تقف رقية المصدق، أستاذة القانون الدستوري، في هذا الحوار، عند قرار إعفاء بنكيران من رئاسة الحكومة، والأساس الدستوري الذي بني عليه، وتعتقد أن قيمة الدستور ليست في ذاته، بل يتكسب قيمته فقط عندما يرغب الملك في إعطائه تلك القيمة. – كيف قرأتْ الأستاذة رقية المصدق البلاغ الملكي بإعفاء بنكيران من رئاسة الحكومة؟ في تصوري، يمكن قراءة بلاغ الديوان الملكي من خلال ثلاثة مستويات: أولا، الشخص المرسَل إليه البلاغ المتضمن لقرار الإعفاء، أي السيد رئيس الحكومة، وهنا أثارتني الطريقة التي اعتمدت في تبليغ قرار الإعفاء، على اعتبار أن المرسِل هو رئيس الدولة، والمرسَل إليه هو رئيس الحكومة الذي يمثل الشخصية الثانية في الدولة، وهي طريقة أجدها تنطوي على إهانة لمؤسسة رئيس الحكومة. وما يحزّ في نفس أي مواطن متشبع بروح المواطنة أن ما حدث جرى في ظل الدستور الحالي، الذي يَزعم البعض بأنه معلمة فيما يسمى ب"الاستثناء المغربي"، وهذا مقلق جدا. – وما الطريقة الأخرى التي كانت ممكنة؟ نحن إزاء مؤسستين كما قلت، أي المؤسسة الملكية ومؤسسة رئاسة الحكومة، وكان ينبغي أن يتم التعامل بينهما مؤسساتيا، وليس عن طريق بلاغ صادر في الإعلام. أعتقد أن الكيفية التي اختارها الديوان الملكي لتبليغ القرار لرئيس الحكومة المعين تنطوي على مزايدة. والحال أنني رصدت والتقطت خلال المرحلة الأخيرة عددا من المزايدات من الطرفين، خصوصا من طرف رئيس الحكومة المعين، وأتوقع أن الديوان الملكي أراد بدوره أن "يُزايد" من جهته على بنكيران، لكن منطق الدولة والمؤسسات يجب أن يكون أسمى من ذلك، كنت أتوقع احترام قاعدة توازي الأشكال على الأقل، بحيث إن الطريقة التي عُين بها بنكيران رئيسا للحكومة، كان يجب إعفاؤه عن طريقها، مادام لم يقدم استقالته. – هل يمكن وصف قرار الديوان الملكي بالسلطوي؟ ليس ذلك فحسب، لأنه حتى في بنية تسلطية قد يكون هناك منطق قائم في التعامل بين المؤسسات، أما ما وقع في حادث إعفاء بنكيران فقد افتقد إلى المنطق أساسا، لقد كان أقرب إلى نظام السخرة. لماذا لم يرد في البلاغ توصيف محدد لمضمون القرار هل هو إعفاء أم استقالة؟ من ثغرات الفصل 47 أنه لم يتحدث عن الحالة التي يتعذر فيها على رئيس الحكومة المعين تشكيل أغلبية حكومية، وفي غياب ذلك، كان لا بد من تأسيس ممارسات وأعراف داخل النص الدستوري، أي داخل الفصل 47، في حالة إذا ما إذا لم يتوفق رئيس الحكومة المعين في تشكيل أغلبية وبغض النظر عن أسباب ذلك. بالفعل كان البعض يرى أن الحل يكمن في حالة كهاته في حل البرلمان والذهاب إلى انتخابات سابقة لأوانها. لكني أرى أن هذا الخيار كان سابقا لأوانه، لأن الإمكانية الدستورية التي كانت متاحة أمام الملك، كانت تتمثل في تعيين شخصية أخرى من نفس الحزب المتصدر للانتخابات، وقد لجأ إليها ولكن بعد انصرام خمسة أشهر وعشرة أيام. هناك حاجة إلى ممارسة دستورية قد تتطور إلى عرف دستوري يكمل الفصل 47 ويسد ثغراته. أتفق أن التأويل الدستوري يتم في سياق سياسي معين، وفي إطار لعبة سياسية بين قوى ومصالح، وأن الأقوى قد يفرض تأويله الذي يتوافق ومصالحه، ومع ذلك فالتأويل في نظري يجب دائما أن يبقى داخل النص ومحكوما بسموه. ولهذا السبب كنت أرى أن الفصل 47 يفتح هذا الهامش، أي تعيين شخصية أخرى من الحزب الفائز في الانتخابات. – ما الذي أثار انتباهك أيضا في بلاغ الديوان الملكي؟ ما أثارني هو المستوى الثاني من القراءة، أي التوقيت الذي صدر فيه البلاغ، والذي أتى بعد خمسة أشهر وعشرة أيام من قرار تعيين بنكيران. لقد سبق لي أن عبّرت وكتبت في بداية يناير أن المرور إلى شخصية أخرى كان ممكنا، لكن ذلك لم يتم إلا في منتصف مارس، وأعتبر أن هناك هدرا كبيرا للوقت. وفي رأيي فإن الفصل 47 يحتاج إلى تكريس ممارسة دستورية أخرى فيما يخص تحديد فترة زمنية لتشكيل الحكومة، إذا استُنفِدت يكون بإمكان الملك أن يتدخل من أجل تعيين جديد. لكن هذه الإمكانية أيضا لم تستعمل، وظل الرأي العام ينتظر خمسة أشهر وزيادة، ولو جرى الانتباه إليها مبكرا، لَمَا تم ذلك الهدر الكبير من الوقت. أقول هذا مع أنني لا أستبعد أن تكون هذه الإمكانية إن تم التفكير فيها فعلا قد أجلت إلى غاية التصرف في انتخاب رئيس مجلس النواب أو حتى إلى غاية تهيئة الرأي العام لاستيعاب الرسائل المتضمنة في البلاغ، وإلا فكيف تفسر أن الاستعداد إلى انتخاب رئيس مجلس النواب ترافق مع تهليل وسائل الإعلام الرسمية بأن تشكيل حكومة جديدة ليس ضروريا لانتخاب رئيس مجلس النواب. وفي الآونة الأخيرة بدأ الحديث عن هدر الوقت، بل ومصالح الدولة الناجم عن عدم تشكيل الحكومة؟ على كل حال، أعود لأقول إنني قرأت إثر تعيين السيد سعد الدين العثماني رئيسا جديدا للحكومة، أنه تلقى توجيهات من الملك بتشكيل الحكومة في ظرف 15 يوما، وأعتبر أن الأمر ذاته كان من الممكن أن يحصل منذ تعيين بنكيران في أكتوبر الماضي. – هناك إحالة ضمنية على الفصل 42 في البلاغ، ما دلالة ذلك؟ هذا يتعلق بالمستوى الثالث في قراءتي لبلاغ الديوان الملكي، أي مضامين البلاغ، وأبادر إلى القول هنا إن البلاغ أشار إلى الفصلين 42 و47 من الدستور دون ذكرهما صراحة، ولكن هذا ليس هو المشكل لأنني أعتقد بأن الرسالة وصلت وأن المسألة مفهومة. المشكل أعمق وأخطر من هذا. إنني شخصيا أعتبر بأن البلاغ تأسس على التداخل بين الفصلين بالشكل الذي لا يقبل التجزئة وبالصيغة التي تقضي بأن الفصل 42 في الوقت الذي يستوعب الفصل 47 فإنه يسمو عليه. كل هذا يجعلني أقرأ فيما حدث تطبيقا للفصل 47 بواسطة الفصل 42 لا غير، وهذه مسألة خطيرة جدا. – أين تكمن الخطورة؟ علينا أن ننتبه إلى أن البلاغ الملكي أشار إلى احترام الشرعية الانتخابية التي يقتضيها الفصل 47 وفي الوقت نفسه لوّح بخيارات أخرى متاحة للملك بمقتضى روح الدستور، غير تلك التي ينص عليها الفصل 47 من الدستور. بيد أنني أعود لأؤكد بأنني لا أفصل بين الإحالتين، ثم إن هذا الفصل بين الإحالتين يقضي بأنه في حالة عدم نجاعة الحل المتمثل في تعيين رئيس حكومة جديد مكلف بتشكيل الحكومة، يتم اللجوء إلى خيارات أخرى. هذه قراءة لا أتبناها بتاتا. أنا أتعامل مع البلاغ من منطلق التداخل بين الإحالتين، وكأننا أمام إحالة واحدة تتحكم فيها التراتبية التي ذكرتها. وأتوقف لأفسر أن الإحالة الواحدة أعني بها تطبيق الفصل 47 بواسطة الفصل 42 والتراتبية، هي التي تقضي بأن الفصل 42 من الدستور يسمو على الفصل 47 في الوقت نفسه الذي يحتويه. إن هذا يعني أن الملك وهو يعين سعد الدين العثماني رئيسا للحكومة لم يطبق الفصل 47 لذاته نظرا لقيمته الدستورية السامية، إنه طبّق الفصل 47 بواسطة الفصل 42. وهذا يعني أن الفصل 47 من الدستور لن تكون له قيمة دستورية سامية إلا إذا أراد الملك. لذلك ونظرا لكل هذا أعتبر أن ما حدث هو أول حالة تطبيقية لما أسمّيه "الدستور التقديري"؛ أقصد دستور سنة 2011 الذي سميته ب"الدستور التقديري"، على اعتبار أنه يمنح الملكية صلاحية التصرف في الدستور، وكأن النصوص الدستورية يجب قراءتها وكأنها مذيلة بعبارة "إذا أراد الملك". – هل معنى ذلك أن الفصل 42 مسكون بروح الفصل 19 في دستور 1996 وما قبله؟ لا، الأمر مختلف. لماذا؟ لأن الفصل 19 في الدساتير السابقة، كانت له كنص، قيمة رمزية فقط، وهذا ما أفهمه حتى بقراءتي لكتاب "التحدي" للملك الحسن الثاني الذي صدر سنة 1976. وفي كتاباتي قلت أكثر من مرة إن الفصل 19 كانت له قيمة رمزية حتى على مستوى الممارسة خلال الفترة الممتدة من 1962 حتى 1983. لكن بعد ذلك التاريخ وقع انحراف دستوري بفعل الممارسة وليس بفعل النص. وكان الانحراف عن الدستور على مستوى الممارسة، يقع التستر عليه بتفعيل الفصل 19 من الدساتير السابقة على دستور 2011، وهذا التستر على انحراف من هذا القبيل كان يتم اللجوء إليه في فترة التسعينات وحتى الثمانينات من قبل الملك الراحل الحسن الثاني، ولكن بشكل ضمني في غالب الحالات. في المقابل رأينا أنه مع الملك محمد السادس أصبحت الإشارة إلى هذا الفصل تتم صراحة، ويستعمل في التشريع الذي يفترض أن يكون اختصاصا حصريا للبرلمان. لكن مع دستور 2011 وقع تطور آخر، لقد تمت دسترة الانحراف الذي كان يبرر ويتم التستر عليه فقط، بواسطة الفصل 19 في الدساتير السابقة، في نص الدستور الجديد. – كيف ذلك؟ عند التأمل في السياق الذي جرى خلاله وضع دستور 2011 يمكننا التمييز بين مرحلتين: مرحلة أولى اتسمت بالرغبة في التعايش بين الملكية وحركة 20 فبراير، حيث إنه عند اندلاع الاحتجاجات كانت الأولى في موقف دفاعي، والثانية في موقف هجومي، ففي الوقت الذي احتلت فيه الحركة مركز الضغط استثمرت الملكية موقعها في مركز القرار. في هذا السياق جاء خطاب 9 مارس 2011 الذي سيلعب دورا لا يستهان به في تغيير ميزان القوى لصالحها، هذا إضافة بطبيعة الحال إلى الأسلوب الذي اعتمدته الملكية في مواجهتها لحركة 20 فبراير، والذي كان يتراوح بين المهادنة واللجوء إلى العنف. أعود إلى خطاب 9 مارس لأقول إنه حقق التفافا فاق كل التوقعات، ربما حتى توقعات الملكية دون أن ننسى أنه أفسح المجال للتهافت على تقديم المذكرات. ولم تُستثن من ردود الفعل هذه الأحزاب، بما فيها جل أحزاب الحركة الوطنية التي لعبت بكل امتياز دور الاحتياطي المساند والداعم للمؤسسة الملكية. هذا على أن مواقف حزب العدالة والتنمية الداعم للمؤسسة الملكية لم ينتظر خطاب 9 مارس. إن تحول ميزان القوى السياسي لصالح الملكية يفسر كيف أن الملكية بدأت تسعى إلى إعادة إنتاج هيمنتها على النظام السياسي، والتي لم يكن من الممكن أن تكتمل دون دسترة الانحراف الدستوري كما تراكم على مستوى الممارسة تحت غطاء الفصل 19 في الدساتير السابقة، أي ما أسميه "منظومة دستورية ضمنية تقديرية". هذه المنظومة التي كانت تشتغل على ضفاف الدساتير السابقة، وقعت دسترتها في نصوص دستور 2011. ولكن محاولة إدماج ما هو ضمني داخل منظومة دستورية سامية ترتب عليها قلب مجال الدستور إلى فضاء تقديري، إذ أصبح للملك بفعله صلاحية التصرف في الدستور، وهذا ما يجعلني أقول أيضا إن الفصل 47 له قيمة دستورية وسامية فقط إذا أراد الملك، وهذا هو معنى الخطورة التي تكلمت عنها. – هل نحن أمام بداية انحراف جديد على مستوى الممارسة؟ قلت إن المشكل يكمن في الدستور نفسه، إذ أعتبر أن الانحراف مكون أساسي من مكونات الدستور التقديري، بل ومن العملية التأسيسية في حد ذاتها، في حين أن الانحراف في الدساتير السابقة كان يجري على هامشها، أي على مستوى الممارسة، وبالتالي كان يمكن إصلاحه على مستوى الممارسة السياسية بإعادة الاعتبار لسمو الدستور الذي ينبغي أن يؤطرها. إن الانحراف الدستوري اليوم بات جزءًا من الدستور نفسه، حيث إن القيمة الملزمة للدستور رهينة بالسلطة التقديرية للملك، وأعتبر أن حالة إعفاء بنكيران، تعتبر حالة تطبيقية لهذا الانحراف، كنت أتمنى ألا تقع حالة أو ممارسة من هذا القبيل. – يلاحظ أن البلاغ الملكي تحدث عن خيارات أخرى غير تعيين شخصية أخرى من الحزب المتصدر للانتخابات، ما الممكن دستوريا؟ قد يكون من بينها حلّ مجلس النواب وإعادة الانتخابات، وربما فيها تهديد بإمكانية المرور للحزب الثاني أو غير ذلك، وقد تكون هناك أشياء أخرى لا نعرفها، لكن من وجهة نظري، أن الممكن دستوريا هو تعيين شخص آخر من داخل الحزب المتصدر للانتخابات فقط، أو إعادة الانتخابات بعد حلّ مجلس النواب. – تنحية بنكيران هل المقصود بها شخصه فقط، أم حزبه كذلك؟ قد يكون الهدف هما معا، ليست لدي معطيات محددة، كما أن البلاغ الذي صدر بالشكل المعلن، قد يكون مزايدة من الديوان الملكي، وذلك ردا على مزايدات بنكيران، وهذا احتمال قائم وأقرب إلى الواقع. لأنني رصدت منذ فترة منافسة صامتة بين أسلوب بنكيران وأسلوب الملك، وحتى أثناء الاستعداد إلى الانتخابات، وهي منافسة تتم في مجال الرمزيات، وما أظن أن الملكية كانت ستسمح بها لخمس سنوات أخرى. طبعا أنا لا أحبذ أسلوب بنكيران، فهو مندفع إلى أقصى الحدود، لكن الأهم في هذا السياق ليست مواصفات الشخص، بل الحسابات السياسية التي تحرك هذا الطرف أو ذاك. بنكيران كان يقول إنه كان رئيسا للحكومة خلال أيام العمل، لكنه في نهاية كل أسبوع يتحول إلى معارض، وقد أكد ذلك صراحة غير ما مرة وعبر عن افتخاره بذلك. ومع أن هذا لا يليق برئيس حكومة، إلا أني أجد نفسي مضطرة لطرح هذا السؤال: إذا كان رئيس الحكومة يُعارض، فمن يُعارض بالضبط؟ يجب أن يفصح عن ذلك. – هل القرار الملكي كان مفكرا فيه بالنظر إلى أسلوب بنكيران؟ أنا لا أقول إن السبب هو الأسلوب فقط، هناك أيضا رغبة المؤسسة الملكية في ألا تكون أمامها أحزاب قوية. لكنني ركزت على أسلوب بنكيران لأنه مثير للجدل، ويتسم بالتناقض، فهو يتنازل عن اختصاصاته ويعتبر نفسه "مجرد رئيس حكومة" يساعد الملك، وفي الوقت نفسه يفتخر بأنه يمارس دور المعارضة. هذا يجعل المتتبع المحايد في حيرة من أمره، لأن بنكيران كرئيس حكومة لم يكن يدرك أنه بحكم تحمله المسؤولية وممارسته لمهامه كان يؤسس على مستوى الممارسة لأعراف لا تمت بصلة للدستور. لقد كانت سلوكاته متناقضة. هذا مع أنني لا أنفي بأن مهمته لم تكن سهلة. لكن ينبغي القول بصراحة إن قرار إعفاء بنكيران استهدف حزبه كذلك، لأننا نعرف أن المغرب تبنى التعددية الحزبية في ظرف دولي اتسم في أقطار عدة بهيمنة الحزب الوحيد، والسرّ وراء ذلك أن الملكية كانت تخشى من هيمنة حزب الاستقلال، في الوقت الذي كانت ترغب فيه أن تكون القوة الوحيدة المهيمنة. أعتقد أن الملكية ترفض التعايش مع حزب قد يصبح حزبا مهيمنا، خصوصا وأن حزب العدالة والتنمية يعدّ آلة انتخابية بامتياز مافتئت تتقدم بالتدريج، وهذا يشكل تهديدا بالنسبة إلى الملكية، لأنه يمثل إمكانية عودة شبح الأغلبية المطلقة من جديد. – هل استمرار "البلوكاج" في تشكيل الحكومة لأزيد من خمسة أشهر، يمكن تفسيره بطبيعة النظام الانتخابي أم إن المشكل كامن في الفاعل السياسي كذلك؟ أظن أنهما معا، لكن يجب الانتباه إلى أنه لا يمكن فصل دور الفاعل الحزبي عن دور فاعل آخر هو المؤسسة الملكية. في العمق هناك تنافس بين مشروعيتين: المشروعية الحزبية التي تقوم على أولوية الأساس الانتخابي، والمشروعية الملكية التي تقوم على أولوية الأساس الوراثي، وبين المشروعيتين بون شاسع، خصوصا إذا استطاع حزب معين الحصول على أغلبية نسبية ثم مطلقة، وبالتالي تشكيل حكومة لوحده، لأن التناوب مجرد إمكانية فقط. حزب العدالة والتنمية من خلال النجاحات المتوالية له في الانتخابات، أعطى الانطباع بأنه يمكن أن يغيّر بنية النظام الانتخابي، ويكسّر كل الحواجز التي وضعت فيه. – كيف ترصدين علاقة النخبة الحزبية بالملكية؟ أعتقد أن سؤال استقلالية القرار الحزبي كان ولازال مطروحا بحدة. لقد لاحظت أنه بعد تعيين السيد بنكيران رئيسا للحكومة، بعد انتخابات السابع من أكتوبر، كانت هناك مؤشرات تقضي بالتوصل إلى اتفاق بتشكيل حكومة من أحزاب "الكتلة الديمقراطية" بقيادة العدالة والتنمية، لكن عوض أن يبادر بنكيران إلى الإعلان عن ذلك، صرّح بأنه سينتظر حزب التجمع الوطني للأحرار حتى يعقد مؤتمره، وهو ما يطرح سؤالا استفهاميا حتى الآن. كما أن التغير الكبير في مواقف حميد شباط، الأمين العام لحزب الاستقلال، تجاه العدالة والتنمية يطرح علامات استفهام كبرى. كلنا يعرف أنهم تبادلوا السب والشتم لمدة طويلة وحتى أثناء الحملة الانتخابية، ثم بين عشية وضحاها أصبحا قريبين من بعضهما وأعلنا عن رغبتهما في التحالف، كما لا يمكنني القول إن وصول حزب الاتحاد الاشتراكي إلى رئاسة مجلس النواب قد تحقق له بفضل 20 نائبا برلمانيا فقط. لهذا أعتبر أن سؤال استقلالية القرار الحزبي أصبح مطروحا وبإلحاح. – هل آليات التوجيه والتدخل هي نفسها بين العهد القديم والعهد الجديد؟ في عهد الحسن الثاني كان هناك صراع بين الملكية والأحزاب، لكن في الفترة الحالية هناك "انبطاح" أو بالأحرى "استسلام" غير مسبوق. أظن أن اختراق الأحزاب أصبح سهلا لأسباب متعددة، والانسداد في تشكيل الحكومة برئاسة بنكيران يؤكد هذا الرأي بالنسبة إلى كافة الأحزاب. لو أن بنكيران أعلن تشكيل الحكومة منذ البداية دون انتظار الأحرار، لكان قد ربح بعض الوقت، وأعفى المغاربة من الانتظار خمسة أشهر. ومع ذلك، فلا أستبعد أن يكون المآل نفسه هو ما كان ينتظره حتى ولو فعل ذلك. – هل أصبح الاتحاد الاشتراكي حزبا إداريا؟ لا أعرف ما أقول بصدد هذا الحزب، لكنه يعيش وضعية غريبة عن تاريخ الحزب ورصيده النضالي. أنا لا أفهم لماذا يرغب بإلحاح في المشاركة في الحكومة، وكأن الحزب خلق للحكومة فقط. من يعود إلى أدبيات المهدي بن بركة، يجد تنظيرا لمهام الحزب، وكيف أنه أداة للتنمية ومدرسة للتكوين السياسي، لكن يبدو أن مثل هذه المفاهيم أصبحت غريبة جدا عن الاتحاد الاشتراكي اليوم. إني أتساءل كيف سيكون وضع الاتحاد في الحكومة، بغير رضى رئيسها، وهذا يجعلني أتساءل أيضا عمن سيوجه وزراء هذا الحزب داخل الحكومة، هل رئيسها أم جهة أخرى غير معلومة. – هل نحن أمام نهاية أحزاب الحركة الوطنية؟ كان الأستاذ كلود بالازولي قد كتب في بدايات السبعينات عن "الموت البطيء للحركة الوطنية"، لكن لا يجب أن نكون عدميين لهذه الدرجة. قد يكون المآل الحالي لحزب الاتحاد الاشتراكي أو حزب الاستقلال مؤسفا، لكني أرى أن إمكانية عودة هذه الأحزاب وتجذرها من جديد يبقى ممكنا، ناهيك عن الأمل الذي تمثله فيدرالية اليسار الموحد. منذ وضع دستور 2011، هل نتقدم نحو دولة المؤسسات أم نتراجع؟ كي نتقدم يجب أن تكون هناك إرادة سياسية تعبر عن نفسها في إطار المؤسسات. لكن هل الدستور يسمح بذلك؟ لا أظن، لأنه دستور تقديري يمنح الملك صلاحية التصرف بشكل غير محدد في الدستور. من جهة أخرى اعتقد رئيس الحكومة أن حصول حزبه على المرتبة الأولى في الانتخابات تعطيه صلاحية التصرف في الأصوات الانتخابية كما يشاء، دون أي اعتبار للمنطق المؤسساتي والاختيار الديمقراطي. وهكذا رصدنا أنه في سنة 2011 وحتى مؤخرا أن حزب العدالة والتنمية سكت تماما عن الخروقات التي ارتكبت بمجرد حصوله على المرتبة الأولى، بيد أن الأمر يتعلق بخروقات تمت على حساب المبدأ الديمقراطي، وعلى حساب دولة المؤسسات. إنها لمفارقة غريبة حيث إن طرفا يريد صلاحية التصرف في الدستور، والطرف الآخر يريد صلاحية التصرف في الأصوات الانتخابية بشكل لا يقوي الديمقراطية.