يشدك قوامها الضعيف وجسدها المتهالك وشيب الرأس الذي ينم عن وقار سيدة كابدت في هذه الحياة، من أجل شيء فقدته قبل أن تأخذه، بل سُلِب منها بعد جهد وكَدٍّ، فأن تصعد سيدة بهذه المواصفات إلى عمود كهربائي عجز الشباب مفتولي العضلات عن الصعود إليه، وأن تصرخ بأعلى صوت الذي جف من انتظار منقذ يَعدِلُها عن الإقدام على الانتحار. أن تتوقف برهة مع الزمن وتمعن النظر في الأمور شيء وأن تصعد عمودا كهربائي في قلب المغرب وتنظرمن الفوق شيء آخر...أسئلة كثيرة تطرح نفسها عليك تتمعن في نفسك جيدا، أأنا من صعدت؟ وكيف وأنى لي بهذه القدرة التي جمعت الحشود حولي دون أن تحركهم لتخليصي لأزيد من الساعاتين؟ الشمس اعتلت وسط السماء وقواي الخاملة التي أيقضتها "الحكرة" أعلنت الاستسلام، وجهابدة الظلم ابتدأت فرائسهم بالارتعاد بعد تداول شريطيَ المصور والمباشر الذي أطلقه مسكين وشاركه باقي المساكين، الذين وجدوا في الأمر استثناء وآخرون وجدوا فيه عاجلا وحصريا وثالث هم من وجدوه فيه صرخة بعد اليأس، لكل تأويله غير أن البداية واحدة رغبة في الخلاص والنهاية تنذر بقرب الخلاص. وسط دوامة السب والشتم الملاحقة لشريط الفيديو يطل أصحاب "العيييلم" ويُفتون في أمرها أبين الجنة والنار المرقد؟، أبين خسران الدنيا والآخرة، اصطفوا خلف هواتفهم معلنين شهادتهم على نهاية قريبة، منتظرين لحظة السبق متجردين من إحساس اسمه الإنسانية، تفكر كثيرا وتنظر حولك فإذا بالوقاية المدنية قد حلت وأخذت وقتها الكافي قبل أن يتم إحضار المعدات والصعود لإنقاذ سيدة لم تكن تعلم أن "طليع البوطو ماشي بحال نزولو" وأن نزولها أصعب من الصعود وأن تنزيلها المستسلم سيُخنق بالهواتف التي حفت لتعلن أنها أول من التقط و.... صرخة مي عيشة من الفوق هي ذاتها الصرخة التي أطلقتها بنت مدينتها قبل مدة مي فتيحة قاسمهما المشترك المدينة فالفكرة، غير أن النهاية اختلفت أو تنذر بذلك، شهادات حقيقية تؤكدة لك في كل مرة أن "الموس وصل للعظم" أو تعداه لأعمق من ذلك، فأقدس ما يملك الشخص ذاته، وعندما تُنتهك تُسترخص فتَهون عليها النار، ويهون طرحها من الأعلى لتهوي نحو الأسفل، في سقوط حر مخَلِّص في مرات كثيرة من عذاب لا يتوقف. سيكتب الكل عن مي عيشة وعن صعودها العمود الكهربائي، وسيظهر زيان ببذلته معلنا تبنيه لقضيتها في المحكمة، وسيغرد العماري ككل خرجاته "كنت أريد أن أكتب عن لقائي بالعثماني غير أن ما حدث لمي عيشة دفعني لأكتب عن ذلك، وذكرتني قصتها بذكريات الطفولة في بلدتي بالريف وكيف أني كنت أخاف من رجال السلطة، وعندما صعدت أحببت أن أنبهها إلى أن رجال السلطة سيأتون فتذكرت بأن الوقت تغير قليلا، وأني فضلت أن أعود للمطبعة مدرستي حيث تعلمت وحيث أخذت الباكالوريا والإجازة والماستر والدكتوراه في العلوم السياسية، فكنت بحق وحقيق سياسي محنك وتربعت على رأس حزب وُجد معارضا وسيظل، ونسيت أنني وعدتكم بأن أكتب بالعامية غير أن فصاحتي أعجزتني ونزولا عند طلب بعضكم فضلت الكتابة باللغة العربية وأستنكر ما حدث لأمي عائشة...." سيتسابق البعض بمختلف توجهاتهم وانتماءاتهم الحزبية بتعقب خطى مي عيشة لمعرفة قصتها التي ستضطر لأن تحكيها أزيد من ألف مرة ستسألها "شوف تيفي" و"تيفي شوف" و"شوف تيفي" لوحدها مرات وستُقطع شريط الفيديو لعشرات المرات، وستخرج في كل دقيقة من الأيام القادمة بشرائط حصرية سكوبات وعواجل كله عن مي عيشة، ما قضته الأخيرة فوق العمود الكهربائي ساعتين جحيم وما ستصنع بها شوف تيفي في الأيام القادمة أيام في سقر. لن ننكر أن الأمور باتت تأخذ مجرى آخر في الآونة الأخيرة فتوقيف ولد الدرهم ومتابعة قضية إيديا وبحار الداخلة وملف مي فتيحة وقايد الذروة ورضيعة البيضاء المختطفة، وغيرها من الأحداث انتهت ولو نسبيا لصالح الحلقة الأضعف رغم أن هذه الحلقة في الغالب تكون مفقودة أوأنها عبَرت للعالم الآخر تاركة وراءها أمل في تغيير الحي من المستقبل القادم.