الثلاثاء 6 نونبر 84 لم أكن وحدي، فقد مارست نوعا من الطغيان على صديقي المهدي لكي يصاحبني إلى قرية »بوروطة« ,حيث يوجد عالم "»بويا عمر"« الذي لا أعلم عنه شيئا سوى ما سمعته من روايا عن طقوسه العجائبية. لقد كنت موزعا بين التوجس ورغبة ولوج المأزق، لكني اعترف أنني كنت فزعا من الذهاب وحدي إلى تلك القرية التي قيل لى أنها مليئة بمجانين مقيدين بالسلاسل وآخرين طلقاء تتلبسهم من حين لآخر حالات قد تدفعهم للفتك بمن قاده سوء الحظ إليهم. من هنا كان مصدر طغياني على صديقي في أن نلج معا طقوسا لا عهد لنا بها. كانت أمطار الخريف قد غسلت أشجار مراكش التي تلف خيوط شمس الصباح الدافئة, وكان صديقي مسلحا بجلباب وقد نصحني بأن أفعل نفس الشيء لكي لا نلفت انتباه نزلاء القرية, لكنني أصررت على الذهاب بملابسي العادية. الثلاثاء 6 نونبر 84 لم أكن وحدي، فقد مارست نوعا من الطغيان على صديقي المهدي لكي يصاحبني إلى قرية »بوروطة« ,حيث يوجد عالم «بويا عمر» الذي لا أعلم عنه شيئا سوى ما سمعته من روايا عن طقوسه العجائبية. لقد كنت موزعا بين التوجس ورغبة ولوج المأزق، لكني اعترف أنني كنت فزعا من الذهاب وحدي إلى تلك القرية التي قيل لى أنها مليئة بمجانين مقيدين بالسلاسل وآخرين طلقاء تتلبسهم من حين لآخر حالات قد تدفعهم للفتك بمن قاده سوء الحظ إليهم. من هنا كان مصدر طغياني على صديقي في أن نلج معا طقوسا لا عهد لنا بها. كانت أمطار الخريف قد غسلت أشجار مراكش التي تلف خيوط شمس الصباح الدافئة, وكان صديقي مسلحا بجلباب وقد نصحني بأن أفعل نفس الشيء لكي لا نلفت انتباه نزلاء القرية, لكنني أصررت على الذهاب بملابسي العادية. وما كادت السيارة تتحرك حتى طلب مني المهدي أن نمر على صديقنا السي محمد, ويظهر أن السيد محمد كان يأخذ ثأره الأسبوعي من قلة النوم بسبب التوقيت المقيت الذي زيدت بمقتضاه ساعة على التوقيت العادي مغتنما عطلة المسيرة الخضراء. قال المهد للبنت الصغيرة التي كانت بالباب بلهجة واثقة" »أيقظيه من النوم"« وساعتها أحسست أن المهدي يمارس طغيانه على صديقنا النائم, وما كانت تمضي بضع دقائق حتى خرج السي محمد »يفرك« عينيه وعندما حاولت الاعتذار له بادرني بأن الأمر بالنسبة إليه فرصة ذهبية, فهو أيضا يريد أن يشاهد عجائب قرية »بوروطة«. وهنا أصبح طغياني وطغيان المهدي طغيانا مشروعا. إذن أصبحنا ثلاثة وأمامنا ما يقارب مائة كيلومتر للوصول إلى ضريح «بويا عمر» واعترف مرة أخرى أنني أجهل الطريق إلى «بوروطة» وهذا شيء محزن، لكن المهدي خبير بالمسالك والطرق, فقد بادرني توا «خذ بداية طريق السراغنة وعرج على العطاوية باتجاه دمنات ولابد لنا من سلوك بضع كيلومترات من طريق غير معبدة» طيلة الطريق تحدثنا عن الجن وحالات الهيستريا وكتاب الدكتور رؤوف عبيد «الانسان روح لا جسد» وحالات «الرجم» التي شاهدها المهدي شخصيا حيث تتساقط الأحجار بغزارة من مصادر لا مرئية على من أصيب بحالة الرجم وحكيت لهم عن مساجلة طريفة جرت بحضوري بين أحد الأطباء النفسانيين وصديق كان يحاججه بوجود الجن انطلاقا من القرآن: «وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون» وكيف أن الفقهاء المسلمين ألفوا مدونة تشريعية لتنظيم العلاقات بين الجن والإنس. قطعنا قنطرة وادي تساوت وكان يحمل آثار الجفاف. وظل الحديث يشغلنا إلى أن لم يبق بيننا وبين دمنات سوى خمسة وعشرين كيلومترا. توقفنا لأننا سنقطع شريطا ترابيا, غير أن المسالك متعددة, وهنا ينتهي علم المهدي لبتدئ «علم آخر». كانت بالقرب منا عربة يجرها فرس أعجف وعليها شخصان بادرناهما بالتحية وسألناهما عن الطريق إلى «بويا عمر» ,فنزل أحدهما مشيرا إلى أن هناك عدة مسالك وكلها مملوءة بالوحل الكثيف وأنه من الضروري أن يرافقنا عبر مسلك آخر أقل وحلا. طلب الرجل من رفيقه أن يواصل سيره مخبرا إياه بأنه سيصاحبنا إلى «بويا عمر». عجيب لهذه الاريحية, حيث ضحى الرجل بمشاغله مفضلا مساعدتنا. ركب الرجل معنا في السيارة ومضينا عبر شريط ضيق غير معبد لا يخلو من حفر ومستنقعات. وما كدنا نستأنس به حتى علمنا أنه من «ذرية» الولي وظل يحدثنا طيلة ست كيلومترات عن بركات «بويا عمر». والآن نصل إلى »بويا عمر« ,حيث تتراءى قبته البيضاء، نزلنا فأحاط بنا كثير من المتسولين العجائز والأطفال، ومررنا بصفوف من أكشاك بيع الخبر وبعض دكاكين الخضر وصاكة الدخان الوحيدة، كان الجميع يتابعنا بنظراته ونحن نتقدم نحو الضريح، قال لنا الرجل الذي تطوع لمرافقتنا «بويا عمر ممنوع على النصارى واليهود» وأشار علينا بخلع أحذيتنا وظل هو خارج الضريح. عجبت كيف لم أر الأشخاص المقيدين بالسلاسل الذين حدثوني عنهم في مراكش. لم أر إلا الفقر المدقع والأزبال وبراريك قصديرية تتراءى من بعيد وأشغال بناء على جانب الضريح... ودون ذلك فالحياة عادية وها نحن ندخل الضريح بسلام آمنين. على عتبة الضريح تلقفنا رجل نحيف مبادرا بالترحيب فقلت ل هل يلزمنا أن نقتني شمعا أو نقوم بفعل شيء ما قبل الدخول، فقال: لا يتطلب الأمر شيئا سوى أن تطوفوا ثلاث مرات على ضريح الوالي، ودون أن ينتظر موافقتنا أمسكني من يدي وشرع يطوف بي. وهنا بدأت أتفرس وجوه الطائفين, فبدت لي عيونهم الزائغة وتسربت إلى سمعي أصوات كطنين النحل وهمهمات. إنهم لا يقولون شيئا ولكنهم يهمهمون وكأن بهم خدرا. قلت لصاحبي وماذا أقول؟ فرد بهمس: قال ما تشاء أطلب بغيتك من الولي فهي مقضية. والحقيقة أنني كنت في حالة ذهول فاكتفيت بالدوران وتركت مهمة عدد الدورات لصاحبي إلى أن نبهني إلى انتهاء الطواف. وبعد أن رجعت إلى الوراء تراءى لي حشد الطائفين المتزاحمين والمقبلين لأحجار الضريح، وكان إيقاع الطواف سريعاً ولم يكن يهمهم أن يدوروا على الضريح ثلاث مرات، بل كانوا في دوران مستمر وطنينهم يخفت ثم يرتفع. وهنا بدأت أرى السلاسل الصغيرة تقيد الأقدام. وقد أمسكت من أطرافها بأقفال صغيرة. حشد كثيف وجو كالغسق داخل الضريح وفتاة بدوية تصرخ وتضع رأسها على الأرض وترفع رجليها إلى فوق ثم تنقلب إلى الخلف بسرعة معيدة نفس الحركة وهي تدور على الضريح مرددة: «وابويا عمر...». رفعت بصري إلى سقف القبة، فوجدته مصبوغاً بالأحمر والأخضر ولا نقش فيه. كما في أضرحة بعض المدن، وبدأت أبحث عن لوحة الضريح لأقرأ ما كتب عليها، فلم أجد أية لوحة ماعدا السجاجيد الصغيرة الملونة المعلقة على حيطان الضريح. لاشيء يلفت الانتباه في المعمار، إنه معمار بسيط جداً كبساطة «بوروطة»، ومثلما تغرق «بوروطة» في الظلام ليلاً لعدم وجود الكهرباء وتغرق في العفن لعدم وجود الماء، كذلك يغرق الضريح في الظلام والعفن، لاشيء غير الشمع والمستنقعات التي يشرب منها السكان والمرضى. التفت إلى يميني لأدقق النظر في بعض النساء الجالسات على الحصير، فرأيت امرأة تظهر عليها آثار النعمة. وقد كست يديها بأساوير من ذهب وترتدي جلباباً أخضر.. امرأة من المدينة بدون شك، فقلت لمقدم الضريح: ماذا تفعل هذه المرأة هنا؟ فقال: إنها امرأة من عائلة كبيرة كانت مقعدة، عندما حملوها لأول مرة إلى الضريح، والآن استعادت بعض صحتها وبدأت تقف على رجليها. ثم طلب من معاونه أن ينهض المرأة ويتمشى بها في صحن الضريح، فرأيت أن المرأة تنهض بصعوبة وتمشي ببطء كالكراكيز. كان بي فضول قوي لاكتشاف كل شيء، فاستدرت جهة النافذة المنخفضة ذات الشباك الحديدي التقليدي، فرأيت أقفالا صغيرة مشدودة على قضبانه. وإذا كانت حكاية هذه الأقفال معروفة وتوجد في جل الأضرحة، وسبق أن كتبت عنها في مذكراتي المنشورة عن ضريح أبي العباس السبتي، إلا أن شيئاً آخر استلفتني وهو منظر سلسلة حديدية طويلة مكومة على مصطبة النافذة. كانت المصطبة مغطاة بفرو خروف وعليها منديل أخضر، فقلت للمقدم: ما وظيفة هذه السلسلة؟ فقال: سأحدثك عنها فيما بعد، لكن عليك الآن أن تجلس وتحني رأسك، ولم ينتظر حتى أحني رأسي فغطاه بالمنديل الأخضر وشرع يتمتم وأحسست بيده تمسح رأسي من فوق المنديل، وكان يمطرني بدعواته التي لم أكن أتبينها كلها ولكنها على كل حال دعوات بالصحة والبركة ونجدة »بويا عمر« في الملمات. وبعد ذلك، لم أعد أسمع سوى همهماته، ثم بدأ يبخ فوق المنديل وكان هذا مأزقي الأول الذي انتهى برفع المنديل. طلب مني أن آخذ راحتي فوق مصطبة النافذة، لكن لم أتنازل عن طلبي الأول حول وظيفة السلسلة الحديدية، فقال: إننا نقيد بها الخشبة المسكونة بالملك (بفتح الميم وتسكين الآلام) حتى نتمكن من صرعه وطرده من الخشبة. وماذا تقصد بالملك والخشبة؟ أما الخشبة فهي الجسد وأما الملك فهو الجن الذي يسكنها ويضربها. وهنا قلت له هل يمكنني أن أرى حالة من الحالات التي تصرعون فيها الجن؟ فقال ببشاشة: (هو اللول) ثم نادى على مساعده قائلا: احضر العفريت. واستدار نحوي مطمئناً، لا تخف إنه ليس عفريتاً، بل هو شاب مريض، ولكن هكذا نسميه, فقد سكن خشبته ملك جبار، عندما يتملكه يتحول إلى قوة صاعقة, لكني أعرف كيف أروضه. ولم تمض بضع دقائق حتى أتى ب »"العفريت« "وقد لاحظت أنه يتمنع ويحتج قائلا: لماذا تأتون بي إلى هنا دعوني وشأني. فقال له المقدم: لا نريد بك إلا خيراً، اجلس أولا على (الهيدورة) فجلس، وبخفة متناهية أدار المقدم السلسلة على عنقه وصدره وطلب منه أن يغمض عينيه ففعل، وبدأ المقدم يمسد شعر الشاب ثم دخل معه في حوار: ماذا ترى؟ لا أرى شيئاً. قل ولا تخف. ثم بدأ المقدم يضرب على صدر الشاب بيده فبدأ هذا الأخير يهذي بعبارات غير مفهومة, ثم خرجت رغوة بيضاء من جانبي فمه، وتحول جسده إلى ارتعاشات، كمن لسعه تيار كهربائي وصدرت عنه صيحات قوية، فشرع المقدم يبخ على وجهه من ريقه، رافعاً صوته وكأنه يخاطب شخصاً آخر غير الشاب المرتعد: «اخرج لباباك.. رانا غادي نحرقك بالنار». وعند هذه العبارة، امتدت يد الشاب إلى السلسلة الحديدية، فنزعتها بعنف ثم دفع المقدم بقوة ودفعني وانطلق كعفريت حقيقي.. تخلص من كل ثيابه العليا ولم يبق سوى بالبنطلون، وهنا قال لي المقدم بلهجة المنتصر: انظر سيخرج هذا العفريت كل هذه الخلائق من قبة الضريح. وفعلاً بدأ يجري ويصيح ويضرب ظهره العاري بالحائط الأيمن ثم يندفع بنفس الحركة إلى الحائط الأيسر، وكان صوت ارتطام ظهره بالحائطين قوياً. لم أستطع تحمل المشهد، فقلت للمقدم: أوقف هذا العذاب، فقال إنه علاجه. كان كل من في قبة الضريح قد انصرف في هلع وانطلق الجميع نحو الصحن، وانتظرت انصراف الشاب نحو أحد الحائطين، فأسرعت بالخروج. بالقرب من عتبة الضريح، طقس آخر فقد جلس المهدي والسي محمد القرفصاء على الحصير وأمامهم صينية الشاي وصحن مملوء باللوز والجوز المقشور ف,إلى جوارهم شابان أحدهما يمسك «القصبة» وهو ناي طويل غليظ والآخر يمسك دفا وقد اتكأ عليه ومعهم شيوخ ملتحون, علمت منهم أنهم جميعاً من «ذرية» الولي. جلست، فقدموا لي الشاي وصحن اللوز، والحقيقة أنهم كانوا كرماء معنا وفي غاية اللطف كذلك. وأعترف أنني كنت بحاجة لكأس من الشاي, ذلك أن برودة أرضية الضريح قد بدأت تدب في أطرافي ومع ذلك لم اتخل عن فضولي, فقلت لصاحب "القصبة" وماذا تفعلون أنتم هنا, هل تعزفون للمرضى؟ قال نعم، هناك نوع من الكلام نعزفه بالدف ونوع آخر بالقصبة والدف معا. قلت لصاحب الدف هل تسمعني الكلام أولا قبل العزف؟ فأشار إلى شخص يجلس بجانبه فرفع صوته بالإنشاد واستمهلته حتى أكتب فلم يمانع. كان جمع من الناس قد التأم حولنا, فبدأت أرى مرة أخرى منظر السلاسل التي تقيد بعض الأقدام ولكن الجميع منشغل بما يدور بيني وبين العازفين. رفع المنشد صوته القوي مرددا بمهل: "»يلا دخلتي لتاساوت سلم وفيها لا تشتم راه فيها راعي لدهم مع الموتى كيتكلم جاو العلما من فاس وسارو على خيار الناس وصابو ماليه قياس فعولومات قوية نطق شاب تحت التراب قال ليهم هذا فارس ركاب واش جايبكوم من أسباب قال ليك إلى لحقتي للقنطرة سلم بويا عمر مع الجن كيتكلم صدق طبيب فالمغرب هو من تركيب الحبيب قال لك نوض مع لهلال وزور مولاي رحال عينو تسقي الساقية وعراصي الورد مع التفاح من داقو كيرتاح تاساوت سواقيها كتكب وبويا رحال مكب وعلى كلامو كنجدب سولو قلبي مالو حب ربي ما صبت بحالو«" في هذه الأثناء طلب منا أحد الشيوخ أن نخصص مكانا لامرأة وفتاتين ليجلسن، ويظهر أنهن قادمات من إحدى المدن، ففي (بوروطة) تلتقي جميع جهات المغرب. قلت لصاحب الناي أريد أن أسمع كلاما آخر معزوفا بالدف والناي, فتململ في مكانه ومد يده نحو إناء الماء الموضوع على »بوطاكاز« صغيرة ليتأكد من غليان الماء وبعد ذلك شرع في العزف على الناي وكان يعزف بعذوبة ورقة. وبعد برهة ارتفع صوت المنشد يلقي ازجاله إلقاء جميلا بدون غناء يصاحبه عازف الناي: "»وليدي ما يسكن بلا دات الحكرا اركبت وليدي البحر بانت لي غير لفجوج لمواج تقلب لمواج وليدي كتروج وضاقت نفسي وليدي ما قديت على برد لخروج هاكا ياوليدي الدنيا والزمان غدارين بزوج بويا عمر وليدي شفناه سوق لا يعمر والناس وليدي كتجيه من كل فجوج مول النية وليدي قضى ونوى الخروج وقليل النية وليدي بقى« ما بين لبرارك كيروج أنا نقول وليدي لحباب وهما كيف الدياب قطران بلادي وليدي ولا عسل البلدان اكتب زمم ها الدوايا ها القلم الراكب أوليدي دون قانون لابد وما ينزل«". وبعد أن تكلم المنشد عن الشيطان وغدر الانسان ولم يسعفني قلمي لالتقاط عباراته, انهى انشاده وبدأ في عزف الدف بإيقاعات الجذبة. كانت الفتاة الجميلة الوديعة التي تجلس الى جانب أمها تتابع الانشاد، لكن بعد أن بدأ إيقاع الجذبة يسرع, لاحظت أن الألم يعتصرها وأنها امسكت بيدها وسط ظهرها وبدأت تتقوس ثم تضرب رأسها مع الجدار, فأبعدها أحد الحاضرين فنهضت وكان ايقاع الجذبة قد حمي واتكأت على ركبتيها وبدأت تحرك رأسها بقوة وهي مغمضة العينين أماما وخلفا، ورأينا شعرها الأسود الطويل الناعم يتلاعب به ريح الخريف وزلزال الجذبة. كانت يداها متشابكتين خلفها وقد ظهرت أناملها الرقيقة وأظافرها المصقولة بعناية ملونة بصباغة داكنة الحمرة. طال العزف وطالت الجذبة وصاحب الناي مندمج في هذا الطقس، والدف يكاد يطير من يد ناقره، والأشخاص الواقفون المقيدون بالسلاسل يتمايلون يمينا وشمالا وبين حين وآخر يصيح بعض الحاضرين: (شايلاه أبويا عمر). وبعد أن وصل الإيقاع ذروة السرعة توقف العزف ولم تتوقف الفتاة, بل شرعت في ضرب الأرض بقبضتها وبدأت تشهق ثم انبطحت على الأرض تتلوى، وكادت تطيح بإناء الماء الساخن، فانبرى أحد الرجال الملتحين وهو متوسط السن وقد بدا الكحل في عينيه فارتمى عليها راكبا على كتفيها بفحولة ظاهرة وضغط عليها ثم انحنى على اذنها وبدأ يقول لها كلاما غطى عليه شهيقها ثم سمعنا صوته يرتفع فتبين أنه قرآن كريم. وفي هذه الأثناء نهض صاحب الدف صائحا (شايلاه ابويا عمر.. العطفة...) واتجه نحو اناء الماء الذي بلغ أقصى درجات الغليان ووضع انبوبة مباشرة في فمه وشرب بعمق ثم بدأ يبخ الماء على الفتاة وعلى وجوهنا فأصابني الهلع ولكن قطرات الماء التي تكورت على وجهي من فمه كانت كماء مثلج. و كرر ذلك مرارا ولو أنني لم أر الماء يغلي على البوطاكاز ويكاد اناؤه يطير من شدة الغليان لقلت أن في الأمر حيلة. أية قوة خارقة تجعل هذا الرجل يشرب ماء في أقصى درجات الغليان ويعيده ماء باردا وكأنه قد أخرج توا من ثلاجة! كان جسد الفتاة قد سكن، فتوسدت ركبة الرجل الذي قرأ القرآن في اذنها. ونحن نهم بالانصراف عن العازفين منحناهما بعض النقود، لكن الأمر لا ينتهي هكذا، فمن آداب هذا المحفل أن نقف لنسمع الدعوات. توجه عازف الدف إلى المتحلقين حوله من المرضى والأصحاء قائلا وهو يشير إلينا: »ادعيوا مع هاد السبوعا«. نظرت الى المهدي لأتأكد هل أصبح سبعا فوجدته أيضا يتفحصني هل صرت سبعا. أما السي محمد فقد كانت نظاراته تلمعان تحت الشمس. انفلتنا والدعوات تطاردنا وبحثث عن الرجل الذي تطوع لمساعدتنا فوجدته ورائي. قلت للرجل سر بنا إلى البراريك أريد أن أرى وأحاور بعض المرضى. سرنا مسافة بين القاذورات والمستنقعات وكان يسير معنا أحد المعتوهين يسب »بويا عمر« ويلعن (بوروطة). كان يجر سلسلته ولكن لم يصدر عنه أي عنف مادي. أن عنفه منحصر فقط في سبابه للولي، لكنه ينقلب ثم يرفع صوته طالبا بركاته وينحني على أرض (بوروطه) مقبلا، وفي مشهد مأساوي انحنى على مستنقع عكر وادار فيه أصبعه وهم بالشرب فانطلقت نحوه لا منعه لكن مرافقي نبهني الى أن هذا الماء العكر دواء شافي وعلى من يريد الانتفاع ببركات الولي أن يجعله ماءه اليومي. وهذا الماء العكر يسمونه هنا في (بوروطة) »الحناء). شرب المعتوه جرعات متعددة وبقدر ما استلفتني المشهد، فإنه كان عاديا بالنسبة للآخرين من نزلاء هذه القرية وسكانها. وصلنا الى البراريك القصديرية، فالتقيت بأحد النزلاء ثم بادرته بالتحية وطلبت منه أن يحدثني قليلا عن تجربته، فعلمت منه أنه مقيم في بويا عمر مدة خمس سنوات، وأن حالته تحسنت بعد أن لم ينفع فيه علاج المصحات العقلية، قال بأنه كان يعمل رئيسا لأحد أوراش البناء في البيضاء، فأصابته حالات كان يشعر فيها بأشباح تطارده. قلت له: والآن بعدما تحسنت حالتك لماذا لا ترجع إلى بلدتك وإلى عملك؟ قال لي واثقا: انتظر البشارة.. انتظر الرؤيا. حينما أرى بويا عمر (يقف علي) سيكون ذلك هو موعد رجوعي. كان الرجل يتحدث برزانة، بل انه اقترح علي ان يريني اصدقاء له كانوا في حالات قصوى من المس وتحسنت حالتهم. وهم متعلمون وطلبة، متأسفا على عدم وجود بعض الليبيين والسعوديين الذين يترددون على (بوروطة) للاستشفاء والذين لم تصادفهم في هذه الزيارة. وفعلا قادني نحو إحدى البراريك... ونادى صديقه، فخرج شاب في السابعة والعشرين من عمره، وعلمت منه انه كان أستاذ مادة الاجتماعيات في ثانوية عمر بن الخطاب في وادي زم. وانه جاء للتداوي في بويا عمر منذ خمس سنوات، قلت له، كيف كانت حالتك من قبل؟ فقال انه كان يشكو من الارق والاخيلة. وكان يصيبه الصرع وعندما يشتد عليه الحال يسب ويضرب كل من كان أمامه. وكيف جئت الى هذا الضريح؟ -»وقف علي السيد, جاءني في المنام على شكل دركي وقد كنت أرى ضمن الاخيلة التي تؤرقني كوكبة من الدركيين تطاردني. ثم بعد ذلك جاءني السيد ايضا على شكل دركي اسمه عمر، لكنه هذه المرة كان يشبه صديقا لي اسمه عمر كذلك، ثم خاطبني: »ماذا يضرك؟« فحيكت له ما بي، فقال لي »يجب ان تأتي عندي«. وحينما رويت هذا الحلم لاقربائي أشاورا علي بالمجيئ الى بويا عمر. - هل سبق لك ان عرضت نفسك على طبيب نفساني؟ - نعم، ولكنكم كانوا يعطونني حبوبا مهدئة فقط لم تنفعني بأي شيء. في نظرك ما سبب مرضك؟ الجن. نعم الجن، وكنت عندما يصيبني الصرع أنطق وأتكلم كلاما غير مفهوم ولكنه بالتأكيد كلام الجن - أنت رجل مثقف. أستاذ كيف تفقد ثقتك في العلم. - لقد قرأت فرويد، ودراسات كثيرة عن الامراض العقلية، وثقافتي فرنسية، وانا أول من كان يعتبر الوضع الذي انا فيه الان خزعبلات، لكن الواقع المستمد من تجربتي قد خطأني. هل شربت أيضا من الماء العكر، او ما يسمونه هنا الحنا؟ - نعم ومازلت. ففيه شفاء - ألم تصب بمرض في أمعائك؟ - لا - الا تشعر بحرج الان وانا احاورك في موضوع حالتك؟ - لا - هل تسمح لي بنشر ما دار بيني وبينك؟ - انشر اسمي واذا كانت لديك آلة تصوير فالتقط لي صورة - هل تستطيع ولكن هل تريدها بالعربية لم بالفرنسية؟ - لا يهم.. اكتب بالطريقة التي تعجبك ودعته على أمل اللقاء به ليسلمني ما سيكتبه، وكانت علامات الانشراح بادية عليه، لكنه لا يرغب في الرجوع الي واد زم الا بعد ان يرى في منامه »بشارة الولي«. وفي براكة أخرى التقيت بتلميذين من الرباط الاول كان في الباكالوريا. علوم تجريبية عمره عشرون سنة، والثاني في نفس السن وكان تلميذا في السنة السادسة من الثانوي قلت الاول - لماذا جئت الى بويا عمر؟ - كنت اتلقى علاجي في مستشفى الرازي وهناك حلمت رجلا من الشرطة السرية وبيده قيد وقال لي اتبعني، فلما رويت منامتي لمن لهم معرفة بمثل هذه الاحلام نصحوني بالمجيء الى هناك، ذلك ان بويا عمر، يأتي دائما على شكل دركي أو شرطي سري. - كيف كانت حالتك - سبب هذا انني كنت اسبح في احد الوديان ورأيت شخصا يغرق امامي فاصابني فزع شديد، ومنذ ذلك الحين بدأت أغيب وأرى جنية في شكل امرأة تأتي لتجانسني، وكنت احس بجماع حقيقي، وتطورت حالتي فبدأت اضرب أمي رغم انني كنت احترمها بل واقدسها، وعندما وصلت الى هذا الحد حملوني بالقوة الى مستشفى »الرازي«. والان كيف حالك؟ - لا بأس، واتمنى الرجوع الى دراستي. اما الثاني، فسببه صدمة عاطفية مع احدى الفتيات، فبدأ يصيبه الصرع واستعمل الفاليوم ومهدئات أخرى قوية تحت اشراف الطبيب دون جدوى، ويقول بانه كان خاضعا للعلاج تحت اشراف طبيب اخر عسكري في الرباط، فلم ينفع معه علاج، وكان الاطباء يقولون له انك مريض بالوسواس فقط. قلت له - كيف جئت الى بويا عمر؟ - وجهتني رسل غيبية وانا هنا منذ اربعة شهور. - انت تلميذ في السادسة من الثانوي. كيف تترك مستشفى الرازي وتأتي الى هنا؟ - لا وجود لاي طبيب يعالج مثل هذه المسائل سوى هذه الارض السعيدة، وانا انصح مرضى الرازي ان يأتوا اليها هممت بالانصراف الى مكان آخر، لكن احد سكان القرية كان يستمع الى حديثنا وهو يمتطي حماره وقد وضع قبعة من الدوم على رأسه، استوقفنا قائلا: لقد كان عندنا هنا ضابط صف وكان مقيدا بالسلاسل وانا الذي فتحت قيوده لما شفي، انه الان في ازرو، ثم استطرد: الناس يشفون في بويا عمر، لكن البعض يشفون وليست لهم عائلات يظلون هنا ويمرضون بامراض أخرى ناشئة عن الوسخ والقاذورات. لم يكن الرجل ينتظر منا ان نرد عليه، بل ردد وهو يحث حماره على السير (ماشاء الله وخلاص). اتجهت نحو براكةأخرى حيث وجدت شابا آخر علمت منه انه كان يتابع دراسته في ثانوية جابر بن حيان في الدارالبيضاء فرع الحسابات. كان يتكلم بالدارجة ممزوجة بالفرنسية، ومؤدى حديثي معه انه كان يحب العزلة وبدأت تعتريه حالة يتنمل فيها جسده، ثم يحس كأن ثعبانا يلذغه، وقد عرض نفسه على الاطباء وأجرى عدة تحاليل دون جدوى، وبعد ان جاء إلى بويا عمر قال ان حالته تحسنت وقال لي ان الصبروالصلاة والايمان مسألة اساسية هنا قلت له في الأخير: - هل تفكر في الرجوع؟ - لا نعيش إلا على الامل.. انني أنتظر الرؤياو البشرى. غادرنا »بوروطا« مثلما دخلناها وسط حشد من المتسولين الذين تحلقوا بكثافة حولنا. كانت قبة الضريح البيضاء تختفي تدريجيا ونحن نبتعد عن عالم »بويا عمر« ,لكن مظاهر العذاب البشري المستوطن على جنبات القبة تستعصي على الاختفاء. نشر هذا التحقيق ضمن ملف «الطب العقلي» سنة 1984