عبّو، الذي هو أنا، وأعوذ بالله من قولة أنا، مجاز عاطل في الثلاثين من العمر. أمضيت سنوات طويلة أدرس وأستدين من أجل الحصول على وظيفة في نهاية المطاف، غير أن المطاف انتهى بي عاطلا أجوب الأزقة والشوارع وأضع طلبات العمل في كل مكان تقريبا. شاركت في كل المظاهرات والاحتجاجات والوقفات والجلسات، وانخرطت في أحزاب وجمعيات وتحدثت في السياسة والفلسفة وهتفت ورفعت الشعارات وأنزلتها، لكن في النهاية أعود إلى نقطة الصفر. من الصفر البدء وإليه المنتهى. وصلتني رسالة من عائلتي في قريتي البعيدة، أو ما تبقى من عائلتي هناك. ابن عمي يقول لي: «لماذا لا تأتي عندنا بعد سنوات من الغياب». من المثير أنه بدأ رسالته بعبارة «سلام تام بوجود مولانا الإمام». ربما يعتقد أني درست كثيرا وأصبحت رجلا مهما في الرباط. وربما يعتقد أن كل الرسائل يجب أن تبدأ بهذه العبارة بعد الحمد لله والثناء وعليه. أنا شخصيا لا أعرف هل وصلهم في تلك القرية خبر موت الحسن الثاني أم إنهم لا يزالون يعتقدون أنه حي ويحسون بالذعر عند سماع اسمه. هذا ذكرني بما حكاه لي صديق مهاجر في إسبانيا، قال لي إن وصلة إشهارية في التلفزيون الإسباني تظهر سيارة كات كات قوية تستطيع أن تخترق الجبال التي لا يصلها أحد، وحينما وصل سائقها إلى قرية معزولة فإنه وجد منزلا فيه شيخ كبير السن كان يبدو سعيدا لأن فريق ريال مدريد فاز أخيرا بكأس أوروبا للأمم، يعني كأس أوروبا لسنة 1968، ثم يسأل: «سمعت أن فرانكو مريض جدا، هل ما زال مريضا؟»... مع أن فرانكو مات قبل أزيد من 30 عاما. إنها العزلة القاتلة التي تتحول إلى نكتة. لا يهم. في كل الأحوال فإن ابن عمي لا يعرف أني درست حتى سقطت أسناني ثم أصبحت عاطلا. ولا يعرف أني أكلت الكثير من الهراوة في العاصمة لأني أريد عملا بسيطا. لا يعرف أني مواطن مقهور بلا أفق ولا معنى. ابن عمي يعاتبني لأني لم أعد لزيارتهم منذ أن رحلت عن القرية وتوجهت إلى العاصمة. أحسست بالخجل وأنا أفكر في العودة إلى تلك القرية النائية المحشورة بين ثنايا الجبال كأنها قطعة نقدية ضائعة بين شقوق الجدران. فكرت طويلا وقررت في لحظة أن أحزم حقائبي وأعود إلى القرية البعيدة. اشتقت إلى لهجة سكانها وطيبوبتهم ومشاركتهم معاناتهم. تذكرت نفسي طفلا وأنا أقطع عشرة كيلومترات كل يوم من أجل أن أحمل صفيحة ماء من البئر البعيد. وتذكرت نفسي وأنا أعاني البرد والألم والجوع وأسير حافيا كل صباح نحو المدرسة البعيدة جدا. كانت مدرسة عبارة عن كوخ، والمعلم غالبا ما يغيب ونضطر إلى العودة إلى منازلنا المبنية بالطوب والقش ونحن نشتاق إلى تعلم الحروف غريبة الأشكال. عندما قررت الرحيل إلى القرية أحسست بالتقزز من كل شيء في المدينة، من سياراتها ودخانها وأزبالها وبشرها ومؤسساتها وإداراتها وجامعاتها ومظاهراتها وقواتها الأمنية وشوارعها وضجيجها وكلابها وقططها ورائحتها العفنة. تقززت من المنافقين والمحتالين الذين يملأون شوارع المدن، وتذكرت أن السماء تبدو قريبة جدا في قريتي. النجوم هناك في متناول اليد وأحيانا أحاول الإمساك بها بيدي. في المدينة لا تظهر النجوم بالمرة. الناس في قريتي وديعون ومسالمون ويعيشون حياتهم يوما بيوم. هناك لا يحبون التلفزيون ولا يستعملون الهاتف النقال، وأكثر من هذا لا يزالون يكتبون رسائلهم بالطريقة القديمة التي تبدأ بالسلام على المولى الإمام، وعلى الغلاف يكتبون «شكرا لساعي البريد». أنا بدوري أشكر ساعي البريد الذي أوصل إلي رسالة ابن عمي. اللعنة على المدينة وعلى كل ما يمت إليها بصلة. لو عاد كل الناس إلى قراهم لما أصبحت المدن مثل أوكار أوبئة. ربما لن تلتقوا عبّو، الذي هو أنا، وأعوذ بالله من قولة أنا، بعد اليوم. سأعود إلى قريتي. عودوا إلى قراكم لو استطعتم، وستكتشفون أن الحياة أسهل وأرحب رغم قلة الماء وانعدام الكهرباء. في قراكم ستلعنون المدن والعمارات والأودية الحارة ومرض السكري وارتفاع ضغط الدم. سأعيش في القرية بلا كهرباء وسأعود إلى عشق الشمع. سألعن المسؤولين الذين تركوا قرانا بلا ماء لأنه عصب الحياة. سألعن كل اللصوص والأفاقين وأولاد الكلاب في هذه البلاد. سألعنهم وأنا أغادرهم ولن أرى وجوههم حتى في التلفزيون. سأعود إلى قريتي.. عودوا إلى قراكم لأن المدينة وحش. وداعا.