تقول حكاية مغربية إن شابا مغربيا أمضى سنوات طويلة من عمره وهو يدرس في أوروبا علوما بالغة الدقة. وعندما حصل على الدكتوراه، عاد إلى قريته في المغرب، وهو مثل طائر من شدة الفخر والفرح. القرية التي لا يوجد فيها الكثيرون ممن دخلوا المدرسة، أو تعلموا القراءة والكتابة، سعدت كثيرا بابنها العائد من رحلة العمر، وأعدت له حفلا كبيرا نحرت فيه الذبائح وعلت أصوات البارود والأهازيج والزغاريد ابتهاجا بهذا الحدث العظيم. وفي منزل الشاب العائد من جامعات أوروبا، جلس أعيان القرية ووجهاؤها أمام الشاب، الذي كان يتوسط والدته ووالده، وهم ينظرون إليه بإعجاب. وفي لحظة صمت، نطقت الوالدة -التي لم تدخل في حياتها مدرسة- وهي توجه سؤالها إلى فلذة كبدها: - قل لي أوليدي.. أشنو هاد الشهادة اللي جبتي معاك من بلاد النصارى؟ فرد الابن مزهوا وهو يرفع صوته حتى يسمعه كل أهل القرية: - جبت الدكتوراه ألوالدة. وبما أنه لا الوالدة ولا أغلب أهل القرية يبدو أنهم فهموا شيئا من كلام الابن المتعلم، فإن الأم أرادت أن تثبت لسكان القرية أن ابنها عاد بالفعل بشهادة مهمة ستوصله إلى منصب مهم، لذلك وجهت سؤالا جديدا وواضحا إلى ابنها وهي تقول: - يعني أوليدي.. بهاد الدكتوراه ولاّ هاد الشّي اللي جبتي كيف ما بغا يكون... شحال غادي يبقى ليك باش تولّي جدارمي؟ هذه ليست نكتة. إنها حكاية حقيقية جرت في قرية مغربية، فأصبح الناس يتداولونها على أنها نكتة مضحكة. بينما من يرى الجنرال حسني بن سليمان الذي يحمل أيضا لقب "كور دارمي" زيادة في التفخيم، يعرفون أن الجدارمي في هذه البلاد، الذي ترتعد من رؤيته فرائص سكان القرى والبوادي، صار أهم بكثير من الدكاترة الذين يأكلون العصا كل يوم أمام البرلمان، لذلك من حق الأم المسكينة أن تطمئن على مستقبل ابنها وتسأله متى سيصبح دركيا عوض أن يذهب كل يوم للاعتصام أمام البرلمان. وربما قبل هذا وذاك، كانت الأم معجبة بالدركي الأول حسني بنسليمان الذي تتمنى كل أم، قروية بالأساس، أن يكون ولدها مثل هذا الرجل الفارع الطول الذي يشبه أبطال الرسوم المتحركة. وحسني بنسليمان هو الدركي الذي لا يخافه فقط سكان القرى، بل إن جنرالا آخر اسمه حميدو العنيكري لا يحس بكثير من الاطمئنان لهذا الرجل الأسمر، الذي لا أحد يعرف بالضبط كم دخلت مرماه من أهداف حين كان حارسا لفريق الجيش الملكي سنوات الستينيات قبل أن يتحول حارسا للساكن رقم واحد في القصر الملكي. بنسليمان كان في بداية حياته حارسا فاشلا في ملاعب كرة القدم. ويقول عنه بعض من رأوه إنه فشل في المرمى لأنه كان يحب الإمساك برؤوس اللاعبين ويترك الكرة، وفي النهاية يجد نفسه ممسكا برأس لاعب بينما الكرة في الشباك، لذلك فضل ترك الملاعب ودخول الثكنات لكي يمارس هوايته على هواه. والحقيقة أن الأهداف التي دخلت مرماه في الشهور الأخيرة تدل على أن مرماه أصبحت مستباحة، وربما كان المهاجمون أو الهدافون أكثر من اللازم، وأكثر قدرة على تسديد كرات في الزاوية التسعين، أحسن مما يفعله روبيرتو كارلوس في ريال مدريد. وأحزان حسني بن سليمان بدأت مع رحيل الحسن الثاني، قبل ست سنوات، حين ظهر اسمه لأول مرة في لائحة مسؤولين أمنيين كبار تتهمهم منظمة حقوقية بالتعذيب خلال تظاهرة فاتح ماي سنة 2000. لكن بنسليمان وغيره من الموجودين على اللائحة، لم يأبهوا بذلك، لأنهم يقولون إنهم يدافعون عن المقدسات، ومن يدافع عن المقدسات يمكن أن يفعل أي شيء ضد قدسية وكرامة الإنسان. بعد ذلك، توالت أحزان الدركي الأول في المغرب، حين أصبح محط إشاعات عجلت بذهابه إلى القبر، وهو ما يزال على قيد الحياة. وبدأت إشاعات موت حسني بن سليمان الصيف الماضي، بعد حفل في فندق شهير في الرباط، بمناسبة ذكرى تأسيس الجيش الملكي. يومها تداول المغاربة، أو بعض المغاربة، أخبارا بالهمس تقول إن حوالي عشرين من جنرالات وضباط الجيش على حافة الموت، بعد تناولهم عشاء مسموما. وزاد آخرون أن الجنرال حسني بن سليمان ربما يكون فارق الحياة. وتبين بعد ذلك أن حسني لم يفارق الحياة، وأنه فقد فقط قدرته الكبيرة على حماية نفسه من الإشاعات، مع أن قصة العشاء المسموم صارت تتأكد يوما بعد يوم، من دون توضيحات إضافية حتى بعد أن تحولت الى سؤال شفوي طرح تحت قبة البرلمان. لكن بعد ذلك ببضعة أسابيع، سيجلس صحافيو "لوماتان"، الذين يعرفون قيمة الأخبار الرسمية، في انتظار وصول خبر رسمي يؤكد وفاة الجنرال حسني بن سليمان، حتى يضعوه في صدر الصفحة الأولى. لكن الرجل عاد من جديد مثل الشبح، وهو ينظر إلى خصومه بأسنانه الناصعة التي يصر على إبرازها في كل مناسبة، وكأنه يقول للجميع إن أسنانه لم تسقط بعد، وأنها مازالت قادرة على التنكيل بخصومه، وأنه مازال شابا يمكن أن يفترس خصومه كما قال الشاعر العربي: إذا رأيت أنياب الليث بارزة فلا تحسبن الليث يتسم ومع أن لا أحد يمكن أن يقر إن كانت أسنانه تلك حقيقية أم أسنانا صنعها تحسبا لمكر الزمن. لكن نصاعة أسنان الرجل لم تعد تخيف خصومه كثيرا. بعد أن أصبح إسمه ضمن اللائحة التي نشرتها (الجمعية المغربية لحقوق الانسان) من ضمن من تتهمهم بانتهاكات فظيعة لحقوق الإنسان في المغرب. لقد صار الرجل بدوره ضحية نفسه، وهو اليوم في أرذل العمر.. وعلى الرغم من أنه لا يحب الشعر مثل كل العساكر، إلا أنه ربما سمع شيئا عن قصيدة الشاعر الراحل معين بسيسو الذي اغتالته الموساد وهو يتحدث عن الأشجار التي تموت واقفة، لذلك يريد حسني بنسليمان أن يموت واقفا، وأن لا يتم إخراجه من الباب الخلفي مثلما حدث لكثيرين غيره .. وآخرهم الجنرال الحرشي الذي أعفي من مهامه بضربة مقص واحدة، وكأن كل أيام مجده لم تكن إلا حلما أو خلسة المختلس. الجنرال حسني بنسليمان يغيظ خصومه بهيئته الشابة، وكأنه فقط على أعتاب الأربعين، بينما هو تجاوز السبعين، وبما أن العسكر لا يتقاعدون مثلما يحدث في روايات كابرييل غارسيا ماركيز الروائى الكولومبي صاحب >نوبل< .. إلا أن أخبارا من هنا وهناك تقول إن هذا الرجل الذي يتربع على رأس هيئات كثيرة ويمارس مهمات متعددة، مثل أخطبوط بري/بحري، صار اليوم يتوق إلى راحة بيولوجية، قبل أن تكشف له الأقدار عن نهاية سيئة، أو ربما تكون شبيهة بنهاية إدريس البصري. فهذا الرجل الذي تطارده التهم في قضية المهدي بن بركة، وفساد بعض رجاله الذين يطوفون القرى مثل أشباح مزعجة، لا يمكن أن يتحمل الكثير إلى ما لا نهاية. وآخر فضائح بعض رجاله كانت في مسقط رأسه "الجديدة" حين تم تلبيس تهمة الخيانة الزوجية لزوجة بريئة بتواطؤ مع الدرك، الذين تنقلوا من منطقة بعيدة حتى "يكشفوا" عن حالة خيانة أعد لها بإحكام من طرف زوج المرأة الضحية. هذه الحكاية أخرجت الآلاف من سكان الجديدة من منازلهم ورفعوا لافتات وشعارات تدين "أحابيل الجدارمية" الذين لا يمكن القول بأي حال من الأحوال أن سمعة بعضهم تحظى بكثير من الإعجاب بين الناس. في كل الأحوال، فإن الشاب حسني لو غادر فإنه سيوفر عملا لكثير من الناس، باعتبار أنه أصبح أكبر موظف شبح داخل الادارة المغربية . فهو يشغل الآن قائد كل الجدارمية، ويوجد على رأس المركز المغربي للطاقة النووية، وعلى رأس الجامعة المغربية لكرة القدم ومهام أخرى تدخل طبعا في إطار مناصب الموظفين الأشباح السامين. فالشاب حسني هو شبح بالفعل لأنه يتنقل غالبا بواسطة طائرات الهيلوكبتر. والمرات القليلة التي يظهر فيها على اليابسة تكون نادرة أو في مناسبات استثنائية، مثل استقبالاته لرئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم جوزيف بلاتير، حين كان حسني ومعه باقي المغاربة يحلمون في اليقظة بتنظيم كأس العالم، الذي منح قبل ثمان سنوات لجنوب إفريقيا سرا ولعب المغرب دور الكومبارس في المنافسات. اليوم يرغب الشاب حسني ذو الثانية والسبعين عاما في التقاعد، حتى لا يتعرض لما هو أسوأ من طرف خصومه الذين يتناسلون بسرعة كبيرة من حوله. حتى لا ينتهي نهاية حزينة مثل نهايات جنرالات روايات ماركيز. ""