في هذا المكتوب، الذي ينشر على حلقات طيلة شهر رمضان، دعوة صادقة إلى الإقبال على الحياة. إنه يقول، من خلال سرد أحداث واقعية من حياة إعلامي مغربي قهر المستحيل بقدم واحدة، إن الحياة جهد وعرق وتضحية.. وإنها – قبل ذلك وبعده – جميلة حقا، وتستحق أن تعاش. الضوء خافت. شعاعٌ دائري ينبعث من المطبخ ويغطي جزءً من فناء الدار. وبعيدا عن الضوء ومصدره، جلسنا نتسامر. كان الفناء مفتوحا على السماء، وفي أقصاه سلم صغير. في تلك الليلة الصيفية، تحدثنا عني. وكنت أمسك يد جدّي وأعجب من العروق البارزة عليها. وكان فارع القامة، لم تُصب منه السنين، حاشا انحناءة بسيطة أعلى الظهر. وقال جدي، وهو ينظر إلى السلم الخشبي: - إياك وذاك.. فإنك تسقط فتنكسر ! ودار الحديث عن حذائي الطبي الجديد. وما كنا نعرف أين تصنع هذه الآلات المعينة على التنقل. وما كنا نعرف عن الموضوع، في المجمل، شيئا ذا بال. فقد مرت أعوام على استشفائي بالرباط، وبتُّ اليوم فتى صغيرا.. وكان جدي يرنو ببصره إلى السماء ويدعو: - الله يشافيك ويعافيك، يا ولدي. ولشدّ ما كانت ترجُّني دعواته، فقد كان صوته هادئا وقورا كأنه يقنعني أنني حقا مريض. وما كنت أرى نفسي مريضا ولا معاقا ولا كائنا ضعيفا يقف على قارعة الحياة وينتظر أن يكرمه الناس أو تجود عليه الحظوظ. ولكنني كنت أحلم بحذائي الطبي الطويل! وأعترف، الآن، أنني قضيت تلك الليلة أفكر فيه وأخالني ماشيا دون أن يؤلمني الساعد ولا الظهر ولا الجنب الأيمن ولا الأيسر. ورأيتني، في خيالات تلك الليلة، أسير دون أن أستند على شيء. أمشي ببطء إن شئت وأهرول مسرعا إن أردت. خلتني أجري، على طريق طويلة لا تنتهي، وكلما ركضت نحو اللانهائي زادت رغبتي في الركض. وركبنا الحافلة من جديد. ويرن في أذني صوت وردة "في يوم وليلة". وتحت بصري وجوه الناس وهي تراقب، من خلف الزجاج، وادي زا ينساب تحت القنطرة. وعلى مخيلتي صور الصبي الصغير في حضن الأم ونساء تستظهرن كل عبارات التعاطف المتداولة. وتحت جلدي، نمل كثير يدب. وأغلق عيني فتندلقُ دمعة ساخنة. ثم حقق الله رجاء الفتى الصغير. وخطوت أولى خطواتي دون أن أستند على شيء. وصرت رجلا مستطيعا بحذائه. وقد كان طه حسين يتمثل بمقولة أبي العلاء المعري فيقول: أنا رجل مستطيع بغيره. والحق أنني لم أقتنع يوما بذلك، فكل رجل وكل امرأة مستطيعان بداهةً بغيرهما، أنى كانت أوضاع الجسد وأمراضه. وتلك سنة الحياة التي لا تخطئ أحدا. ودخل الفتى حجرة في البيت ثم جعل ينظر إلى حذائه الممتد من أخمص القدمين حتى أعلى الفخد. وأثنى ركبته، على سبيل التجريب، وأرسلها وأعاد الكرة مرات حتى اطمأن. وإني لأراه مستغرقا في القراءة، لا يعرف مأتى نشوته أمن توفيق الحكيم أم من حذائه الطبي الجديد! وكم سعد الوالدان لسعادتي. وإني لأنظر إليهما ونجيمات مذهّبة تسّاقط من عينيهما. وكانت أمي تغيب لحظات ثم تطل: - إيوا الحمدلله.. دابا مزيان.. كيجاك الصبّاط بعدا؟ وكنت أجيبها بالكلمة الجامعة المانعة "مخيّر"، فلا تلبث أن تعود فتسأل السؤال نفسه. على أنني كنت محتاجا إلى تجربة أعمق من مجرد المعاينة، فقمت إلى السلم الخشبي في أٌقصى الفناء وشرعت أنظر إليه وأتساءل عن الوقت الذي أقضيه في صعود درجاته. وقلت لنفسي إنني الآن أستطيع أن أصعد السلم في رمشة عين، أو في رمشات عين على أسوأ تقدير. وما أن هممت بوضع رجلي على أولى درجاته حتى فقدت توازني وتراجعت القهقرى ثم ارتطمت على الأرض. ولقد آثرت أن أسقط على جانبي الأيسر خوفا على الحذاء. وصرخت أمي: - يا لاباس !؟ فأجبت وأنا أحاول أن أكتم آهاتي: - والو.. آآآه !