادقة إلى الإقبال على الحياة. إنه يقول، من خلال سرد أحداث واقعية من حياة إعلامي مغربي قهر المستحيل بقدم واحدة، إن الحياة جهد وعرق وتضحية.. وإنها – قبل ذلك وبعده – جميلة حقا، وتستحق أن تعاش. الحلقة الرابعة عشرة وقرأت الروايات ففرحت وحزنت، وضحكت وبكيت. وشعرت، حقا، أنني إنسان. وكنت أقول، كأنني أخاطب توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ويوسف وإدريس وغيرهم: - سأكتب يوما مثل ما تكتبون.. وعلى ما كان في حياتي من لحظات ألم عابرة، فقد عشت طفولة سعيدة. وكنت إذا دخلت الحمام لأغسل رجليّ، فركت القدمين على "قدم المساواة"! وكان يداعبني خاطر فيهمس لي: هما سيان. لا تأتيك المريضة تسألك لِم لمْ تفركها كما تفرك الصحيحة! فأبتسم وأبالغ في غسلها، ويتحرّك وجداني كأنها فلذة كبدي المريضة. وقد اشتط الوجد بي فألّفت حكاية "الوحشة" و"البنت الصغيرة". وكنت أرويها لنفسي، فأقول - مستعينا بمواهبي المسرحية - إن هذه القدم الصحيحة كما ترى وحشا في الحقيقة. أما هذه المريضة الجميلة فهي الطفلة الصغيرة. وتتعارك القدمان. ويهب الفتى الصغير يحمل القدم المريضة كأنه يساعدها في العراك الضاري بين الرِّجلين! وكنت أنتصر أنا. لا القدم اليمنى ولا اليسرى. ثم رويت حكايتي لأطفال في أسرتي، فعجبت لهم إذ هبُّوا جميعا يدفعون القدم المريضة لترد عن نفسها. وتختلط مشاعري ولا أعرف كيف ينبثق الحنين في الأعماق، ولا كيف تنتهي هذه الرغبة المجنونة في التحليق. وأنظر إلى تلك اللحظات الجميلة كأنها طيفُ صور متحركة يُعرض تحت ناظري. وتتدفق الدموع إلى مجراها ثم تطل قطرة.. أما هذه فإنها دمعة وجد، لا دمعة ألم! وكنت إذا اختليت بنفسي في البيت، عمدت إلى حذائي الطبي فارتديته وحملت المكنسة ثم انطلقتِ الجملُ العاصفاتُ والضحكاتُ الصاخباتُ: - هاهاها.. أنا الرجل الحديدي، أيها السادة.. من يبارزني؟ ولم أكن إلا أنا وخيالاتي، فكنت أبارزهم خيالا بخيال، حتى ينتصر الرجل الحديدي فيمتطي مكنسته ويعود أدراجه إلى القبيلة يزف لها خبر النصر المبين. وربما التقى على مضارب قبيلته بخيالات أخرى فصرعهم.. وهكذا، حتى أكتفي لعبا ثم أٌقوم إلى شيء آخر. لكن هذه العلاقة الوجدانية بيني وبين حذائي الطبي الطويل كانت تصير أعنف حين ينكسر المسكين.. فأنكسر معه. كانت الساعة تشير إلى الخامسة مساء. وقد خرجنا قبل موعد الانصراف بساعة. وهو حدث حري بإثارة البهجة في النفوس. فما لبثت أن تحركت الأيدي والأكتاف والأرجل وتطايرت الأوراق. وكنا نسير في صف طويل وغير منتظم. وأضفت أنسام تلك العشية ألقا شبابيا على حركتنا الصاخبة. وإني لأتقافز كما يتقافزون، وقد نسيت "الوحشة" و"الرجل الحديدي" وأضرابهما، واندمجت في مناخ اللعب الجماعي، حتى سمعت "طق". يا إلهي..! ما الذي يحدث؟ وتمايلت فإذا نظري شاخص إلى السماء وأنا أهوي إلى الأرض. وبدت لي أصابع كثيرة تريد أن تتلقفني. وتكورت حول وجهي وجوه عديدة. ثم علتني حمرة قانية، وقد امتدت الأيادي إلي: - مالك أصاحبي..؟ - الصباط ! - راه مزيان.. وكان علي أن أقول إنه الحذاء الطبي الطويل، لا الصباط الذي تعرفون. لكن لساني كف عن الكلام يأسا وقنوطا. ثم اعتنقني صديقان وسِرتُ بينهما وقد انمحت كل الصور من ذهني وأصبح قلبي فارغا هواءً..