تحدي النموذج المؤسساتي لا شك أن المتتبعين والمهتمين وعموم المواطنين للحقل السياسي المغربي اليوم، أصبحوا مقتنعين بوجود نوع من العبث السياسي. إذ أن الاستحقاقات الانتخابية لا تفرز خيارات المواطنين والمواطنات، ولا تفرز حكومة منسجمة، ولا حتى الإنجازات اليومية، والتي تهم حياة المواطنين لا تأتي من النخب السياسية والمسؤولين على تدبير الشأن العام المحلي والجهوي. ولعلنا لا نعدم الامثلة على ذلك، يكفي أن نتتبع مختلف التدخلات التي يقوم بها الفاعل الملكي في العديد من المدن، لابراز هذا المعطى، لعل آخرها ما نطالعه في الاخبار الرسمية من تدشينات وبرمجات ومخططات، متعلقة بجهة الدارالبيضاء الكبرى، وقبلها في جهة طنجة الكبرى. أما على المستوى السياسي العام، فإن التعيين الملكي للسيد العثماني، بدلا من السيد بنكيران والتشكيلة الحكومية التي تضم من بين ما تضم حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، كل ذلك يؤكد أن خيار التغيير من داخل المؤسسات القائمة، يبقى جد محدود، إن لم نقل معدما. ومعنى ذلك، أن القرارات الاستراتيجية والبعيدة المدى والمتوسطة ، بل وحتى الآنية، لا يقوم بها الفاعل السياسي الحزبي، كيفما كان حجمه ونوعية حضوره في المشهد السياسي، بل إن المخزن هو من يهندس كل تلك الأمور. أما وظيفة الأحزاب السياسية، فهي وظيفة تأثيث المشهد السياسي، والزعم بأننا في المغرب نشكل استثناء في المنطقة الشرق أوسطية والمغرب الكبير، وبأننا نعيش دمقرطة حقيقية. ولعل الأمر المؤثر في هذا التوصيف، أننا بعد ما عشنا مرحلة انتقالية مع دستور 2011، ووصول حزب العدالة والتنمية بقيادة الزعيم السيد عبد الاله بنكيران لتسيير الحكومة المغربية، وبعد كل تلك المسارات التي قطعتها بايجابياتها وسلبياتها، فإننا نشهد انتكاسة في هذا المسار، من حيث العودة القوية للتحكم إلى الواجهة وامتلاكه لكل المبادرات والقرارات. كل ذلك يجعلنا نستخلص أن المهيمن الحقيقي في المشهد السياسي المغربي، هو الفاعل الرسمي، والذي لا يخدم سوى مصلحة المتحكمين في الموارد الأربعة التي يقع حولها الصراع (الثورة، السلطة، المعرفة والقيم). وأن هيمنته دليل على أننا لا زلنا في مرحلة السلطوية، لكن بإخراج جديد، أو ما يمكن تسميته "بالنيو-سلطوية". حيث تعمل الدولة العميقة على تكريس الوضع الاستاتيكي (Statu quo). ويمكن القول، أننا بتنا نعيش في حلقة مفرغة (Cercle vicieux )، وأن "دار لقمان لازالت على حالها". و لهذا فإننا نتساءل: ما هي الخيارات المطروحة على الفاعل السياسي المغربي(على الأقل البعض منها) اليوم في ظل هذا الوضع؟ و هل يمكن التفكير في مسارات أخرى، للعمل السياسي بدلا من التغيير داخل المؤسسات؟ وما هي شروط ذلك؟ بداية لا بد من الاقرار أن هناك صعوبة في إقناع جزء من النخبة السياسية بهذا الأمر، نظرا لكونه أصبح مستبدا بالعقيدة السياسية التي تقول بأن "التغيير لا يكون إلا من داخل المؤسسات القائمة"، وبأن كل الخيارات الأخرى التي جربت في المغرب ولم تعط أكلها، وبالتالي لا يمكن المغامرة بشيء غير محسوب العواقب. وعندما أصف هذه القناعة بالعقيدة السياسية، فإنني أقصد ما أقول. فالعقيدة والعقائد جزء منها لا يتم بناؤه انطلاقا من العقل والمنطق، بقدر ما يبنى على العواطف والميولات والرغبات حتى، ويصبح راسخا لدرجة يصعب معها الحديث عن إمكانيات أخرى، ولهذا يمكننا أن نستدعي مقولة "فرنسيس بيكون والتي يتحدث فيها عن" الاوهام المذهبية" والتي تتسلل لعقول الناس من خلال المعتقدات السياسية، التي يروج لها قادة الاحزاب والمنظرين والباحثين، وهذه الاوهام تخلق عوالم وهمية في بعض الاحيان، وتصبح مع مرور الزمن تقليدية وتخضع للتصديق الضمني. ولعل مقولة التغيير من داخل المؤسسات أو التغيير في ظل الاستقرار، وغيرهما والتي أطلقها السيد بنكيران في مرحلة سابقة قبل وصول حزبه للحكم، تندرج في هذا السياق. وقد وجدت لها من ينظر لها ويقعد لمنطلقاتها الايدولوجية. لكن اليوم نعتقد أن هذه المقولات والمنطلقات قد تعرضت لصدمة قوية وتحتاج إلى مراجعات وإلى وقفة نقدية. من جهة، وحتى نوضح ما نقصده بالتغيير من خارج المؤسسات، أو بالبراديغم الجديد للعمل السياسي، فهو لا يعني الثورة ولا يعني الانتفاضة على الأوضاع، ولا يعني إشهار السلاح في وجه الخصوم السياسيين، بل إنه عمل سلمي وحضاري ووطني ونضالي راق منتهجا الاساليب الديمقراطية في العمل السياسي، من حيث أنه يمارس عملا سياسيا لكن وفق قواعد جديدة، تتمثل أساسا في ثلاثة مبادئ: الهوية/ التعارض/ الكلية" كما طرحها (آلان تورين)، ورغم أن البعض قد يعترض علينا في استلهام هذا النموذج من مفهوم الحركات الاجتماعية، إلى الفاعل السياسي، فإننا نومئ للتعريف المتعارف عليه للحركات الاجتماعية، والتي تتضمن من بين ما تتضمن الفاعل السياسي، الذي يفتقد للتمثيل الرسمي، حيث نقرأ في هذا المفهوم: " الجهود المنظمة التي تبذلها مجموعة من المواطنين كممثلين عن قاعدة شعبية تفتقد إلى التمثيل الرسمي، بهدف تغيير الأوضاع، أو السياسات، أو الهياكل القائمة، لتكون أكثر اقترابا من القيم التي تؤمن بها الحركة" أو حتى الحزب السياسي أو الهيأة النقابية أو الجمعوية.، لكن بشرط أن لا تكون ممثلة في المؤسسات القائمة، حيث تفقد تلقائيا كل قدرة على التفاوض والنضال والاستماتة، وتصبح مع مرور الوقت إلى هيأة تابعة كليا للدولة ولمشروعها، وهو ما حصل للعديد من الاحزاب السياسية المغربية، ويحصل بشكل أو بآخر لحزب العدالة والتنمية. لذا فنحن ندعو إلى تجديد في البراديغم الحاكم للرؤية التغييرية لكي يتم الاستعاضة عنه بأفق أرحب واستشرافي. وبالعودة إلى تحديد تلك المقومات، نجد أنها تتحدد فيما يلي: - مبدأ الهوية: يكون التعريف واعيا، ولكن النزاع هو الذي يشكل وينظم الفاعل، - مبدأ التعارض: يمكن الفاعل من أن يعين خصمه لأن رهان النزاع ما هو في آخر المطاف إلا النموذج الثقافي". - مبدأ الكلية: تستطيع الحركة الاجتماعية تقديم مشروع مضاد أو اقتراح بناء مجتمع آخر، وعليه فالرهان بالنسبة لمبدأ الكلية هو الهيمنة على نسق الفعل التاريخي". إن هذه النمذجة الثلاثية، تمكننا من فهم أشمل للعمل السياسي الجديد، الذي يتأطر ضمن حركة اجتماعية قوية ومتجذرة. فمبدأ الهوية، يصف لنا ما يطرحه الفاعل السياسي من مفاهيم ورؤى وتصورات أو بلغة "فيبر" رؤية للعالم، تريد أن تقول إننا نحن الفاعلين السياسيين لنا وجهة نظرنا الخاصة للتغيير، وبالتالي فإننا نسعى لكي نحقق هذا الهدف في نضالنا المستمد من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية، والدمقرطة الحقيقية للمجتمع. أما فيما يخص مبدأ التعارض، فيمكن افتراضه –على الأقل نظريا- في المسار النضالي للفاعل السياسي عبر التاريح، إذ شكل الخطاب والممارسة والفعل السياسي الملتزم، رؤية نقدية للأوضاع وللمسلكيات وللذهنيات والعقليات التي تحط من قيمة العمل السياسي أو تبخيس قدره، وبالمقابل إبراز التعارض مع السلطوية والتسلط. والاحتفاظ بحق الاعتراض متى تعرضت إرادة الشعب وخياراته وتطلعاته للسطو أو السلب. ولنا في حالة حركات التحرر الوطني سابقا خير مثال. وأيضا حركات المطالبة بالمساواة بين البشر، وبين الجنسين، وضمان حماية البيئة، أمثلة حية ومتجددة عن نوعية هذه المطالب ومنهجية النضال المستميت من أجل تحقيق كل ذلك، بدون تجزئ أو التفاف. وأخيرا، فإن مبدأ الكلية، والذي يعني الشمول في الرؤية والهدف والخطاب والممارسة والفعل، وذلك عبر النهل من الرؤية الكونية ومن مبادئها العليا، والتي تهدف إلى إقامة مجتمع منصف وعادل، ويتمتع أكثر من ذلك بحس للعدالة والانصاف. إننا عندما نتحدث عن بعض الخصائص التي وجب أن يتمثلها الفاعل السياسي اليوم في المغرب المعاصر، إنما بغرض فهم التحولات التي تجري في شرطنا المغربي، والمتمثلة أساسا في استفراد الدولة والتقنوقراط في حسم كل القضايا المصيرية والمتوسطة والقريبة المدى للمجتمع المغربي، وبالتالي نخشى أن نصل إلى حالة من العجز الكبير الذي سيشل فعالية المجتمع بكل فئاته وتشكيلاته الاجتماعية والسياسية والنقابية والجمعوية. إذ ما دامت الدولة تفعل كل شيء فما المبرر لوجودنا؟ وما الداعي لاجراء الانتخابات تلو الانتخابات؟ وما الداعي لتمثيلية الاحزاب وبقية الهيئات النقابية والجمعوية؟ أو من خلال تعميق حالة اللاثقة في المؤسسات الدولانية، بل حتى المؤسسات الحزبية والنقابية والجمعوية، مما يفضي عمليا إلى حالة من القطيعة بين المجتمع والدولة من جهة، وبينه وبين مؤسساته الوسيطة. لذا فإن الأمر يقتضي من كل الاحزاب السياسية -وخصوصا تلك التي لا زالت تتمتع بمصداقية لدى الشعب-، إلى وقفة نقدية مع الذات والآخر واللحظة التاريخية، علها تقدم الأجوبة عن المآزق الوجودية التي باتت تداهمها.