قبل أن أموت كنت أريد أن أكون مشهورا , خضت المستحيل من أجل ذلك، لكني فشلت .في البداية لجأت إلى كتابة قصائد نثر كثيرة , لأنها أوحت لي أنه عن طريقها يمكن أن أصنع مجدي ,قرأت لروادها من بودلير إلى لوتريامون وصولا إلى الأشقاء العرب مثل أنسي الحاج وشوقي أبي شقرا حتى انهد كياني, بعدها علمت أن أصحابها يموتون غالبا في سن مبكرة , أو يتحولون إلى معلمين في القرى النائية أو موظفين في دواوين الوزراء , وإذا لم يتحقق واحد من هذه الاحتمالات , فإن الشاعر منهم يتحول إلى محتال يخدع الناس أو خائب أبد الدهر . وبالفعل فقد مت أمس , وعمري ثلاثون سنة بالتمام , بينما لم أصبح مشهورا , ولا موظفا حتى في ديوان وزير يساري يحب كما يبدو هذا النوع من الشعر. لو سنحت لي فرصة أن أكون محللا سياسيا مرموقا لصدحت من على قناة الجزيرة أن سبب فشل حكومة التناوب هم شعراء قصيدة النثر , أنا متأكد من ذلك , والدليل أنهم كانوا يحملون حقائب الوزراء ويمشون خلفهم , وعندما تسنح لهم فرصة فتحها يسرقون مال الدولة وينتشرون في الحانات يكرعون كؤوس البيره في صحة رامبو ويكتبون على ورق الطاولة قصائدهم السريالية المناهضة للنظام سواء كان خليليا أو سياسيا . بعد أن رحلت عن الدنيا اكتشفت أنه لم يستفد من الانتقال الديموقراطي الذي عشت بداياته الأولى سوى قصيدة النثر وكتابها , فبعد أن كانوا عاطلين صاروا مسؤولين عن مصير ومستقبل المغرب . لم أتعلم من قصيدة النثر إلا كيف أيأس أكثر من الآخرين , وقد أكون مت بسببها , أو بسبب غبائي , لا أحد يعرف ؟ لم يتم حفل تأبيني بعد , ولم يحن وقت تكريم الأصدقاء والجمعيات المختصة بالموتى , حين يقع ذلك سيكتشفون كم كنت عبقريا , وسيقرؤون أمام جمهور مغفل تلك التفاهات التي كتبتها كما لو أنها كلام منزل . أنا الآن ميت وأقولها , لا تفعلوا ذلك . تطرفت إلى أبعد حد كي أبدو غريبا لكني لم أنجح , فالشهرة تستلزم التميز بالضرورة , لهذا السبب بالضبط دخنت الغليون قبل أن أموت , وأنا مجرد طالب في الجامعة , مما أثار علي حنق الرفاق الذين كانوا يرون في سلوكي نوعا من التطلع البرجوازي , وكثيرا من السخرية من الذين لا يعرفونني , صديقتي وحدها كانت ترى في ذلك علامة نبوغي , ولعلها قد تركتني بعد أن اكتشفت زيف ما أدعيه . بعد ذلك استقر اختياري على سيجارة أمريكية اسمها كاميل , التي تعني بالعربية الجمل , فهمت ذلك من الجمل المرسوم على العلبة , ورغم غلائها الفاحش دخنت منها مئات الكلمترات , ولم أتركها إلا بعد أن صار جيبي فارغا أكثر من اللازم . قبل مفارقتي الحياة لم أدخن المبارلبورو أبدا , ليس لأنها إمبريالية , لا , كنت بعيدا عن هذا الكلام , بل لأن الجميع يدخنها ويضع علبتها الحمراء على طاولات المقاهي , ولأني كنت أبحث عن الشهرة والتميز , استغنيت عنها , لأنها سيجارة القطيع , فقط لهذا السبب , لا غير . بعدما مت سيكتشفون علبة جيتان في جيبي , إنه النوع الأخير الذي أقسمت أمام شركة التبغ وفرنسا ألا أتخلى عنه ما دمت على قيد الحياة . جيتان تبغ فرنسي أسود , ولعلم غير المدمنين هو بمثابة كازا أو الزرقاء عندنا , لكنك حين تحصل بالإضافة إليه على جريدة لوموند وتجلس في المقهى واضعا ساقا على ساق تعتقد نفسك مثل سارتر أو جاك بريفير أو سيرج غنسبورغ , كل ما تتمناه تصيره في الحال بفضل ذلك التبغ وتلك الصحيفة , حصل لي هذا مرارا , بينما لم أصبح أي شيء ولم أجن من وراء ذلك إلا التهلكة وانتظار موعد مع السرطان . مرات كثيرة قرأت عن المشاهير الذين يقضون جراء إصابتهم بالسرطان , وتساءلت لم لا أكون واحدا منهم , أن تموت بهذا الداء مسألة مثيرة إعلاميا , وقد تجلب لك شهرة لم تكن تحلم بها واهتماما كبيرا بغض النظر عن قيمتك الحقيقية , لذلك قررت أن لا أنقطع عن التدخين , ولكي أعجل المرض استعملت الحشيش رغم أنه لم يرقني كثيرا . في الحقيقة قبل أن أموت كنت أخاف الحشيش كثيرا , ولم أستعمله إلا مضطرا مع أصدقاء أشرار , فاستهلاكه قد يؤدي بك إلى الحمق , ثم ماذا يعني أن تكون مشهورا ومجنونا في نفس الوقت , يعني ذلك ببساطة , أن الجميع سيتشفى منك وسيرميك الأطفال بالحجارة , هذا إذا لم تحدث لك أشياء أخرى أكثر فظاعة , لا داعي لذكرها في هذا المقام , إنها شهرة لا فائدة منها لذلك كنت أخشى الحشيش . كثيرون خلعوا ملابسهم , وتجولوا عراة بسببه , فهو متوفر بكثرة في المغرب , والمغرب يعني هذا البلد الذي انتمي إليه , رائد في إنتاج الفوسفاط والحشيش , وحشيشنا هو الأفضل بشهادة الخبراء , رغم ما قد يسببه هذا الكلام من حساسية أو قل إغاظة لدول الجوار والأعداء المتربصين بالوطن , لهذا السبب يزداد عدد المختلين في وطني أكثر مما هو الحال في باقي بلدان العالم (كلما نطقت كلمة وطن أشعر حربا ستقع وأني مجند فيها رغما عني أو أني سأدخل قريبا إلى أحد سجون المملكة , لذلك سأتجنب تكرارها ما استطعت .) , لذلك اخترت أن لا أتحشش , لأموت ببطء عاقلا وسط الناس , أركب الحافلة وأتجول في شارع محمد الخامس , محترما لا أثير هزء أحد أو شفقته . عكس ذلك ولأصبح مشهورا لم ألجأ إلى كتابة قصائد سياسية , أو موجهة ضد السلطة , فهذا الموضوع في الأدب لم يعد مغريا تماما , معارضة المخزن بالشعر صار مضحكا , تجنبت ذلك لئلا أبدو مبعث تهكم لمن هب ودب , ولأن الذين مازالوا يقومون بذلك يحبهم النظام ويشارك بهم في المهرجانات الدولية , ويمنحهم الجوائز . رغم بحثي عن الشهرة , كنت أريد نيلها دون المرور عبر بوابة الجوائز , لذلك لم أتقدم لأي واحدة وأنا حي , لأن الجائزة تستدعي لجنة تحكيم ومبادئ وقواعد يجب توفرها في المرشح , وأنا قبل أن أموت كنت أرفض أن أكون شاعرا متوجا بسبب هذه الأشياء , فالمبدع كما اعتقدت يجب أن يبدع ضد المتفق عليه , ضد اللجنة , رغم أن لعابي كان يسيل لما أسمع صديقا حاز على مبلغ مالي ضخم بسبب فوزه بجائزة تمنحها إحدى دول الخليج . لأني كنت أريد أن أكون مشهورا , وضعت نفسي موضع المعارض للمعارضة والسلطة وما بينهما وكل شيء تقريبا, لم يكن يعجبني أي أحد في العالم , العالم كله كان عدوي ,ولما لم أعد أجد شخصا أحتج عليه احتججت على نفسي ومرغتها في التراب , لكني مع ذلك لم أصبح مشهورا . اكتشفت متأخرا قبل رحيلي أن لا أحد يبالي بأحد في المغرب , سواء كنت نجما أو رجلا مهملا في مقهى , تقرأ الجرائد وتحل الكلمات المتقاطعة , فالمغاربة لا مبالون بطبعهم , وأي شيء تطمع في تحقيقه عليك أن تحققه لنفسك وبدون التفكير في الآخرين , لأن الآخرين من جهتهم منشغلون بأشياء أخرى , وليس لديهم الوقت ولا المزاج لمشاركتك في حماقات لا تجدي نفعا . لقد ضيعتني نزوة الشهرة , وكنتيجة مباشرة لها , تهت في ملاحقة أخبار الممثلين والمطربين , كنت أغار منهم, وأتمنى أن أصبح مثلهم , وبسبب التلفزة التي صرت ملتصقا بها لا أغادرها إلا للمرحاض , وكم من مرة بللت سروالي كي لا أفوت علي فرصة إتمام فيلم أو سهرة , كما لم أعد أقرأ أي كتاب منذ اشترينا صحن الالتقاط . كنت أشاهد نجومها الناجحين وأحسدهم , وكم فكرت في قتلهم ليخلو لي المجال وأستولي على الجميلات اللاتي يكن بصحبتهم . لم يكن بإمكاني أن أصير مثل توم كروز , فمن جهة لا أتوفر على المقومات التي يتوفر عليها , لست وسيما مثله , مع العمر أزداد نحولا وتجهما , بينما يزداد توم بشاشة ونجومية , ولا أستطيع ولو حاولت تنفيذ مهمته المستحيلة رقم 1 أو 2 التي حصلت على في سي دي ( ها ) من درب غلف قبل أن أموت بدقائق . ومن جهة ثانية , وحتى لو كانت لدي كل مقوماته , بما فيها الحصول على الجنسية الأمريكية , فلا يمكنني العثور على فتاة بمواصفات نيكول كيدمان . قبل أن أبلغ الثلاثين طلق توم نيكول , وقد غضبت عليه حينها أشد الغضب , إذ لا يمكن لرجل عاقل أن يقوم بهذه الفعلة الشنيعة , وبدأت منذ ذلك الوقت أتخلى عنه كمثال لأصبح مشهورا . ما دمت لم أنجح في التحول إلى بطل في الشعر, جربت أن أكون قلما في الصحافة يشار إليه بالبنان , كما يقول كتاب العربية المحترمون , لأنها مهنة الفاشلين في الأدب , كما أعرف ذلك ويعرفه غيري , كانوا شعراء سابقين وتحولوا إلى هذا العمل الذي ليس شريفا بالمرة , فعلت مثلهم وجربت حظي لأخيب مرة أخرى . فعلت ذلك قبل أن أموت يوم عيد ميلادي الثلاثين الذي لم احتفل به . كلما دخلت إلى جريدة تقفل أبوابها مدة بعد توظيفي , حتى تأكد كل رؤساء التحرير أني سبب كساد مشاريعهم الإعلامية الجادة , لأني لست جادا , ومتهاون في أداء مهامي . لقد وبخني طويلا رؤسائي في العمل , وصار الجميع يتهيب مني , ليس لخطورتي , وإنما للنحس الذي احمله معي أينما حللت , للعنة التي تمشي معي جنبا إلى جنب . بعد ذلك لم أعثر على عمل يناسب شخصا خائبا مثلي . ثم مت . كنت أريد أن أموت ميتة show و بيزنس . لكني مت فقط . ليلة بلوغي الثلاثين مت . دون أن أصبح مشهورا . ""