خبراء يكشفون دلالات زيارة الرئيس الصيني للمغرب ويؤكدون اقتراب بكين من الاعتراف بمغربية الصحراء    تخليد الذكرى ال 60 لتشييد المسجد الكبير بدكار السنغالية    بعد صدور مذكرتي اعتقال نتنياهو وغالان.. الرباط مطالبة بإعادة النظر في علاقاتها مع إسرائيل    قلق متزايد بشأن مصير بوعلام صنصال    ضربة عنيفة في ضاحية بيروت الجنوبية    رئيس الاتحاد الإفريقي لكرة القدم: "فخور للغاية" بدور المغرب في تطور كرة القدم بإفريقيا    "السردية التاريخية الوطنية" توضع على طاولة تشريح أكاديميّين مغاربة    بعد سنوات من الحزن .. فرقة "لينكن بارك" تعود إلى الساحة بألبوم جديد    عندما تتطاول الظلال على الأهرام: عبث تنظيم الصحافة الرياضية        طقس السبت.. بارد في المرتفعات وهبات ريال قوية بالجنوب وسوس    كيوسك السبت | تقرير يكشف تعرض 4535 امرأة للعنف خلال سنة واحدة فقط    الموت يفجع الفنانة المصرية مي عزالدين    وسيط المملكة يستضيف لأول مرة اجتماعات مجلس إدارة المعهد الدولي للأمبودسمان    كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة    غارات إسرائيلية تخلف 19 قتيلا في غزة    بنسعيد: المسرح قلب الثقافة النابض وأداة دبلوماسية لتصدير الثقافة المغربية    موكوينا: سيطرنا على "مباراة الديربي"    موتسيبي يتوقع نجاح "كان السيدات"    الصويرة تستضيف اليوم الوطني السادس لفائدة النزيلات    مهرجان "أجيال" بالدوحة يقرب الجمهور من أجواء أفلام "صنع في المغرب"    ضمنهم موظفين.. اعتقال 22 شخصاً متورطين في شبكة تزوير وثائق تعشير سيارات مسروقة    افتتاح أول مصنع لمجموعة MP Industry في طنجة المتوسط    صادرات الصناعة التقليدية تتجاوز 922 مليون درهم وأمريكا تزيح أوروبا من الصدارة        الرئيس الصيني يضع المغرب على قائمة الشركاء الاستراتيجيين    الإكوادور تغلق "ممثلية البوليساريو".. وتطالب الانفصاليين بمغادرة البلاد    خبراء: التعاون الأمني المغربي الإسباني يصد التهديد الإرهابي بضفتي المتوسط    المغرب التطواني يُخصص منحة مالية للاعبيه للفوز على اتحاد طنجة    حكيمي لن يغادر حديقة الأمراء    المحكمة توزع 12 سنة سجنا على المتهمين في قضية التحرش بفتاة في طنجة    من العاصمة .. إخفاقات الحكومة وخطاياها        مجلس المنافسة يفرض غرامة ثقيلة على شركة الأدوية الأميركية العملاقة "فياتريس"    مندوبية التخطيط :انخفاض الاسعار بالحسيمة خلال شهر اكتوبر الماضي    لتعزيز الخدمات الصحية للقرب لفائدة ساكنة المناطق المعرضة لآثار موجات البرد: انطلاق عملية 'رعاية 2024-2025'    هذا ما قررته المحكمة في قضية رئيس جهة الشرق بعيوي    "أطاك": اعتقال مناهضي التطبيع يجسد خنقا لحرية التعبير وتضييقا للأصوات المعارضة    مجلس الحكومة يصادق على تعيين إطار ينحدر من الجديدة مديرا للمكتب الوطني المغربي للسياحة    المحكمة الجنائية الدولية تنتصر للفلسطينيين وتصدر أوامر اعتقال ضد نتنياهو ووزير حربه السابق    طبيب ينبه المغاربة لمخاطر الأنفلونزا الموسمية ويؤكد على أهمية التلقيح    توقعات أحوال الطقس غدا السبت    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    الخطوط الملكية المغربية وشركة الطيران "GOL Linhas Aéreas" تبرمان اتفاقية لتقاسم الرموز    خليل حاوي : انتحار بِطَعْمِ الشعر    الغربة والتغريب..    مشروع قانون جديد لحماية التراث في المغرب: تعزيز التشريعات وصون الهوية الثقافية    "سيمو بلدي" يطرح عمله الجديد "جايا ندمانة" -فيديو-    بتعليمات ملكية.. ولي العهد يستقبل رئيس الصين بالدار البيضاء    بنما تقرر تعليق علاقاتها الدبلوماسية مع "الجمهورية الصحراوية" الوهمية    القانون المالي لا يحل جميع المشاكل المطروحة بالمغرب    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



البرتقال والقرنبيط
نشر في أخبار بلادي يوم 30 - 09 - 2010

لست في صف القرنبيط، لا بسبب من شكله أو بسب لونه والرائحة، بل بسبب الأعمال الكاملة للبرتقال إنني بالفطرة في صف البرتقال، ولن يملك القرنبيط سبيلا لاستقطابي، فحتى حينما قرأت، قبل سنوات، كتابا عن الأغذية يشيد بفضائل القرنبيط، ويثير الانتباه إلى ثروته المغمورة من الفيتامين "ج" لم أتزحزح قيد أنملة عن الصف ذاك.
قد أسلم، على مضض طبعا، أن المقارنة بين البرتقال والقرنبيط قد تؤول لصالح هذا الأخير على مستوى الفيتامين "ج " بوصفه مضمونا، لكنها ستنتهي ، لا محالة، لصالح الأول بالنسبة للشكل، فالبرتقال سليل عائلة أنيقة جدا تشهد لها شجرتها العطرة بذلك .البرتقالة بقميصها البرتقالي أشهى من مجرد ثمرة، فما إن تجردها من ثوبها الوحيد حتى يكون لعابك قد أفصح عن نواياه .أما القرنبيط فليس ثمرا، إنه محض زهر كبير، أكبر من اللازم .
ولئن كان القرنبيط يمثل بامتياز تواضع الشكل أمام مضمونه، فإن البرتقال لا يني يتفوق شكلا على شكله حتى كأن لا شكل محددا له: فهو العصير والمربى وأقراص الدواء وهلم زهرا.
تستطيع برتقالة واحدة فقط أن تفاخر كل قرنبيط العالم بالصورة التذكارية الخالدة التي التقطها لها الشاعر إيلوار مع الأرض وهي في روبها الأزرق : الأرض زرقاء كبرتقالة .
فهل أحتاج بعد كل ما سبق أن أعلن تحيزي لقصيدة البرتقال ضد شعر القرنبيط ؟
وهل أكون مازحا إذا قلت إن القصائد ستنتهي الى أقراص زرقاء و أن الشعر سينعم بمستقبل زاهر فوق رفوف الصيدليات ؟
خلف الأحمر
لم أفطن للمقلب إلا حينما حاولت أن أنسى.كان لدي إصرار كبير على العمل بالنصيحة، نصيحة خلف الأحمر، التي وجدت من يروجها على مر القرون حتى وصلتنا إلى الفصل الدراسي. لقد كان صعبا علي أن أحفظ ألف بيت شعري، أنا الذي أنسى عشاء البارحة،ومع ذلك، بدأت ألتهم بهمة كل ما تصله يداي من شعر، بغض النظر عن قيمته . وقبل أن أكمل الألف، وربما المائة فقط، بدأت أفكر في طريقة لنسيان ما حفظت، لكن دون جدوى.ولقد اقتنعت مع مرور الأيام بأن الجزء الأول من النصيحة هو الأهم، ذلك أن الذاكرة يمكن إخضاعها لامتحان الأحمر أو غيره عبر الاستظهار، أما الجزء الثاني فمستحيل استحالة النسيان أو امتحانه، إذ يمكن للمرء بكل بساطة أن ينكر ما حفظ دون أن يكون قد نسيه فعلا .
لا أحد يعرف ما إذا كان خلف الأحمر قد أطلق نصيحته على عواهنها أم أن المقلب كان مقصودا، لكن المؤكد الآن هو أن العديد من المبدعين لا زالوا يعملون بها بشكل أو بآخر.فإذا سألت شاعرا عن بدايات تكوينه أجابك بقائمة الدواوين التي قرأ، وإذا سألت روائيا ذات السؤال كان رده مكتبة من الروايات، ونفس الشيء يتكرر مع كتاب و مبدعين من مختلف الشارب .. وفي كل الأجوبة تظل الحياة برمتها خارج القائمة المشمولة بالعرفان.
ومثل هذه الأجوبة كمثل من يعزو لحم أكتافه إلى اللحم الذي يأكل، وكأن أكتاف النباتيين من يقطين وليست من لحم هي الأخرى .
من أين جاءتنا العظام إذن؟ أوليست للنصوص هياكل تسند صمودها أمام عوادي النسيان ؟
الدال والشين
أكيد أن لقب الشاعر أقدم بكثير من لقب الدكتور، وأن القصائد جرت على الألسنة قبل أن يذيع صيت الجامعات على الأرض. ومع ذلك،فإنني أجرب أحيانا أن استعمل الألقاب في غير مكانها وغير زمانها أيضا، كأن أقول مثلا : الدكتور أبو الطيب المتنبي، فأجد أني ظلمت خريج بادية السماوة بدرجة شاعر جدا فيما لقب الدكتور يطير فرحا لاقترانه بأهم جبل في تضاريس العربية . المفارقة في هذا المثال لا تقل وضوحا عنها في أمثلة أخرى كآرثور رامبو، محمود درويش وسعدي يوسف.. فالأول جنب سراويله قسوة المقاعد الدراسية باكرا، وباكرا ضرب في جهات الأرض بلا هوادة، وكتب الشعر وعاشه باكرا أيضا، لذلك فلقب دكتور أصغر من مقاس نعاله . والثاني أغدق على القصائد من أنساغ روحه فجاءت ضاجة بسكرات الحياة فاستحق أن يكون الشاعر لا ""دكتورا " . أما سعدي يوسف، فمنذ نعومة حروفه وهو يكتب شعرا لافتا للقلب وبوجيب غزير لا يضاهيه، ربما، في العربية سوى غزارة البحتري، ولذلك فهو شاعر كله شاعر..ولابد أن حرف الدال سيحتاج إلى الكثير من الاعتداد بالنفس كيما يتقدم أسماءهم وأسماء غيرهم من ذوي الأرواح الوارفة .
أكيد أيضا أن اللقبين لا يخلوان من التباس، فلقب الدكتور يطلق على طبيب الحشرات مثلما يطلق على الدكتور عبد السلام ونظرائه من الحائزين على جوائز نوبل للطب والفيزياء والاقتصاد .. أما لقب الشاعر فيطلق على شعراء أفذاذ من ذوي الأرواح الخلاقة مثلما يطلق على كتاب كلمات الأغاني الساقطة.
فلماذا إذن يصر بعض الدكاترة على حيازة لقب الشاعر مع أنهم يملكون ما يثبت الدكتوراه ولا يملكون ما يثبت كونهم شعراء ؟ فهل الانتماء لعالم الإبداع عموما يملك كل هذا الإغراء ؟
لقد أصبح بعض مثقفينا يضعون كل رصيدهم الثقافي (من رسائل جامعية وأسهم في دور النشر وصور تذكارية خارج الوطن وربطات عنق حريرية) في حسابهم الشعري،وكأنه سيوفر لهم البطاقة الذهبية .أفلا يعلم هؤلاء أن لقب الشاعر يتضاءل ببعض الدكاترة مثلما يشمخ لقب الدكتور ببعض الشعراء؟
الأحذية و الأوهام
كلما قدم لي أحد الأصدقاء شاعرا انتبه للتو إلى حذائه، ليس فقط لأن الحذاء يمكن أن يجامل قامة الإنسان وظله، وإنما أيضا لأن قامة الإنسان تحدد من تحت وليس من فوق . ولقد لاحظت بمرور الشعراء أن الأحذية ليست وحسب حدودا جنوبية لخارطة الجسد، بل إنها تعكس بجلاء مواقف الكثيرين منهم .
وإذا كانت الأحذية أنواعا و أشكالا يصعب حصرها،فإنني مع ذلك استطيع أن أرتجل بعضا منها : فهناك أحذية صالحة لدرب الجنون وأخرى عابرة للقارات . وهناك أحذية قابلة للتلميع وأخرى مضادة للكبوات .وهناك أحذية شراعية وأخرى لركل الحياة. سوى أن بعضهم يقفزون على هذه القائمة وغيرها مما هو جدير بشعراء حقيقيين، ويختارون،شأن كواعب الموضة، أحذية بكعوب عالية جدا، فإذا رؤوسهم مشرئبة جزافا نحو السماء غير مكترثين لأقدامهم التي ابتعدت،جزافا أيضا، عن الأرض .
ولهؤلاء مواهب أخرى لا تقل فذاذة عن موهبة انتقاء الأحذية، أهمها موهبة انتباذ المكان المناسب تحت الأضواء،حيث تستطيل الظلال، وحيث تؤخذ الصور التذكارية مع الأوهام .لست أعجب لهؤلاء، لكني أعجب لبعض النقاد من فصيلة ماسحي الأحذية كيف لم تحالفهم الجرأة، ولو مرة واحدة،لاعتبار الكعوب تلك ضربا من المنشطات
وثمة شعراء غائصون في طين الحياة من أخمص القدمين إلى أعلى القصيدة، وهم من دون ظلال قطعا. فكيف السبيل إلى معرفة قاماتهم الحقيقية؟
بطول قبره، إذن، تقاس قامة الشاعر، وليس بطول ظله.فلتكن للشاعر نعال من الريح، حتى يكون العابر الهائل حقا، وحتى تكون له قامة العاصفة، تلك التي تستحق أن ينحني لها الجميع
البرص
ليس التميز صفة حميدة دائما.
فهناك التميز الذي يجعل من صاحبه علامة فارقة على مر العصور، وهو أمر يقتضي حفرا عميقا في أرض الروح حتى ينبجس ماؤها الذي لا ينطفئ أبدا، كما يقتضي سهرا طويلا قرب الحواس لالتقاط أحلامها وهذياناتها. وهناك التميز السطحي الذي قد يجعل من أصحابه مسوخا لا تستحق حتى نصيبها من الشمس. ومثل هذا الأخير كمثل الجلد يتميز عن بعضه فإذا هو أبرص. ولما كان المجتمع يتمتع بجلد شاسع جدا فقد مني بكل أصناف البرص: البرص الثقافي، البرص السياسي، البرص الإعلامي. حتى ليمكن استبدال عبارة الزمن الرديء التي أصبحت رديئة لفرط استعمالها بعبارة الزمن الأبرص.
وفي ما يلي قائمة غير نهائية ببعض المميزين البرص، يمكن للقارئ أن يضيف إليها ما أغفلته ملاحظاتنا:
جرائد كالسطوح مع فارق واضح في الغسيل وحباله.
ناشرون تستفيد المطابخ من دور نشرهم أكثر مما تستفيد منها المكتبات .
شباب يقتلون الأب... ثم يتسلمون مصروف الجيب من زوج الأم.
سياسيون يفهمون في رياضة الغولف أكثر مما يفهمون في مدون الأحوال الشخصية.
نساء يسترجلن خوفا من سرطان الثدي.
صحف لا يمكن قراءتها من دون عازل طبي.
صحافة تقدم للإعلان أضعاف ما تقدم للإعلام.
غاضبون يقلبون المائدة حتى يتمكنوا من الاعتذار للجميع.
مناضلون تائبون يسددون ثمن الجعة من رصيدهم النضالي.
مهرجانات تصلح بياناتها الختامية أن تكون دروسا افتتاحية في جامعات التملق.
حقل ثقافي الفزاعات فيه أكثر من السنابل .
جمعيات بدينة أخذت على عاتقها (وأي عاتق) أن تحارب السمنة ولو اقتضى الأمر إبادة كل من ليس سمينا.
رجال أعمال أعني:" نشرت أعمالهم الكاملة"، مع مطلع كل أكتوبر، يرون فيما يرى الحالم الشيخ الجليل الفريد نوبل وهو يربت على أكتافهم باسما.
لصوص متدربون يسرقون نصوصا، ونكاية بمسودات أصحابها، يقومون بتبييضها في صحافة الأحزاب التي تؤويهم.
نقاد يتابعون المسلسلات المدبلجة أكثر مما يتابعون المجريات الثقافية.
مثقفون يقيمون الدنيا ليقعدوا مكانها، لكنهم يبدون كالحملان وداعة أمام مقدمة البرنامج التلفزي مخافة ألا تستدعيهم مرة أخرى.كتاب مزهوون بعضوية مشكوك في انتصابها وآخرون يتملصون من العمل ليضعوا اللمسات الأخيرة على التخلف الذي نذروا حياتهم له.
فاللهم لا برص .
الأرانب
- هل كان لآخيل أرانب؟
- كلا، كان آخيل أرنب نفسه.
ولذلك ظل يعتلي بوديوما من قلوب الناس، بوديوما بعلو كعبه جعله متألقا حتى أمام أعين جماهير من أزمنة لاحقة. ولابد أن إكليل الغار وقتها كان بمثابة ميدالية للروح.
في ذلك الزمن الغابر، لم تكن الأرقام القياسية تعني شيئا. فعلاقة الوصول بالزمن كانت تختلف من شخص لآخر، فهي عند نيرون مثلا غيرها عند جلجامش. فالأول شارك في الألعاب الأولمبية بعربة تجرها ستة أحصنة في سباق كل عرباته تجرها أربعة فقط، فضمن التفوق منذ الانطلاقة بأرنبين من صهيل، لذلك لم يسجل له التاريخ سوى إنجازه الناري بروما. أما الثاني فلم يكن يهمه زمن الرحلة حتى لو كان بطول ملحمة، فالوصول يبدأ من تلك النبتة التي جعله مجرد السعي إليها خالدا.ورثة نيرون في الأرض تسلموا المشعل منه ومن يومها وهم يحرقون المراحل تلو الأخرى حتى انتشروا انتشار الرماد بعد العاصفة، فإذا هم في كل مكان تقريبا. ففي الرياضة كما في السياسة كما في الثقافة هنالك دائما من يتقدم مخفورا بالأرانب (وليس بالوعول كما أراد الشاعر قاسم حداد). وإذا كان الأمر قد أصبح مألوفا في الرياضة لدرجة تجعلني أقترح على منظمي السباقات إحداث ميداليات جزرية، وإذا كان الوصول في بعض معاجم السياسة هو الشقيق الأصغر للوصولية والمعبر المخملي إلى قلبها الكريم، فإنه في الثقافة أمر مثير حقا للاستغراب، ليس فقط لأن هذا الشاعر أو ذاك يجند جيشا من الأرانب الثقافية تسبقه إلى الجرائد والملتقيات وحفلات التوقيع. رافعة من وتيرة سرعته وانتشاره، معجلة بوصوله (إلى أين؟)، وإنما لكون تلك الأرانب تضع نفسها منذ البداية خارج المنافسة (أية منافسة؟) وتقنع صاغرة بالجزر الذي يبدو أنه لم يحسن منها البصر فأحرى البصيرة.
أما درس جلجامش فقد كان قاسيا، لذلك لم يستوعبه جيدا عبر التاريخ إلا القليل من البشر، وعزاؤنا في من لا يزال منهم بين ظهرانينا.
النخلاب
تحتاج النخلة إلى عشرات السنين حتى تصير إلى القامة التي تستحق .ولا بد أن ظلها السري المعروف بالجذور لا يقل عنها طولا. لذلك، فهي تعمر طويلا جزاء لها على الجهد الذي بذلت تحت التراب والصبر الذي بذلت فوقه.
ينجح اللبلاب في المكان، حائطا كان، سياجا أم نخلة...لكنه يرسب في الزمان .
تعمل النخلة في العمق من أجل نسغ لا يشبه الأنساغ .أما عملها الوئيد على اختراق الفضاء، فلكي تنأى بأكاليلها التي من أعذاق عن أصحاب العيون الحسيرة والأيادي القصيرة .
إذا اندلع اللبلاب فالخضرة سيدة المكان، الخضرة فقط.
بسبب جذعها الباسق الأجرد تغدق النخلة ظلها على البعيد تاركة عروقها الكريمة عرضة للشمس .
إذا سنح للبلاب جذع نخلة، فإنه يكسوه تماما في بضعة شهور، حتى إذا أدرك أول السعف تطلع إلى التمر بعيون حالمة،إذ من أين لها بالأعذاق ؟
النخلة أخت الناقة، أختها في الصبر طبعا . فالتمر والحليب
يحملان نفس شامة الكرم. أما اللبلاب فهو شقيق اللبلاب، شقيقه في كل شيء .
ومثل اللبلاب مع النخل كمل ذلك الشاعر المشهور برباطة جحشه إلى جنب خيول الشعراء.فلا هو قال شعرا ولا قريحة جحشه جادت بالصهيل
الأسد
أحد اثنين فقط يجرؤ أن يقول للأسد إن لقمه رائحة كريهة :
الذي لا يعرف انه أسد (إن كان أسدا حقا) أو الذي يعرف انه ليس أسدا أصلا وأن الفروة التي فوق الزئير ستسقط يوما ليتضح المواء .
لم يولد الأسد فوق عرش الغابة،وإنما ارتقى إليه بعد صراعات طويلة لم يخض معظمها. فجسارته وحدها عبدت له سلما من الفرائس والفرائص المرتعدة، صعده بثبات إلى حيث هو الآن .
مكانة الأسد خولت له حصة معروفة باسمه، مع أنه لا يبذل جهدا في الحصول عليها. فزوجاته عن طاعة وأعوانه عن ذل يتكفلون بتوفيرها .حين سمعت كلمة أسد اندلعت أول مرة اندلعت في راسي غابات وبراري كثيرة . ولقد تكرر الأمر مرات عديدة قبل أن تجود علي مخيلتي ببعض الأقفاص الأسد لا يبكي.ليس نكاية في التماسيح، بل لأن مكانته ذات الرهبة لا تسمح له بذلك.فعيناه الشاخصتان إلى مملكته الخانعة لا تذرفان دمعا، لكنهما قد تذرفان دما، إذ ما زال هناك ما قد يدمي مقلة الأسد.
أولاد سيدي احماد وموسى
ثلاثة فتيان فوق أكتاف أربعة فاثنان فوق أكتاف الثلاثة فواحد فوق الجميع. هذه هي المنارة البشرية التي يشكلها أولاد سيدي احماد وموسى بأجسادهم المرنة في أكثر من ساحة شعبية .
لقد كنت مأخوذا دائما بالصورة وسرعة تشكلها فلم أفكر قط في المعايير التي يعتمدونها في بناء طوابقهم. فعدا الترتيب التنازلي من أربعة إلى واحد صعودا، لم يكن هناك شيء لافت للانتباه.
أستعيد الصورة الآن بكثير من الوضوح فأرى أن الفتى الذي يعلو الجميع كان نحيلا وموهوبا في التسلق كأي سعدان. وفي كل المرات يكون مزهوا بمكانه هناك فوق الجميع متناسيا أنه تحت رحمة الجميع.لا بد أن سيدي احماد وموسى كان مزواجا وإلا كيف خلف هذا العدد الهائل من العشرات؟ ولا بد أن زوجاته ربين أبناءهن بطرق مختلفة،فذهبوا مذاهب شتى، حتى لا تكاد تخلو ساحة من مواهبهم . ففي السياسة كما في الاقتصاد كما في الثقافة ...هنالك دائما نفس العرض وإن تغير الفتى الذي يتسلق إخوته (هل هم أخوته ؟ ) .
في مجال الشعر هناك نفس العرض حيث يمكن للفتيان أن يتبادلوا الطوابق والأدوار حسب المناسبات مع الاحتفاظ بالطابق العلوي للفتى إياه، الفتى الذي لم يعد يرى في أخوته (هل هم حقا أخوته ؟) سوى أكتاف خانعة.يرى الشاعر محمود درويش أن القمة في الشعر ليست حادة بل منبسطة، ولذلك فهي تتسع للكثيرين.ولكم يسعدني أن أرى رأي الراحل الكبير :فما أحوجنا إلى قمم كثيرة تؤثث تضاريسنا العربية المصابة بالوهاد .
آباء الأنابيب
لقد كان الأفذاذ من أسلافنا يعملون على إطالة أعمار آبائهم وأجدادهم. لذلك فإننا نجد في مؤلفاتهم وسيرهم : هو فلان بن علان بن فلان...حتى جدهم السادس عشر .عقدة قتل الأب جاءتنا من ثقافات أخرى. ولأننا نتباهى بكل ما هو مستورد، فإن بعض مثقفينا يضعون أمراضهم وعقدهم الغريبة في كتاباتهم وسلوكهم مثلما يضعون علبة المارلبورو فوق طاولة المقهى، حتى أن منهم من يقتل أباه، رمزيا طبعا، ولا يتورع عن أخذ مصروف الجيب من زوج أمه .في المغرب ظهرت منذ مدة غير قصيرة عقدة خلق الأب، فصرنا نجد بعض صغار الكتاب يصنعون لهم آباء مع أنهم ليسوا مقطوعين من شجرة.ففي هذه الحانة أو تلك تجدهم متحلقين حول طاولة الكاتب الأب ويغدقون عليه من بنوتهم متنافسين على مناداته، لنقل، بّا علال مثلا، فيما بّا علال يقيس برورهم بعدد القنينات التي يرضعونه .أعتقد أنه إذا استمرت هذه العقدة في الانتشار ( وليس في المنشار)، فقريبا يصبح لكل حانة ولكل مقهى علالها المستنسخ من علال الأب الذي لا أدري أي نوع من اليتم سيعاني أبناؤه حين يعلمون أنه كان عقيما أصلا،مع أنه تصرف دائما كما لو أنه البضع الذي لا يقرع أنفه. أفلم يكن حريا بهؤلاء أن ينادوا القزم قزما، فهم بذلك لا يهينونه، وإنما يهينون قاماتهم إذ يسمونه عملاقا .فقط لو يتخيل هؤلاء الذين يقتلون آباءهم، ليتوسلوا لهم آخرين في الحانات، أي أب كان لجرير وقد فاخر به وهجا الكثير من الشعراء.أما الآباء الرمزيون فأمرهم موكول للنقد (وأقصد هنا النقد طبعا)،فتحليل الأحماض النووية للنصوص كفيل بالكشف عن هوياتهم جميعا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.