في هذا المكتوب، الذي ينشر على حلقات طيلة شهر رمضان، دعوة صادقة إلى الإقبال على الحياة. إنه يقول، من خلال سرد أحداث واقعية من حياة إعلامي مغربي قهر المستحيل بقدم واحدة، إن الحياة جهد وعرق وتضحية.. وإنها – قبل ذلك وبعده – جميلة حقا، وتستحق أن تعاش. الحلقة الثامنة: لا يكون السفر في عُرف والديّ سوى في الصباح الباكر. ولعلي لم أنم تلك الليلة، فقد كنت مقبلا على حياة جديدة في مدينة أخرى، غير مدينتي الصغيرة، ولما أجاوز بعدُ الخامسة عشرة من عمري. وهو أمر جللٌ في عيون والديّ، ولم يخطر لهما على بال. أهذا الفتى الذي قضى شطر طفولته محمولا على الأكتاف، يريد اليوم أن يبتعد عن اليد الداعمة والعين الحارسة والقلب الخافق بالحب والشفقة! ولم يكن بدّ من السفر. وقد كنت أحدّث والدي أنني سأًصير مهندسا فلاحيا. وكانت كلماتي تقع في قلبه موقع الماء البارد في الفم العطشان. لكنه يشفق علي. وربما سأل نفسه: ماذا لو انكسرت الآلة الطبية المُعينة؟ وأي يد تحنو عليه لو مرض؟ وكيف السبيل إلى مرافقته في ذهابه إلى المدرسة وإيابه منها، مثلما تعودتُ طوال سني تعليمه؟ وركبنا الحافلة في ذلك الصباح الباكر. ولم يحدثني والدي إلا لماما. كان بريق غريبٌ يشع من عينيه، لم أدرك ماهيته في تلك اللحظة، لكنني أعرف اليوم أنه لم يكن سوى دموعا حبيسة في المحاجر تريد أن تفرّ! ولم يكن أبي يعاملني بمنطق الوصاية الخانقة، المتدخلة في كل التفاصيل والجزئيات، لذلك قال كلمتين فقط، وأنا أودعه على باب الثانوية الفلاحية: - كن رجلا ! وقد ألفت هذا المكان، بعد وحشة اللقاء الأول. ثم خرجت أبحث عن قاعة السينما في المدينة وحفظت معالم الطريق إليها. وتابعت دروسي الأولى، بأقصى ما أطيق من انتباه، حتى خرجنا، ذلك اليوم، إلى محيط الثانوية في الحصة التطبيقية. كان أصدقائي يلبسون أحذية بلاستيكية طويلة تغطي سيقانهم، بينما ارتديتُ حذاء رياضيا عاديا. يا إلهي ! الحذاء البلاستيكي الأسود من لوازم الدراسة، تماما مثل الكتب والدفاتر والأقلام ! وكنت أعرف ذلك وأتغاضى عنه. ولم أحب أن أخالف زملائي في شيء، فقصدت أسواق المدينة وتهت في دروبها باحثا عن الحذاء "الفلاّحي" المنشود. آه يا قلب ! والفتى المسكين يبحث ويدرك أن عين المستحيل أن يدرك مبتغاه ! وقد جربت أن أرتدي كل تلك الأحذية المعروضة في الأسواق، على سبيل القياس، ولم يجاوز قدمي الأيمن سنتمرات في عشرات الأحذية.. كانت الآلة المعينة، التي تشد رجلي، سميكة بشكل يمنع دخول قدمي في أي حذاء طويل يغطي السيقان. شعرت بعجز قاتل، لأول مرة في حياتي. وبكيت بحرقة في السوق وفي الشارع وعلى الطريق الطويل إلى الثانوية الفلاحية. ولم يكن ثمة من داع إلزامي إلى هذا الحذاء، لكنني رفضت كل محاولات أساتذتي ثنيي عن المغادرة. كنت فتى طموحا ومبدعا وشديد الحساسية في الآن ذاته. وهاتفت والدي: - ما لقيتش لبُوط أبّا ! غادي نرجع.. وجاءني صوته، عبر الأسلاك، يحمل قلبه بين ثنايا الكلمات. وأعترف أنني لم أشعر يوما بالحنان يغمرني من أخمص قدمي حتى مقدمة رأسي، مثلما شعرت به ذلك اليوم. كأنّ أبي كان ينتظر عودتي ويخشى أن تكون هذه الأمنية عقبة في طريق تحقيق أمنياتي. كان لهذه الواقعة تأثير شديد على نفسيتي. وعلى الرغم من اعتدادي بنفسي، فقد شعرت – ساعتها - بالألم يمزق أوصالي. وإني لأجد ريحه من مسافة عقدين.