كتابة القصيدة أهون من تتبع مسارها منذ أن كانت شغفاً إلى أن حققت بعضاً من التحليق في سماء الإبداع الرحبة. نشأت طفولة ومراهقة في أحضان جبال الأطلس، وبالذات في الحد الفاصل بين الأطلسين المتوسط والكبير. فتحتُ عيوني على جبال شاهقة، وغابات كثيفة، وفجاج ومعابر للغيوم وأعتى الرياح وأخيراً على بحيرة شاسعة الضفاف. هذا الفضاء اندس فيما بعد إلى قصائدي حقولا دالة على الإنسان والمكان و الزمن المؤطر له خاصة في ديواني الأول: «عارياً.. أحضنك أيها الطين» والصادر في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي.. وتعود نصوصه الأولى إلى نهاية السبعينيات، إذ نشر أول نص فيه في جريدة «العلم» سنة 1977. لغة الثدي هي الأمازيغية الزيانية، وظلت لغة التواصل حتى الآن كلما عدتُ إلى مراتع الصبا. قرأت في الكُتَّاب الى حدود العاشرة من عمري، وكان الذي لقَّنني الأبجدية الأولى هو أبي الفقيه رحمة الله عليه- العربي، القادم من سهب أولاد عياد المتاخم لأولاد موسى وبني عمر. كان قاسياً عليَّ أكثر من أقراني كلما تعذَّر حفظ اللوح. كان يريدني أن أكون الأحسن لأنني الوريث المفترض لما اختزنه في صدره من قرآن وحديث. لم يكن من حفظة الذكر العاديين، إذ في خزانته المتواضعة قرأت، وأنا في مرحلة الإعدادي، ألف ليلة وليلة، والسيرة الهلالية، و سيرة عنترة العبسي وقصة الإسراء والمعراج، وكتاب تنبيه الغافلين لإبراهيم السمرقندي وقصص الأنبياء المسمى بعرائس المجالس لأبي إسحاق النسابوري، ودقائق الأخبار الكبير للإمام أحمد القاضي، وغيرها من الكتب الصفراء التي نقرت بأصابع نورانية على عتبة الخيال الفسيح.. كان الكتاب منعدما آنذاك.. وقد كنت محظوظاً لأن في الصندوق الخشبي الكبير هذه الكتب التي كنت أقرأها خلسة عن أبي لأنه كان يعتبرها سراً من أسراره. كما قلتُ أعلاه نشأت في بيئة ساحرة، وهي مصنفة في الدليل السياحي العالمي، لذلك كانت وجهة السياح الأجانب، عدا هواة الصيد والقنص. في هذا الجمال الأيسر، تسرَّب إلى نفسي عشق لا يوصف للطبيعة. وربما هذا ما يفسر حضور عناصر الطبيعة بقوة في كل ما كتبته من نصوص شعرية ونثرية. يضاف الى ذلك، المحكي الأسطوري في ما قرأته من كتب أولى، وفيما سمعت من حكايات الجدات.. كان المقروء عربيا والمسموع أمازيغيا.. يضاف الى هذا المحكي الشعر، وكان لقائي الأول معه من خلال شخص «أنشاد» أو «أمدياز»، وهو الشاعر باللغة الأمازيغية، وهو يلقي قصائده في الأسواق والأعراس. بذات اللغة، كانت تُنشد الأغاني في الحقول وتردد صداها الحافات والأودية والمغاور. أما الشعر العربي فقد تعرفت على أول نماذجه من خلال مادة المحفوظات، وكتاب ألف ليلة وليلة. ثم فيما بعد، أي بعد الذهاب الى السوق الأسبوعي البعيد نسبيا، في كتب مستعملة يجود بها الكتبي العابر للأسواق بثمن زهيد. أنا مدين لهذا الكتبي لأنه قدم لي دون أن يدري ولآخرين كنزاً ثميناً.. ويتعلق الأمر بمؤلفات جبران خليل جبران وإليا أبو ماضي وميخائيل نعيمة وأبو القاسم الشابي.. هؤلاء قرأتهم بشغف كبير و أذكر أنني حفظت الشيء الكثير من «دمعة وابتسامة» و«الأجنحة المنكسرة». في هذه الحقبة أيضا أي في بداية السبعينيات ونهاية طور التعليم الإعدادي- اكتشفت عند ذات الكتبي كتاباً فريداً باللغة الفرنسية هو «تأملات شعرية» لألفونس دولمارتين (َALFHONSE DE LAMARTINE) وقد حفظت منه مقاطع كثيرة خاصة من القصائد التالية: L›isolement وLac وLe vallou الشعر الحديث لم أكتشفه إلا في مرحلة الثانوي (1975/1973)، أي بعد النزوح من البادية الى المدينة. من حلوان الى الفقيه بن صالح وعالم الاكتظاظ في الداخلية وما يليه من صرامة في الانضباط. هذا الوضع الجديد أربكني وأنا القادم توا من العراء الفسيح.. كان نوعا من الصدمة أثمرت نصوصا كنت أخطها لنفسي مسجلا فيها نوعا من الحنين الى الجنة المفقودة، أي حلوان بعوالمها السحرية: الأم والغابة والجبل والبحيرة ورفاق الصبا ومراتع الشغب الجميل. في قاعة المطالعة، من السابعة الى العاشرة ليلا، كنت دائما أكتب وبشكل يومي الى أن فطن أحدهم الى ما أكتب وشجعني على المساهمة في المجلة الحائطية.. فعلت وكان أول المنتبهين الى ما أكتب أحد المشرفين على هذه المجلة: الأستاذ الشاعر عبد الله راجع، محمد العمري والأستاذ عابد. احتفوا بي وبقصائدي ومنحوني جائزة الشعر الأولى (1973) وأنا في السنة الاولى من التعليم الثانوي.. شجعوني وأمدوني بدواوين رواد الحداثة الشعرية.. لم تكن آلة الاستنساخ متوفرة.. ولو كانت لما استطعت تصوير الدواوين نظرا لقلة ذات اليد.. قمت باقتناء دفاتر ونسخت معظمها بخط اليد، ولما لاحظ بعض الاصد قاء محنتي، لأني لم أعد أخرج معهم في نهاية الاسبوع عندما يسمح لنا نظام الداخلية، رقوا لحالي فساعدوني على نقل تلك الدواوين حتى أعيدها في الوقت المحدد لأصحابها.. في هذه المرحلة استهواني نزار قباني في ديوانه «الرسم بالكلمات» والسياب في «أنشودة المطر» وعبد الوهاب البياتي في قصائده المتمردة وأدونيس خاصة في مزاميره وأغاني مهياره الدمشقي ونازك الملائكة في شظايا ورماد وبلند الحيدري في ديوان «خطوات في الغربة» وصلاح عبد الصبور في «الناس في بلادي» ومحمد الماغوط في «الفرح ليس مهنتي» والقائمة طويلة. زودني هؤلاء الأساتذة الأجلاء ببعض الكتابات النقدية المعروفة التي ساعدتني على استشراف العوالم الشعرية لهؤلاء الرواد. كما أفادوني كثيرا في ملاحظاتهم وتنقيحهم لما أكتبه. بعد الفقيه بن صالح، جاءت مرحلة الجامعة في الرباط في النصف الثاني من عقد السبعينيات، وبتوجيه من أساتذتي، سجلت نفسي في شعبة الأدب العربي، دون أن ينقطع الاتصال بالشاعر عبد الله راجع إذ كنت حريصا على أن أبعث إليه بكتاباتي التي يبث فيها، وكان دائما يشجعني على الاستمرار في الكتابة.. وحين استشرته في النشر حبذ الفكرة.. فكانت أول قصيدة أنشرها سنة 1977.. ثم بعد ذلك جاءت مرحلة القراءات الشعرية.. نصحني بألا أرتبك وهو يعرف خجلي وأن أكون واثقا من نفسي. فعلت وأفلحت بعض الشيء. أعترف أنني في هذه المرحلة كنت محظوظا لأنني التقيت بالصديق المبدع والناقد قمري البشير الذي التحق بنا لاستكمال دراسته الجامعية بعد انقطاع مارس فيه التعليم الإعدادي.. طيلة سنتين من السلك الثاني الجامعي، كنا لا نكاد نفترق وقد حضرنا معا السنة الثالثة والرابعة.. استضافني كثيرا في بيته واقتسمنا أشياء جميلة وكنا عندما نتعب نغني.. هو بالريفية وأنا بالزيانية.. مدين له لأنه أول من عرفني على أول نخبة من المثقفين وهم ادريس الخوري الذي كان يقطن في حي المحيط قريبا من البيت الذي أقطنه، ونجيب العوفي ومحمد الولي وعبد الرحمان حمادي. هؤلاء كان الجلوس إليهم إنصاتا وتعلما أفادني في مشواري الإبداعي. في الجامعة، عن طريق مكتبتها، وبفضل المركز الثقافي المركزي تعرفت على شعراء آخرين وجغرافيات أخرى في الكتابة.. قرأت كثيرا من الدواوين من بودلير الى سان جون بيرس.. كما قرأت لمحطات استثنائية من الشعر العالمي من قبيل طاغور الهندي وكفافيس اليوناني وناظم حكمت التركي ولوركا الاسباني ونيرودا الشيلي وغيرهم.. كما قرأت العديد من الروايات المضيئة.. في هذه المرحلة أعدت اكتشاف الشعر العربي الكلاسيكي في محطاته الأساسية بدءا من المعلقات وصولا الى محمد المهدي الجواهري ومحمد الحلوي. ماذا عن الشعر المغربي؟ طيلة مرحلة الثانوي لم أجده إلا في ملحق يصعب الحصول عليه وأنا في تلك المدينة الفلاحية النائية. أقصد الملحق الثقافي لجريدة العلم. كان النافذة الوحيدة للتعرف على الاصوات الشعرية المغربية، أو آباء القصيدة المغربية الحديثة.. في هذا الملحق قرأت قصائد لمعظم شعراء الجيلين الستيني والسبعيني. وأول ديوان شعري مغربي أحصل عليه هو: «الهجرة الى المدن السفلى» الذي أهداه لي أستاذي عبد الله راجع مع ديوان لمحمد بنيس تحت عنوان «شيء من الاضطهاد والفرح» الصادر سنة 1972. توالت القراءات والكتابة فتدرجت بدءا من «على الطريق» ثم «الملحق الثقافي» والمجلات المغربية والعربية. وبتشجيع مرة أخرى من عبد الله راجع- خضت غمار النشر فصدر لي ديواني الأول: «عاريا.. أحضنك أيها الطين». وكان ذلك سنة 1989.. وبعد سبعة عشر عاما نشر لي اتحاد كتاب المغرب مشكورا ديواني الثاني «لن أوبخ أخطائي» سنة 2006. أيها الحضور الكريم، الوقت لا يسعف لمزيد من التفاصيل. هذه إن هي إلا سيرة حبر يبحث عن لونه الخاص ولكم جزيل الشكر. البيضاء 22 ماي 2009 ألقيت هذه الشهادة ضمن الشهادات التي قدمت أثناء انعقاد أمسيات فاس الشعرية أيام 24/23/22 ماي بالمركب الثقافي الحرية بفاس.