عبّو، الذي هو أنا، وأعوذ بالله من قولة أنا، مجاز عاطل في الثلاثين من العمر. أمضيت سنوات طويلة أدرس وأستدين من أجل الحصول على وظيفة في نهاية المطاف، غير أن المطاف انتهى بي عاطلا أجوب الأزقة والشوارع وأضع طلبات العمل في كل مكان تقريبا. شاركت في كل المظاهرات والاحتجاجات والوقفات والجلسات، وانخرطت في أحزاب وجمعيات وتحدثت في السياسة والفلسفة وهتفت ورفعت الشعارات وأنزلتها، لكن في النهاية أعود إلى نقطة الصفر. من الصفر البدء وإليه المنتهى. أنا أيضا كنت على حافة الموت يوما على يد عسكري خلال وقفة احتجاجية. وسأحكي لكم كيف. كان أفراد قوات التدخل السريع، ونحن نسميها قوات الركل السريع، يطاردوننا في كل مكان، في الشوارع وبين الأزقة وداخل المقاهي. مرة طاردني أحدهم وهو يلوح بعصاه الغليظة التي يمكن أن تقتل فيلا لو أصابته في رأسه. حاولت تجنبه واعتقدت أنه سيصرف النظر عن مطاردتي لأنه ليس بيني وبينه أي ثأر أو عداوة أو حساب شخصي، لكنني لاحظت أنه قرر أن يطاردني إلى الأبد لو تطلب الأمر ذلك. كنت أحس بخطاه الغليظة خلفي ولهاثه الذي يشبه لهاث كائن غريب خرج من غابة. أحسست بالخطر قريبا مني، فلم أكن أشعر بقدميّ تطآن الأرض، كنت أجري بلا شعور وأرى الناس والأشياء من حولي كأنها هي التي تجري وأنا واقف. لا أعرف، وأنا في ذلك الوضع الرديء، كيف تذكرت أيام صباي حين أركب القطار أو الحافلة. كنت أسأل أمي لماذا تجري الأشجار وإلى أين تذهب. كانت والدتي تضحك مني وتقول لي إنها تجري لأنها طلع ليها الوقوف فالراس مع هاد البشر. كان ذلك العسكري المدجج بهراوته السوداء مصرا على الإيقاع بي، أنا الذي لم أجر لأشهر طويلة، رغم أنني كنت أحصل على الرتبة الأولى في العدو السريع في الامتحانات المدرسية، لكنني لم أعد أجري إلا في حالات الضرورة القصوى. استمر ذلك العسكري يطاردني كما لو أنه قط جائع يطارد فأرا سمينا، وفجأة أحسست كأن صخرة عملاقة هوت على رأسي وشعرت بجسدي يتباطأ ويتداعى شيئا فشيئا على الأرض، إلى أن اصطدمت بسور حديقة مغلقة تفوح منها رائحة البراز والبول. كنت أمسك برأسي والدنيا تدور من حولي. لم أعد أرى سوى مزيج من الضباب ولون أحمر هو دم كان ينزف من رأسي ويلطخ وجهي. شتمني العسكري عدة مرات وركلني أكثر من مرة، وهددني بأنه سيحطم ضلوعي إن أنا عدت ووقفت مع المحتجين. كان ذلك العسكري يتصرف وكأنه أطلق من قفص بعد شهور طويلة قضاها في الأسر، وكانت عيناه تفيضان بكثير من الحقد والثأر مع أنني لا أتذكر أنني نطحت أمه في يوم ما. أنا لست ثورا لكي أفعل ذلك. كان ذلك اليوم فاصلا في حياتي صحيا ونفسيا. وبعد أيام عصيبة قضيتها محاولا استرجاع صحتي، قررت أن أتخلى نهائيا عن الوقوف في هذه الاحتجاجات، وعوض ذلك تفرغت لأشياء أكثر أهمية، وهي ملأ الكلمات المتقاطعة في المقاهي والبحث عن فرصة أفضل من أجل الحصول على عمل، من بينها البحث بين ثنايا الأحزاب والجمعيات التي أسمع أنها تستنزف الملايير من قوت الشعب، ويديرها عدد كبير من اللصوص الذين يتظاهرون بأنهم يخدمون البلاد.