بين الأزقة الفقيرة لدرب الحي المحمدي تنبعث الذكريات الفنية التي أرخت للزمن الغيواني الأصيل، بين حي الكدية والسعادة، عاشت مواهب تعشق أن تعلن الانتماء إلى هذا الحي الشعبي. بين براريك كاريان سانطرال، تعايشت أحلام المقاومة في إعلان مغرب جديد انطلق من الحي المحمدي. من هنا مر بوجميع، باطما، عمر السيد، محمد مفتاح، عائشة ساجد، العربي الزاولي، الغزواني، خليفة، بوؤسا، عشيق... كل أعلن عن عشقه الخاص للحي، وهذه شهادات لأناس أحبهم المغاربة عبروا عن بعض حبهم للحي المحمدي... حينما نستحضر اسم باطما، نتذكر الفنان الاستثنائيَّ الذي جمع بين الموهبة والألم و«الرحيل».. هو باطما الذي رسم بعض ملامح حياته الحزينة في ما أسماه «طي الضلوع القبيح» (كان القصد به الألم والمعاناة والصراع مع المرض)، وعن ذلك يقول «بّاعْرّوب» في الصفحة الثانية والخمسين من كتاب «الرحيل»: «الحقيقة أن بدايته كانت في المدينة.. فمنذ اليوم الأول، أعلن عن بدايته.. حيث إن أبي أخذني، أنا وأخي إلى المدينة، وترك أمي وإخوتي الآخرين في القرية، ريثما تجمع أمي كل حاجياتها وتلتحق بنا... بتنا تلك الليلة في الكوخ، كان أبي يشرب الخمر.. ولما استيقظ، أيقظنا كذلك وأوصانا بحراسة الكوخ، ثم خرج، لم يكن هناك فطور، اللهم زجاجة خمر فوق المائدة، نبيذ أحمر، كنت أنظر إليه وقد تملّكتني شهية الشرب، بل شهية تقليد أبي في الشرب. أوعزت لأخي وأغريته بذلك، شربنا الزجاجة.. فكان القيء والغثيان والضحك والسكر.. ثم نمنا.. واستيقظنا على صوت أبي وهو يسب ويلعن.. لكنه ابتسم لما قلنا له إننا ظنناه مشروبا عاديا.. أنا، كنت أعلم أنه خمر.. أخي، كان لا يعلم ذلك.. ومنذ ذلك الوقت، صار أبي عندما نكون جالسين حول مائدة الأكل يسقينا خمرا ممزوجا بالماء، ويقول لنا إنه يصلح للدم.. وفي يوم، جاءنا خبر موت جدتي.. لم نذهب إلى جنازتها، ولا أدري ما السبب. ذهبتْ أمي وحدَها، أما نحن وحتى أبي، فلم نُبد لذلك انتباها.. إن أفراد عائلتي يعيشون الآن بعيدين عن بعضهم. ليس من أجل خصام حول شيء ما، أو تنافر أو أي شيء من هذا القبيل، هكذا نعيش، لا نلتقي مع بعضنا لمدة طويلة». ويواصل العربي، الفقيد، رحلةَ الألم قائلا: «وأذكر موت جدي رحمه الله.. كنت قد تجاوزت الشهادة الابتدائية والتحقت بثانوية الأزهر، فبعد مجيئنا إلى الدارالبيضاء، وكنت في القسم الخامس، أجرى لي مدير «مدرسة الشعب» امتحانا ثم أعادني إلى القسم الرابع، وبعد سنتين، حصلت على الشهادة.. أخيرا تجاوزت الابتدائي.. كنا ساعتها ما نزال نسكن في الأكواخ. وفي يوم حصولي على الشهادة، التقاني سكان الأكواخ.. النساء بالأعلام والحليب والتمر، كما أهدتْني أمي خاتم زواج وهي لا تعلم أنه يهدى في الخطوبة. وانتقلنا إلى بيت آخر، بيت من الإسمنت.. الشهادة الابتدائية وبيت من الإسمنت، أليس هذا جميلا بالنسبة إلى طفل يتطلع ويحلم بمستقبل سعيد؟! بيت في الحي المحمدي وسط بيوت عمال السكة الحديدية، لكني ظللت زمنا طويلا لا أكلم أبناء ذلك الدرب، لأنني لم أكن قادرا على قطع صلتي بأبناء الأكواخ. وأقول.. رجعت إلى البيت، فوجدت الكآبة تعلوه. كآبة ذكَّرتْني بأيام الأكواخ، عندما قلت لأبي، وأنا في الفصل الخامس، إنه لا يمكن لي مراجعة دروسي وسط إخوتي، فبنى لي كوخا صغيرا وسط الكوخ الذي يطل على حفرة القاذورات. كنت كئيبا، وكان كوخي كئيبا كذلك، نظرا إلى الروائح التي كنت أستنشقها، وأنا أحفظ دروس التاريخ والجغرافيا والحساب.. كانت الكآبة تعلو بيت الإسمنت.. وشممت تلك الروائح لأن المرحاض كان كذلك وسط البيت، حيث إنه يجب على من يدخله أن يدير الحنفية ليسيل الماء ويستر صوت خريره صوت الضراط.. كان البيت يتكون من غرفتين ومطبخ ومرحاض، تتوسط فناءه شجرة «مشماش»، قطعها أبي، بنى لنا مكانها غرفة أخرى.. كانت أمي تبكي وأبي مكفهر الوجه.. ولما سألته قال لي: إن جدك مريض. تعجب لذلك الأمر، لأن ذلك الهرم لم أره في يوم مريضا.. حزينا، نعم.. لكن مريضا، هذا لم أتقبله في تلك الفترة.. للقاء الجد العليل وصفٌ وتأثير خاص يقول عنهما الراحل العربي باطما: «دخلت إلى الغرفة التي يوجد بها، فوجدته ملقى على ظهره والحزن يعلو محياه وهو ينظر إلى السقف، وابتسم لي، فعانقته وقد اغرورقتْ عيناي بالدموع، ثم استنشقت منه رائحة البادية ممزوجة بنتانة. أحس هو بي، فأشار إلى رجله: ضمادات متسخة، ملفوفة على قدمه اليمنى، وسرب من الذباب فوقها. طردت الذباب وقلت: كيف دَايْر أجْدّي.. يَاكْ لَبَاس.. تكلم الهرم، بصوت ضعيف.. كان سبب مرض قدمه، من أغرب الأشياء بالنسبة إلي.. لقد عاش الرجل قناصا طيلة حياته.. خرج كعادته إلى القنص، وكان الحذاء الذي انتعله صغيرا على قدميه، فجرحت قدمه، لم يبال هو بذلك، لأنه يجري في أثر أرنب. وبعد أن اصطاد طريدته، ذهب إلى النهر وأخذ يداويه بأعشاب وأشياء أخرى، لكن الجرثومة تكونت و«أكلت» القدم.. تحامل الهرم على نفسه وجاء إلى الدارالبيضاء، كانت تلك أولَ مرة يزور فيها المدينة.. وفي ذلك المساء، أخذوه إلى الطبيب.. فقال لهم إنه تكَوَّن لديه سرطان في قدمه وإن الجرثومة اللعينة تجاوزت الرِّجل وسكنت الجسم كلَّه. فرجع جدي إلى البادية، وبعد أيام قيل لنا إنه توفي.. قناص أرنب حتى الإدمان، كان رحمه الله، كان السبب في موته أرنب».. وبلغة مؤثرة، يتساءل العربي باطما عن الحال ووحدة المصير بالقول: «ترى، هل أنا قناص كذلك؟... فبما أنني أمتهن حرفة الفن، حرفة العذاب والأحزان. وبما أنني قناص الإبداع، فهل سأؤدي ضريبة ذلك في يوم ما؟.. وهل الضريبة، هي هاته الجرثومة التي تلعب، وبفرح داخل عروقي؟.. كنت هاتْك عْيون الدنيا يا بوعيونْ كحلة واليومْ جاتْك هْموم مْسديا ونْزلتي لْلوْحلة السّنّْ يْضحك للسن، والقْلبْ يْنبح بالرحلة الزّْمانْ فوقْ ظهرك صار كِي شوك الطّْلحة»... بوح واعتراف جميل قبل أن يستسلم «بّا عْرّوب» للقدَر قائلا: «إنه طي الضلوع القبيح، صدى، يدوي بين الضلوع كرعد قاصف.. عندما أتذكره الآن، أراه وقد أخرج لي لسانه مستهزئاً بي، ويقول: نعم، أنا طي ضلوعك القبيح، فهل لك القدرة على الرفض؟».. يتبع