نحاول في هذا المقال، الوقوف على ثلاث لحظات أساسية من التطورات والتفاعلات السياسية التي طبعت المشهد السياسي المغربي بعد انتخابات 7 أكتوبر 2016 بالتأمل والتحليل، ومحاولة الفهم، وهي: تعثر مسار تشكيل الحكومة، ثم لحظة تعيين الملك محمد السادس رئيس حكومة جديد خلفا للسيد عبد الإله بنكيران، وأخيرا رد فعل حزب العدالة والتنمية بعد هذا التعيين. أولا: تعثر مسار تشكيل الحكومة قد يبدو في الظاهر للمتتبع لمسلسل مفاوضات تشكيل الحكومة بين الأحزاب السياسية، أن الأمر يتعلق بخلافات بين هذه الأحزاب حول طبيعة التحالف الحكومي، وتركيبة الأغلبية البرلمانية المنتظرة. لكن بالنظر إلى الخطابات المتداولة بين الفاعلين الحزبيين، وتحديدا، تلويح رئيس الحكومة السابق السيد عبد الإله بنكيران بعدم سماحه باغتيال إرادة الناخبين، وبالنظر كذلك إلى مواقف الأطراف الأخرى المتناقضة أحيانا والغامضة، فإن الأمر يتعلق بصراع خفي، مضمر ومرير بين مشروعيتين سياسيتين: مشروعية تقليدية رمزية من جهة، ومشروعية حداثية ديموقراطية مرتبطة بما تفرزه العمليات الانتخابية. وكأن المسألة في العمق تتعلق بمحاولة استدراك واسترجاع ما يمكن أن تكون قد ضيعته صناديق الاقتراع، وكذا الدينامية التي أطلقها حراك 20 فبراير2011 وما تلاه. فرئيس الحكومة السابق،وظف كثيرا أدواته الشعبوية للتأكيد على هذه المشروعية كمقدمة جوهرية في حججه التفاوضية مع الفرقاء الآخرين، كما أن العلاقة بين هؤلاء المتفاوضين تميزت بالصدام وتبادل الاتهامات من هذا الطرف أوذاك، أكثر مما هي محاولة للتوافق والتعاون بينهم. إن العودة المدوية لهذا الصراع الرمزي، والذي لطالما كشف عن أعراضه هنا وهناك، لا يمكن فهمها إلا في إطار مسلسل التردد و الاضطراب، بل النكوص الذي يعرفه مسلسل الانتقال الديموقراطي في المغرب. هذا الانتقال المطبوع بمفارقة غريبة ومثيرة، تتمثل في كثافة وغزارة الخطاب حول الديموقراطية من جهة، وغيابها أو غموضها على الأقل على مستوى أنساق الفعل الملموس وفي ممارسات الفاعلين. وكذلك، وهذا هو الأهم، يبدو أن هذه القيم الديموقراطية لم يتم استبطانها بعد في نسق تمثلات هؤلاء الفاعلين… ثانيا: تعيين رئيس حكومة جديد لقد تمادى بعض الباحثين والمحللين والإعلاميين، بعد التعيين الملكي للسيد سعد الدين العثماني رئيسا للحكومة، في استنطاق، إن لم نقل استنزاف الفصل 47 من الدستور المغربي، والاستنجاد به لتفسير القرار المفاجئ ، خاصة وأن بنكيران لم يلتق بالملك لإبلاغه بحيثيات تأخر تشكيل الحكومة. والحال أن بلاغ الديوان الملكي بين بعبارات واضحة أن القرار اتخذه الملك بمقتضى صلاحياته الدستورية كرئيس للدولة، بصفته الساهر على احترام الدستور وعلى حسن سير المؤسسات الدستورية...ما يجعل القرار يستند فعليا إلى منطوق الفصل 42، وليس الفصل 47،رغم ما قد يوحي به تعيين رئيس الحكومة مرة أخرى من الحزب الذي تصدر الانتخابات البرلمانية. فالبلاغ لم يتضمن أية إشارة إلى هذا الفصل، لكننا قد نتفق أن القرار يعطي انطباعا على أن الأمر يتعلق بتأويل ديموقراطي لفصل أسال مدادا كثيرا بسبب الفراغات المهولة التي يتضمنها. إن هذا السند القانوني يمنح للملك صلاحيات واسعة في هذا المضمار تتجاوز بكثير حتى التعيين من بين صفوف حزب العدالة والتنمية، وهو ماعبر عنه بلاغ الديوان الملكي ب''روح الدستور'' الذي يسمح بتأويل نصه. إن هذا اللبس مؤشر قوي على العلاقة المتوترة في المغرب بين القانون والسياسة، فالقانون في بعض الأنظمة التقليدانية والهجينة يزيد من غموض وضبابية الممارسة السياسية، أكثر مما يوضح ويضبط قواعد اللعبة. ونفس الملاحظة يمكن أن تسري على علاقة القانون بالمجتمع. زيادة على هذا، فشخصية السيد سعد الدين العثماني الهادئة والعلمية المتقنة لأصول الحوار المثمر، قد تنعكس على مسلسل المفاوضات، وربما كذلك على المشهد السياسي من حيث الحدة ، والعنف أحيانا، الذي طبع الخطابات المتداولة بين الفاعلين السياسيين والحزبيين خلال الولاية السابقة. ثالثا: رد فعل حزب العدالة والتنمية رغم الغموض الواضح في بيان الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية، وكذا بيان مجلسه الوطني، اللذان لم يخرجا عن ترديد نفس الألفاظ والعبارات الواردة في بلاغ الديوان الملكي، وتأكيد التعامل الإيجابي مع التعيين، وبالنظر كذلك إلى رد فعل السيد بنكيران وكذا تصريحات بعض قادة الحزب، فمن المرجح أن ينهج حزب العدالة والتنمية استراتيجية مهادناتية غير صدامية في قادم الأيام، من أجل الاستمرار في مغازلة السلطة، ومحاولة إصلاح بعض الأخطاء التي قد تكون مسببة في إعفاء بنكيران، وذلك لسببين أساسيين في نظرنا: أولا لبراغماتية هذا الحزب في علاقته بالسياسة، وثانيا لكون ميزان القوى الحالي لا يسمح عمليا بأية استراتيجية مغايرة. هذه الاستراتيجية يمكن أن تدفع بالحزب إلى تقديم المزيد من التنازلات، وتمكين الفاعلين أو اللاعبين الآخرين من كسب رهان إضعافه داخل التحالف الحكومي، وهو ما قد يؤدي إلى الحد من فعالية آلته الانتخابية مقارنة بالأحزاب الأخرى ، في أفق انتخابات 2021. يمكن النظر كذلك إلى التفاعل الإيجابي للحزب مع القرار كتكتيك مرحلي، يروم تجاوز مأزق تكوين الحكومة، ثم المراهنة بعد ذلك في السنوات الخمس المقبلة،على حشد المزيد من الدعم و التأييد من الكتلة الناخبة، الشيء الذي سيمكنه من الحصول على عدد أكبر من المقاعد النيابية، وتعزيز موقعه التفاوضي في أفق 2021 ،وذلك بالرغم من قيود الضبط و إكراهات النظام الانتخابي. وإذا كان رئيس الحكومة السابق قد استطاع صياغة خطاب بسيط، لكنه نفاذ إلى عقول و قلوب فئات واسعة من الشعب، فإن تناقض هذا الخطاب في علاقته بالقصر قد زعزع ثقة السلطة به.لذلك يمكن القول إن الرئيس الجديد سوف يحرص على صياغة خطاب واضح تجاه المؤسسة الملكية، كما سيحرص على ذلك باقي قادة الحزب. هذه اللحظات الثلاث، والوقائع والحيثيات التي واكبتها، تؤكد بالملموس استمرارية في الميكانيزمات العامة لاشتغال نسق سياسي مغربي، أبان في العديد من المناسبات عن قدرة مثيرة في التكيف مع تطور التاريخ و دينامية المجتمع. ختاما، فإن الشيء المؤكد من كل هذا،هو أن فهم اللعبة السياسية في نظام سياسي غير ممأسس كليا، ويشتغل بالمضمر إلى جانب الصريح، والكواليس إلى جانب المرئي، تبقى مسألة بالغة الصعوبة، وتتطلب تواضعا معرفيا وابستيمولوجيا كبيرا،أو على حد تعبير السفسطائيين: ''لا شيئ موجود، وإذا وجد لن تستطيع فهمه، وإذا استطعت فهمه لن تستطيع أن تعبر عنه.'' *باحث في العلوم السياسية