بين الأزقة الفقيرة لدرب الحي المحمدي تنبعث الذكريات الفنية التي أرخت للزمن الغيواني الأصيل، بين حي الكدية والسعادة، عاشت مواهب تعشق أن تعلن الانتماء إلى هذا الحي الشعبي. بين براريك كاريان سانطرال، تعايشت أحلام المقاومة في إعلان مغرب جديد انطلق من الحي المحمدي. من هنا مر بوجميع، باطما، عمر السيد، محمد مفتاح، عائشة ساجد، العربي الزاولي، الغزواني، خليفة، بوؤسا، عشيق... كل أعلن عن عشقه الخاص للحي، وهذه شهادات لأناس أحبهم المغاربة عبروا عن بعض حبهم للحي المحمدي... بعد أن حكى الصحافي ادريس أوهاب عن ارتباطاته الفنية المتعلقة بفن «الحلقة» وتأثير الظاهرة الغيوانية على أبناء الحي المحمدي، وبعد أن نبش في ذكرياته حول بوجميع والعربي الزاولي وبائع «لحم الجنون» وسينما «السعادة»، يواصل أوهاب الكشف عن بعض من أسرار الحي المحمدي. أسرار إضافية، يقول عنها ادريس أوهاب في بوحه ل«المساء»: «في الشهور الأخيرة قبل وفاته، كان الفنان الراحل العربي باطما يزور والدته قرب سينما «السعادة»، وشاءت الظروف أن ألتقي به، وبأخيه محمد الذي كانت تلك أول مرة ألتقيه.. حكى لي العربي إحدى الطرائف، إذ كان العديد من الفنانين يقصدون الحي المحمدي، للاطمئنان على العربي ومعرفة جديد أحواله الصحية. في ذلك الوقت، قررت الراحلة الشعيبية طلال أن تزور بدورها باطما، وحينما دقت الباب، طالبها باطما بالدخول، لكنها لم تستطع الدخول، لكون الأبواب كانت ضيقة على جسد الفنانة الكبيرة.. هذا الوضع جعل كلا من طلال وباطما يتبادلان السؤال عن الأحوال من «الشّرْجم»... ويواصل أوهاب الحديث عن تأثير وأحداث الظاهرة الغيوانية بالقول: «يجب التأكيد على نقطة أساسية هي أن الظاهرة الغيوانية جسدت أحلام «شعْب» الحي المحمدي، وعبرت عن هموم وآهات وانتظارات شباب هذا الحب، هذا الحي الذي يجسد «شعبا» متعدد الثقافات، شعب مصغَّر عن المغرب، أفرز العديد من الأطر والشخصيات التي شغَلت مناصبَ مهمة، من بينهم عبد العزيز النويضي، خالد أمزيل، الحاج فوقار، سؤال، عبد القادر لعرج.... في هذا الحي، كان هناك الخياط «صالح»، الذي كان دكانه فضاء لاجتماع الغيوان، وكانت هناك الزاوية (بيت النبيري) التي تعد مجمع الفنانين، كما عُرِفت في الحي المحمدي «قشلة جانكير» ومكاتب التشغيل، التي تعد أولى المكاتب التي برزت في الستينيات في المغرب، وأتذكر أن الحي المحمدي أول حي عرف ظاهرة «الخْطّافة» في الدارالبيضاء، إذ لم تكن هناك إمكانيات للتنقل، فتم الاعتماد على «الخّْطّافة». وأتذكر أن سيدة كانت «تتخُوّنْ لْبلايْصْ» في سيارتها الخاصة.. كانت معروفة في الحي المحمدي في بداية ثمانينيات القرن الماضي.. من يعرف هذا الحي جيدا، يعرف مقهى «فم الحصن»، التي كانت –ومازالت- فضاء للقاء العديد من الفنانين، وما زلت أحرص على الذهاب إلى هذا الفضاء المفضّل لدي... كما عُرِف الحي المحمدي بالتألق الخاص لأسماء عديدة في رياضة الملاكمة»... تألُّق يقول عنه ادريس أوهاب: «عُرِف الحي المحمدي بالملاكمة، من خلال المقابلات التي كنت تنظَّم في «الحْلقة» أو من خلال فريق «خشبة الحي المحمدي».. وفي دار الشباب -الحي المحمدي، تكونت العديد من الأجيال من الملاكمين، منهم من هاجر إلى الخارج ومنهم من قضى نحبه، في الوقت الذي تألق آخرون في الملاكمة ووصل بها إلى مصاف العالمية، مع الإشارة إلى أن تألق الملاكمة في الحي المحمدي لم يقتصر على فترة في الثمانينيات، وإنما عُرفت الملاكمة هناك في الخمسينيات والستينيات، قبل أن يظهر الجيل الجديد، المتمثل في عشيق ومن جاء بعده»... وللحي المحمدي في طفولة وشباب ادريس أوهاب مكانة خاصة، يقول عنها: «حينما كبرت وبدأت أنضج، وقد تزامن ذلك مع فترة الباكالوريا في ثانوية عقبة بن نافع، وبدأت أسمع عن الأشكال النضالية التي عرفها الحي وهذه الثانوية، سمعت أنه أثناء الإضرابات، كانت السبُّورات والكراسي مادة للحرائق الموازية للاحتجاجات، لهذا عمد المسؤولون عن المؤسسة التعليمية إلى طلاء حائط باللون الأسود، بدل وضع سبورة.. وبني المكتب بالإسمنت المسلَّح، كي لا يُنزع أو يكسر، ولهذا دلالة كبيرة للغاية»... ول«كيرا»، الفنان الشهير في الحي المحمدي، نصيب من حديث أوهاب عن ذكريات الحي، إذ يقول بخصوصه: «كيرا شخصية أثرت في كل أبناء الحي المحمدي.. من طرائف «كيرا» أنه كان لا يؤدي ثمن الحافلة أو الحمام، ونادرا ما يؤدي ثمن ما يطلبه من الناس، ففي أحد الأيام صعد الحافلة ووقف أمام رجل يرتدي بذلة مزيَّنة بخطوط متقاطعة، وكل مرة يقول له «ابتعد»، وبعد أن استبدَّ الغضب ب«كيرا» خاطب ذلك الشخص قائلا: «واشْ خايف نخسّْر ليكْ السّْطر؟»!.. ومن طرائفه أيضا أنه صعد الحافلة، ذات مرة، فداس على قدمي أحد أفراد القوات المساعدة.. ولكي يحرج هذا الأخير «كيرا» ويثير اهتمام الناس، بدأ يستفزه، قبل أن يقول له: «بْقا تشوف، كولْني بعينيكْ».. بسرعة البديهة التي كان معروفا بها، أجابه كيرا: «سمحْ ليا: ما بْقيتش تنّاكلْ لحمْ الحلوف»!.. مما أثار ضحك الراكبين في الحافلة... ومن طرائفه أنه تم القبض عليه، مرة، رفقة مجموعة من المجرمين فقضى ليلة في المخفر. وبعد أن خرج، كان كلما مرت «السّْطافيطْ» هرع دون الحاضرين، وهو يردد: «واخّا تْكون سْطافيط السّقوطْ (السّْقيطة) ماغاديشْ نوقفْ».. ومن الحكايات التي يتداولها أبناء الحي المحمدي أيضا أن «كيرا» دخل حماما شعبيا في أحد الأيام، فطلب من رجل مسنّ أن يمده بصابون، فأعطاه الرجل صابونة من نوع «المنجل»، وبسرعة علّق «كيرا» على الأمر، قائلا: «حْنا بَشَر ماشي دجينْ، باغي تْصبّْنا»...