طنجة .. مناظرة تناقش التدبير الحكماتي للممتلكات الجماعية كمدخل للتنمية    جمعية المحامين ترحب بالوساطة للحوار‬    حموشي يخاطب مجتمع "أنتربول" بالعربية    قد يستخدم في سرقة الأموال!.. تحذير مقلق يخص "شات جي بي تي"    النصيري يزور شباك ألكمار الهولندي    المدير العام لإدارة السجون يلوح بالاستقالة بعد "إهانته" في اجتماع بالبرلمان    "المعجم التاريخي للغة العربية" .. مشروع حضاري يثمرُ 127 مجلّدا بالشارقة    الموقف العقلاني والعدمي لطلبة الطب    المغرب يمنح الضوء الأخضر للبرازيل لتصدير زيت الزيتون في ظل أزمة إنتاج محلية    المنصوري تكشف عن برنامج خماسي جديد للقضاء على السكن الصفيحي وتحسين ظروف آلاف الأسر    مجلس الجالية يشيد بقرار الملك إحداث تحول جديد في تدبير شؤون الجالية    حموشي يترأس وفد المغرب في الجمعية العامة للأنتربول بغلاسكو    إحصاء سكان إقليم الجديدة حسب كل جماعة.. اليكم اللائحة الكاملة ل27 جماعة    الأمازيغية تبصم في مهرجان السينما والهجرة ب"إيقاعات تمازغا" و"بوقساس بوتفوناست"        هذه حقيقة الربط الجوي للداخلة بمدريد    المغرب يعتمد إصلاحات شاملة في أنظمة التأمين الصحي الإجباري    1000 صيدلية تفتح أبوابها للكشف المبكر والمجاني عن مرض السكري    الأسباب الحقيقية وراء إبعاد حكيم زياش المنتخب المغربي … !    الرباط تستضيف أول ورشة إقليمية حول الرعاية التلطيفية للأطفال    اعتقال رئيس الاتحاد البيروفي لكرة القدم للاشتباه في ارتباطه بمنظمة إجرامية    توقيف 08 منظمين مغاربة للهجرة السرية و175 مرشحا من جنسيات مختلفة بطانطان وسيدي إفني    بايدن يتعهد بانتقال "سلمي" مع ترامب    ‬‮«‬بسيكوجغرافيا‮»‬ ‬المنفذ ‬إلى ‬الأطلسي‮:‬ ‬بين ‬الجغرافيا ‬السياسية ‬والتحليل ‬النفسي‮!‬    الخطاب الملكي: خارطة طريق لتعزيز دور الجالية في التنمية الاقتصادية    2024 يتفوق على 2023 ليصبح العام الأكثر سخونة في التاريخ    الجماهير تتساءل عن سبب غياب زياش    "أجيال" يحتفي بالعام المغربي القطري    ياسين بونو يجاور كبار متحف أساطير كرة القدم في مدريد    المنصوري تكشف حصيلة برنامج "دعم السكن" ومحاربة دور الصفيح بالمغرب    مجلس جهة كلميم واد نون يطلق مشاريع تنموية كبرى بالجهة    ليلى كيلاني رئيسة للجنة تحكيم مهرجان تطوان الدولي لمعاهد السينما في تطوان    انطلاق الدورة الرابعة من أيام الفنيدق المسرحية    وزارة الصحة المغربية تطلق الحملة الوطنية للتلقيح ضد الأنفلونزا الموسمية    صَخرَة سيزيف الجَاثِمَة على كوَاهِلَنا !    ما هي انعكاسات عودة ترامب للبيت الأبيض على قضية الصحراء؟    انتخاب السيدة نزهة بدوان بالإجماع نائبة أولى لرئيسة الكونفدرالية الإفريقية للرياضة للجميع …    ندوة وطنية بمدينة الصويرة حول الصحراء المغربية    مورو يدشن مشاريع تنموية ويتفقد أوراشا أخرى بإقليم العرائش    بنسعيد يزور مواقع ثقافية بإقليمي العيون وطرفاية    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    ضبط عملية احتيال بنكي بقيمة تتجاوز 131 مليون دولار بالسعودية    سفير أستراليا في واشنطن يحذف منشورات منتقدة لترامب    قانون إسرائيلي يتيح طرد فلسطينيين        خبراء أمراض الدم المناعية يبرزون أعراض نقص الحديد    أولمبيك مارسيليا يحدد سعر بيع أمين حارث في الميركاتو الشتوي    محكمة تونسية تقضي بالسجن أربع سنوات ونصف على صانعة محتوى بتهمة "التجاهر بالفاحشة"    بعد رفعه لدعوى قضائية.. القضاء يمنح ميندي معظم مستحقاته لدى مانشستر سيتي    مزور: المغرب منصة اقتصادية موثوقة وتنافسية ومبتكرة لألمانيا    إعطاء انطلاقة خدمات مركز جديد لتصفية الدم بالدار البيضاء    إحصاء 2024 يكشف عن عدد السكان الحقيقي ويعكس الديناميكيات الديموغرافية في المملكة    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    برنامج الأمم المتحدة المشترك المعني بالسيدا يعلن تعيين الفنانة "أوم" سفيرة وطنية للنوايا الحسنة    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    وهي جنازة رجل ...    نداء للمحسنين للمساهمة في استكمال بناء مسجد ثاغزوت جماعة إحدادن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قصة قصيرة بقلم الباحث والقاص والمترجم المغربي محمد سعيد الريحاني
نشر في أسيف يوم 19 - 12 - 2008

إلى مُنْتَظَر الزّيْدِيصَوّبْ مسدسك الحذائيّ الذي ......لك في الفداء قصيدة أبياتها لما وقفت كأن بحراً هادرا ........لما نطقت كأن رعدا هائلا لما رميت كأن من قد عُذبوا .......عاهد حذاءك لن يخونك عهده واصنع حذاء النصر وارم به الذي......قف أنت في وجه الظلوم بفِرْدَةً وارشق بها وبخيطها الوجه الذي .....أفديك من رجل تقزم عنده ما كنت قبل اليوم أعلم موقنا .....وبأن في جوف الحذاء مسدسا ما كنت أعرف للحذاء فوائدا ..............جعل القرار يصوغه الشرفاءُموزونة ما قالها الشعراءُ!.............في ساعديك وفي جبينك ماءُ!فوق الحروف وتحتهن سماءُ!.............أحياهم الله القدير، فجاءوا!واتركهم ليعاهدوا من شاءوا!..............تلهو به وبقلبه الأهواءُبنية، فالقاذفات هُرَاءُ!........غلبت عليه ملامح بلهاءُ!الرؤساء والكبراء والأمراءُ!..................أن الحذاء لمن أساء دواءُ!وبأن كل رصاصنا ضوضاءُ!................حتى تصدّى للذين أساءوا!غازي القصيبيقصيدة "أسطورة الحذاء"، 15 دسمبر 2008 في حفل توزيع جوائز التفوق الدراسي على تلامذة القسم الأول ابتدائي، وبحضور الأمهات والآباء وأولياء أمور التلاميذ، صعدت المنصة رفقة تلميذين آخرين، تحت زخات تصفيق الكبار وهتاف الصغار. تسلمت جائزتي لكنني لم أقاوم الرغبة القوية في فك الخيوط الوردية حولها وعرض مضمونها، عاليا، على الحاضرين، على طريقة المحتفلين بالفوز بكأس العالم.
كانت الجائزة كتابا تسابق، عند خروجي من قاعة الحفل، الكبار والصغار لمعرفة عنوانه وتصفحه والتبرك به بتلمس غلافه الناعم الجميل. لم يكن عنوان الكتاب غير "نوادر العرب" الذي قضيت ليلة الحفل ألتهم طرائفه وأضحك من كل قلبي على متاعب شخصيات محبوبة اجتمعت بين دفتي كتاب لتحتفل معي بتفوقي. وأحببت "أبا القاسم الطنبوري" وقصته مع حذائه والمتاعب اللانهائية التي استبدت به بسبب الحذاء حتى دفعه ليصرخ بحرقة:- "أفقرني هذا الحذاء الملعون وألبسني الديون!"لكن الصرخة لم تُجْدِ نفعا أمام توالي الأزمات التي كان وراءها الحذاء دائما. لذلك، تقدم، في ختام الحكاية، إلى القاضي بطلب تبرئته رسميا من الحذاء، متوسلا:- "مولاي القاضي، أتقدم إليكم، وأنا في كامل قواي العقلية، بأن تكتبوا براءتي شرعيا من هذا الحذاء وبراءته هو مني. فلا هو مني ولا أنا منه. كل منا بريء من صاحبه!"في خلوتي، تساءلتُ:- "لماذا استسلم "أبو القاسم الطنبوري" لأزمته وللعنة حذائه ولم يفكر في تحويلها كسلاح قوي ضد أعدائه؟...فكرت طويلا في الأمر لكنني لم أتوصل إلى جواب.في تجمعاتنا المسائية الصغيرة تحت ضوء المصباح الوحيد في الحي، رويت الحكاية لأصدقائي من أطفال الحي فضحكوا من كل قلبهم وطلبوا قراءة النص في بيوتهم مع أهاليهم وأحبوا جميعا "أبا القاسم الطنبوري" وصاروا، توددا، ينادونني باسمه، "أبا القاسم الطنبوري".كان مجرد لقب جميل يحيل على شخصية خفيفة الظل إلى أن اكتشفت أن الأصدقاء من الصغار ينادونني ب"أبي القاسم الطنبوري" وهم يتفرسون حذائي. ومع مرور الأيام، صاروا أكثر غلوا. فقد أصبحوا يتحلقون حولي، على أيديهم وأرجلهم، واضعين أعينهم الصغيرة قرب حذائي مرددين:- وا"الطنبوري!"- وا"الطنبوري!"- وا"الطنبوري!"...كنت أجري لأفلت من مضايقاتهم لكنهم كانوا يتبعونني، على أربع، ليتحلقوا حولي كَجِرَاءٍ يستهويها لون حذائي وشكل حذائي وحجم حذائي...أحيانا، كنت أتركهم يكملون مسرحيتهم، في مرحلتها الخفيفة، لكن حين ينتقلون لمرحلة الهجوم على حذائي لنزعه من قدمي بغية التلويح به أمام الناس كقطعة أثرية نادرة، كنت أهرب من قبضتهم فلا أتوقف إلا مع خفوت هدير خطواتهم ورائي فأجلس على عتبة بيت بعيد في زقاق لن يصلوه وأطأطئ رأسي لأنظر لحدائي من منظور مختلف لكن العادة قوة تبليد للحواس لا يضاهيها شيء. إن التعود على الشيء يحول دون أي رؤية موضوعية أو حكم محايد. ومع دلك، كنت أحصر انتباهي على الحذاء تحتي وأتأمل خيوطه ولونه وحجمه فلا أحس بنفسي إلا وقد سافرت في الذاكرة مع أبي إلى متجر الأحذية في مناسبة من مناسبات الأعياد السنوية لاقتناء الحذاء الذي سيصاحبني لمدة سنة كاملة. لقد كان أبي يشتري لي حذاء واحدا في السنة. في الغالب، تكون المناسبة استعدادا للاحتفال بالعيد. لقد كان أبي يحرص أن يكون الحذاء ذا مواصفات خاصة: أن يكون رقمه أكبر من الرقم المناسب لإعطاء قدمي فرصة النمو الطبيعي داخله في انتظار حذاء العيد القادم؛ وأن يكون الحذاء من جلد يحتمل الخياطة والترميم والترقيع...الحقيقة أن لقب "أبي القاسم الطنبوري" رافقني حتى ما بعد الطفولة فقد احتج علي أحد الأصدقاء الراشدين عند اختيار اللاعبين لمنازلة خصوم فريق الحي في مباراة لكرة القدم، قائلا:- هل ستخوض معنا هده المنازلة بحذاء "الطنبوري"؟!لم أستسغ قرار فريق حيي استبدالي بلاعب ثان لمجرد كوني أرتدي حذاء غير رياضي. بل الأغرب أن اللاعب البديل خاض المباراة برجلين حافيتين!مع الجمهور، على المدرجات، جلست أرقب عمل أرجل اللاعب البديل الحافية وأنتقل بعيني إلى واقع حذائي وفكرت من جديد في مأساة "أبي القاسم الطنبوري" وأزمته التي كان وراءها حذاؤه. وأصابني الرعب عند التفكير في إمكانية فتور روابط الصداقة التي تربطني بمجموعتي المتجانسة بسبب حذائي. فمع تكرر المشكلة، قد أطرد ليس فقط من خوض مباريات كرة القدم رفقة فريق الحي بل من المجموعة كلها وبشكل نهائي. هكذا، بدأت التفكير في شراء حذاء رياضي.مع أول حذاء رياضي، أحسست بالفرق بين الحياة بمنطق الحذاء الرياضي والحياة بمنطق الحذاء العادي. فالحذاء العادي يلزمك الأرض أما الحذاء الرياضي فيبث في جسمك الحيوية والشباب. الحذاء العادي يجعلك متعقلا بينما يجعلك الحذاء الرياضي تواقا للنشاط والمغامرة...لم يغير الحذاء الرياضي مشيتي فحسب، بل غير، بالتوازي، رؤيتي للحياة فصارت الحياة خفيفة وممتعة. وتغيرت، مع قراري لباس الحذاء الرياضي، أذواقي فصرت أحب الأغاني الإيقاعية السريعة وأعشق الرقص الحركي وأشارك في ارتجال الأغاني إذكاء لروح النشاط وروح الفرح وروح الشباب...كان غيري من الناس يتساءلون عن مصدر الشباب والسعادة التي أنهل منها قوتي وحيويتي بينما الشقاء قانون مُسَلّطٌ على الجميع. أحدهم قاوم الغيرة التي تنهش غيري وعرض علي صداقته وقدم لي هدية مفتوحة: كتاب عنوانه "الطاغية". قبلت صداقته وهَدِيتَهُ لكنه نادى على النادل وعرض علي شُرب فنجان قهوة على حسابه وامتدح لي الكِتاب ورفع من مقامه حتى مرتبة القداسة وتمنى أن أقرأه في حضوره. فتحتُ الكتاب تحت دافع إرضاء طلبه ووضعته على ركبتي وأنا أتحسس قوة تركيز عينيه على الصفحات التي أقلبها وعلى الوقت الذي أقضيه مع كل صفحة وعلى حركات يدي ورجلي...رَفعْت الكتاب عن ركبتي ووضعته على الطاولة واقتربت منه أكثر...رَفعْت الكتاب عن الطاولة ووضعته على سَاعِديَّ..كان الشاب يتفرسني وأنا أقرأ الكتاب، وأنا أذوب في الكتاب، وأنا أرتجف مع كل فكرة من أفكاره وأقشعر عند قلب كل صفحة من صفحاته...مند أول هدية تلقيتها في حياتي، كتاب"نوادر العرب"، إلى آخر هدية، كتاب "الطاغية"، لم يسبق لي أن قرأت كتابا كاملا خلال جلسة قهوة؛ ولم أشعر في يوم من الأيام بنفس الشعور الغريب الذي شعرت به خلال القراءة. لقد كان شعورا يستعصي على الوصف، إنه تجربة تعاش وليس لوحة تعرض. ربما كان إحساسا أقرب إلى الشعور بقوة عظيمة تملؤني..ربما كان إحساسا أقرب إلى إحساس الحذاء ذاته برجل تكتسحه وتملأ فراغاته!...تلك الليلة، استيقظت في عز النوم على فراشي على دبيب ذات القوة الغريبة التي تملكتني عند قراءة الكتاب في المقهى: قوة تكتسحني، تغمرني، تملؤني، تنفخني...فكرت في الصّياح وطلب النجدة لكن الأهل نيام غارقون في غطيطهم وحتى ولو استيقظ أحدهم فلن يستطيع إغاثتي من نفسي، فالدبيب داخلي والخوف داخلي والأزمة داخلي...أدركتني شمس صباح الغد المتسربة من زجاج النافدة المفتوحة متمددا على الفراش، ففتحت عيني بصعوبة ليقع بصري على الكتاب- الهدية على المنضدة قرب السرير فعاودني الشعور الغريب بالانتفاخ الغريب...خرجت من البيت إلى المقهى حيث احتشد الأصدقاء لمناقشة موضوع على خلفية كتاب "الطاغية"، فاقشعر جسدي ثانية وعاودني الشعور بالانتفاخ والانتفاخ والانتفاخ...خارج المقهي، كانت هتافات الأبواق الدعائية تطفو على الأثير فتصل إلى كل الآذان في كل مكان. الصوت المجنون خلف البوق يهتف بحلول "الإمبراطور العظيم" ضيفا جادت به السماء على المدينة ويدعو كافة شعراء المدينة للحضور وإلقاء قصائد مدح "العظيم" عند قدميه، يوم الاستقبال...المناشير الموزعة على المارة تعيد نفس الخبر ونفس الدعوة.اللافتات المعلقة فوق رؤوس المارة تعيد نفس الخبر ونفس الدعوة.الملصقات على واجهات المحلات تعيد نفس الخبر ونفس الدعوة.أعوان السلطة يكررون على مسامع المارة ويؤكدون عليهم نفس الخبر ونفس الدعوة.نشرة الأخبار على الراديو تعيد نفس الخبر ونفس الدعوة.نشرة الأخبار على التلفزة تعيد نفس الخبر ونفس الدعوة....تقدمت إلى مندوبية وزارة الثقافة بهدف تقصي شروط التسجيل ضمن لائحة شعراء المدح، فلم يطلبوا مني لا سيرة ذاتية ولا سيرة غيرية. كل ما طلبوه مني هو القصيدة التي ستلقى بين يدي "العظيم" وقدميه لتقديمها للجنة القراءة وانتظار الموافقة عليها.على عجل، نقلت بضع قصائد لجرير والفرزدق والأخطل المنتمية لوزن شعري واحد وأدمجتها في نص واحد ونسقت بينها وأجريت تعديلات طفيفة على أسماء الملوك والأمراء والوزراء الواردة فيها واستبدلتها باسم"الإمبراطور العظيم" ووضعت قصيدتي لدى مندوبية وزارة الثقافة مذيلة باسمي ورقم هاتفي وعنواني في وقت الزوال إلى جانب قصائد باقي النوابغ من شعراء المدح ومحترفي الحضور في المناسبات التاريخية مع الشخصيات العظيمة وانصرفت للاستعداد ليوم إلقاء القصيدة عند قدمي "الإمبراطور العظيم".الإلقاء يتطلب مهارات عالية تُكتسب مع توالي الأيام وتعاقب الشهور ومرور السنين وأهمها: الثقة بالنفس والإيمان بالجهد المبذول في النص والتعود على مكان النشاط وشكل تنظيم قاعة العرض والوجوه الحاضرة وكم الحضور وغير ذلك من الشروط التي تهم المبتدئين في المجال أما النوابغ، مثلي، فيحتاجون إلى فترة راحة يستعيدون من خلالها معنوياتهم ونشاطهم ولدلك فكرت في وسيلة طفولية في التسلية تريح مخيلتي وذاكرتي من التعب الذي يلازمها وتقوي التركيز وترفع القدرة على إصابة الأهداف. لم تكن هده اللعبة تتطلب مني أدوات ذات شأن: مجرد وسادة وحبل وأحذية الأهل ونعالهم...ربطت الوسادة بالحبل الذي علقته على أحد غصون الشجرة في الحديقة الخلفية للبيت ثم ابتعدت جارا سلة الأحذية والنعال بضعة أمتار قبالة الوسادة وبدأت في تصويب الأحذية اتجاه الهدف...على بعد عشرة أمتار، كانت النتائج مشجعة. فمن أصل عشرين نعلا وحذاء، ثلاث أحذية فقط أخطأت طريقها نحو الهدف – الوسادة. لدلك، فكرت في اختبار قدرتي على إصابة الهدف من مسافة أبعد. جمعت الأحذية والنعال ووضعتها في السلة من جديد وضاعفت المسافة التي حددتها للتمرين الأول وبدأت التداريب... بدا لي أن قدراتي تتحسن مع كل تمرين إضافي. فبينما أخطأت في ثلاث محاولات من أصل عشرين في التمرين الأول على مسافة عشرة أمتار من الهدف، لم أخطئ سوى في محاولة واحدة في التمرين الثاني رغم أن المسافة مضاعفةٌ في البعد عن الهدف...بدافع الحماس، جمعت الأحذية والنعال مرة أخرى ووضعتها في السلة ونأيت عن الهدف أقصى ما يمكنني ثم بدأت التداريب...عند عودتي إلى البيت، كنت في أعلى معنوياتي وقد ضاعف من سعادتي علمي بقبول قصيدتي في التصفيات النهائية لقصائد المدح المقررة للإلقاء على مسامع "الإمبراطور العظيم".تلك الليلة، تأخر النوم عن جفوني كثيرا حتى إدا ما غفوت استيقظت في عز الليل تحت ذات الدبيب لذات القوة الغريبة التي تملكتني عند قراءة الكتاب في المقهى وهي تكتسحني وتغمرني وتملؤني وتنفخني...فكرت ثانية في الصياح وطلب النجدة لكنني تذكرت ألا أحد يمكنه إغاثتي من نفسي، فالدبيب داخلي والخوف داخلي والأزمة داخلي...كالعادة، أدركتني شمس الصباح المتسربة من تحت ستائر النافدة المفتوحة وأنا لا زلت على الفراش. فتحت عيني بصعوبة ليقع بصري على الكتاب- الهدية على المنضدة قرب السرير فعاودني الشعور الغريب بالانتفاخ الغريب، شعور غريب ينسيني فطوري وغدائي وعشائي...حملت النسخة الشمسية من قصيدة المدح وخرجت من البيت نحو مقر مندوبية الثقافة. فالدخول إلى القصر الإمبراطوري بالمدينة يمر عبر بوابة إثبات الهوية في مندوبية وزارة الثقافة ثم بالتفتيش عاريا أمام باب القصر ثم بالتفتيش بالملابس داخل القصر...الحرس في كل مكان.الحرس بكل الأحجام.الحرس بكل أصناف السلاح والحيوانات.حيثما وليت وجهك فثمة الحرس والحراس...أمام الباب الأخير المؤدي إلى قاعة احتفال نوابغ الشعراء ب"الإمبراطور العظيم"، استوقفني آخر الحراس ناظرا إلي بريبة أدخلت الفزع إلى قلبي فاصفر لوني وارتجفت أوصالي وكدت انهار من شدة الاضطراب لكنه لاحظ دلك فأمرني بالجلوس على كرسي قريب وطلب مني نصل حذائي لإخضاعه للتفتيش الدقيق.ناولته الفِرْدَةَ الأولى ثم الفِرْدَةَ الثانية وبقيت انظر إليه وهو يفحصهما ويقلبهما ويتحسسهما ويهزهزهما وينصت إليهما قبل أن يعيدهما إلي. لكن نظرة الريبة والشك لازمت عينيه حتى بعد دخولي إلى القاعة. فقد تبعني حتى جلست مكاني وهو لا يدري سبب تعقبي.داخل القاعة، كان "العظيم" أكبر مما تصورته من قبل وأكبر مما يتصوره أي واحد خارج القاعة. ربما كان دلك فعلُ "الإخراج" وتأثير تأثيث مشهد العرض حيث وُضِعَ العرشُ عالياً بحوالي مترين فوق المنصة العالية بدورها عن الارض علوا موازيا في قاعة عالية السقف بينما الكراسي المخصصة للشعراء ولباقي الحضور كانت
واطئة يمكن بالكاد الانتباه للأرجل الأربعة التي ترفعها عن الأرض...تقدم أحد الأقزام إلى الجهة اليسرى من المنصة، على يسار عرش "الإمبراطور العظيم"، فتبددت كل احتمالات المقارنة بين "العظيم" و"القزم" الذي بدأ ، باسمنا، يتلو خطابا يُلْحِقُ فيه جميع الشعراء بمجتمع "الأقزام" الذي جاء يحبو للقاء "العظيم" الذي ألهمنا قصائد وأشعار ما جادت قريحتنا بمثلها من قبل...مرة أخرى، اقشعر جسدي ومرة أخرى عاودني الشعور بالانتفاخ والانتفاخ والانتفاخ وجدت نفسي أعلو وأعلو وأعلو حتى تساوى علوي بعلو "العظيم" وضاهت قامتي قامة "العظيم" وشارف مقامي مقام "العظيم"، فانحنيت على فِردة حذائي اليمنى وصوبتها دون خطا على وجهه ثم انحنيت على فِردتي الثانية واتبعتها بسابقتها. وبينما تجمع حراس الداخل والخارج حولي وتعاونوا على إسقاطي أرضا، كنت، تحت الركل والرفس والضرب والقرص والعض، منشغلا بسحب أحدية إضافية من أرجل الحراس لتصويبها على الهدف الذي لا يمكنني أبدا أن أخطئه...محمد سعيد الريحانيباحث وقاص ومترجم مغربيمدينة القصر الكبير/المغرب، بتاريخ 17 ديسمبر 2008(نص "حداء خاص بوجوه العظماء" آخر نصوص المجموعة القصصية القادمة "وراء كل عظيم أقزام" المعدة للطبع والنشر )


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.