يفتح أحمد منصور - معد و مقدم «شاهد على العصر» ، و«بلا حدود» على شاشة قناة الجزيرة صفحات من حياته و تجربته المهنية لقراء «الأيام»، تنتقل من شغفه بوحي القلم للرافعي و شعر المتنبي إلى تجربة الحروب الثلاثة التي غطاها و صنعت منه الصحفي المشهور، و تنتهي بتفضيل العديد من الساسة المغاربة للصحافة الفرنسية على تقديم شهادتهم للعصر من خلال أسئلته. "" كيف كان الدكتور القرضاوي متحفظا بداية ، قبل أن يصبح سعيدا ببرنامج «الشريعة و الحياة»، و كيف رأى منصور أطفاله في وجوه أطفال الفلوجة، و تلك المرأة الأفغانية التي لم تفارقه صورتها .. و في خلاصة.. خواطر أكثر من 25 عاما لم يستقر فيها أحمد في مكان أو مهمة ثابتين. لأول مرة راودت أحمد منصور فكرة الإشتغال بالصحافة..هل كانت رغبة شخصية مبنية على قناعات محددة أم اقتراح من أحد المقربين؟ ماهي القصة ؟ منذ أن وعيت على الدنيا وأنا أحلم أن أعمل بالصحافة والكتابة، كنت أشتري الصحف والكتب بمصروفي الصغير، وبينما كان زملائي يشترون الحلوى، كنت أجمع قرشا بعد قرش حتى إذا أصبح معي ثمن كتاب اشتريته، وكنت أقرأ فى كل شيء روايات الهلال، كتب دينية، وكتب مترجمة، وكنت أستعير من مكتبة المدرسة كل يوم قصة أو كتاب حتى أن أمينة المكتبة في بعض الأحيان كانت ترفض أن تعيرني الكتب والقصص معتقدة أني لا أذاكر وإنما أقضي الوقت في قراءة القصص والكتب، ورغم ذلك كنت متفوقا فى دراستي والحمد لله، وكان كل أساتذتي يحبونني، وفي المرحلة الإعدادية كنت رئيسا لاتحاد الطلبة فى المدرسة من الصف الأول الإعدادي أو المتوسط وحتى الثانوية العامة، وكنت أنا المسؤول عن إذاعة المدرسة، أفتتح برامجها الصباحية وأنهيها كل يوم، وفي المرحلة المتوسطة عرفت معرض القاهرة الدولي للكتاب وحيث أني من مدينة المنصورة وهي تبعد عن القاهرة حوالي ساعتين بالقطار كنت أذهب إلى المعرض مع من هو أكبر مني، ثم تعودت أن أذهب وحدي بعد ذلك وأذكر أني كنت أذهب ومعي جنيهات قليلة هي ما استطعت أن أجمعه من مصروفي فأعود ومعي حمل كبير من الكتب، ومن الكتب التى اشتريتها في هذه المرحلة كتاب وحي القلم لمصطفى صادق الرافعي وهو من ثلاثة مجلدات وكنت ومازلت أستمتع بقراءته، وأعتبر الرافعي من أفضل كتاب القرن الماضي، فهو صاحب معجم لغوي بديع ومتميز، وقد عشقت أسلوبه الجزل العميق مما جعلني أتغاضى عن قراءة كثير من الكتب السهلة بعد ذلك، هذه المرحلة لعبت دورا هاما فى حياتي بعد ذلك حيث عشقت كتب الأدب التراثية، فقرأت الإمتاع والمؤانسة لأبوحيان التوحيدي، والبخلاء للجاحظ والأغاني للأصفهاني، وأذكر أني كنت أظل أقرأ حتى يغلبني النعاس وكأني لا أريد أن أنام، وكنت ومازلت أعشق شعر المتنبي، تعلمت من أساتذتي كيف أنتقي الكتب، وكيف أقرأ وكنت أسأل عن الذي لا أعرفه، وأحرص على الإلمام بما أريد، وأذكر أني في المرحلة الثانوية حينما التحقت بالقسم الأدبي، لأني كما قلت لك قررت منذ طفولتي أن أدرس الأدب والصحافة، جاء مدرس العلوم وحاول إقناعي بالخروج من الصف والإنتقال إلى القسم العلمي وظل أسبوعا يقول لي أنت تدمر مستقبلك، المستقبل أن تكون طبيبا أو مهندسا لكني لم أغير ولم أبدل فى قناعاتي . و هل السياسة من قادتك إلى الصحافة ؟ أم أن هذه الأخيرة هي من جعلك تهتم بالسياسة أكثر فأكثر؟ لا أستطيع أن أفصل بين الصحافة والسياسة، فهما وجهان لعملة واحدة بالنسبة لي، منذ نعومة أظفاري وأنا مهتم بالسياسة، وبالتعرف على أسماء الدول والرؤساء والوزراء وسماع نشرات الأخبار. وأنا طفل صغير فى المرحلة الأبتدائية كان هذا الأمر شيئا أساسيا فى حياتي ومازلت أذكر أسماء مقدمي نشرات الأخبار فى إذاعة القاهرة حيث كنت ومازلت عاشقا للراديو رغم عملي فى التليفزيون، فأنا أستمع وأقرأ أكثر مما أشاهد. كيف بدأ مشوارك الصحافي مرتبطا منذ الوهلة الأولى بتغطية حرب أفغانستان؟ لي عبارة شهيرة أرددها دائما هي أن الحروب كما تصنع أبطالا عسكريين وقادة سياسيين تصنع أيضا صحفيين، وكل الصحفيين الذين اشتهروا فى الحرب اشتهروا من خلال تغطيتهم للحروب كما أن كثيرا من الصحفيين الذين اشتهروا فى الشرق كذلك اشتهروا بسبب تغطيتهم للحروب، فالحروب كما تتجاوز السنين وتختصر المسافات كذلك الصحفي يستطيع أن يختصر كثيرا من المسافات فى العمل الصحفي إذا أتيحت له الفرصة أن يقوم بتغطية حرب وحقق نجاحا فى التغطية، وقد كانت بداياتي الصحفية فى تغطية الحرب الأفغانية لبعض الصحف العربية بين عام 7891 و0991 إبان الإحتلال السوفياتي لأفغانستان فرصة حقيقية تعلمت فيها الكثير واستعطت خلال ثلاث سنوات من تغطية الحرب الأفغانية أن أمارس كل أشكال العمل الصحفي وأن أتفوق فيها كذلك، كما أتيحت لي الفرصة بعد ذلك لتغطية الحرب فى البوسنة والهرسك وتغطية الحرب فى العراق من خلال معركة الفلوجة . أول مرة وجدت نفسك تحت وابل النيران في أفغانستان..كيف كان شعورك ؟ بم فكرت أكثر ؟ تغطية الحروب شيء ليس سهلا على الإطلاق، ولا أستطيع أن أصف لك شعوري وأنا تحت وابل النيران، أنا أعيش الحدث كما هو، الأمر بحاجة إلى شجاعة، وإلى إرادة وإلى عزيمة، فأنت في هذه الأماكن لست مجبرا على الإطلاق، ولكنك تقرر أن تنقل الحقيقة عبر وجودك فى الخطر الذي يعيش فيه الناس، لذا فإن الأمر ليس سهلا على الإطلاق. ما الفرق بين تجربتك في أفغانستان و تجربتك في البوسنة والهرسك ؟ الفارق أن تجربتي فى أفغانستان كانت الأولى وكنت فى بداية حياتي الصحفية، وكانت أمامي تحديات كثيرة، كما أني كنت مراسلا مقيما، أما فى البوسنة فقد كنت مدير تحرير مجلة المجتمع الكويتية وكنت زائرا وبينما بقيت فى افغانستان ثلاث سنوات بقيت فى البوسنة شهرا واحدا وقد كانت سراييفوا تحت الحصار وكنت من الصحفيين القلائل الذين دخلوها من خلال النفق وكانت تجربة فريدة سجلتها في كتابي تحت وابل النيران فى سراييفو. وما هي المشاهد التي ظلت عالقة أكثر في ذهنك في كل حرب غطيتها؟ كل لحظة قضيتها في أماكن الحروب عالقة في ذهني في أفغانستان والبوسنة والعراق، ولعلك تلاحظ ذلك من كتاباتي عن الحروب، غير أن أكثر ما كان يؤلمني هو الجوانب الإنسانية: الأطفال والنساء على وجه الخصوص، قلبي كان يتمزق حينما كتبت عن امرأة من أفغانستان، وكبدي كان يتفتت حينما كتبت عن حصار سراييفو، وروحي كانت تذوب وأنا أكتب عن أطفال الفلوجة، إنها الإنسانية التي دمرها هؤلاء الذين قاموا بهذه الحروب، ولم يتركوا مجالا لشيخوخة رجل أو نعومة طفل، أو ضعف امرأة، مازال وجه المرأة الأفغانية التي كتبت عنها "امرأة من أفغانستان" ماثلا أمامي كأني أراها الآن، أما أطفال الفلوجة فقد جعلوني أصرخ من الألم حينما رأيت وجوه أطفالي في وجوههم، إنها حروب الدمار والخراب ليس للمباني والبيوت والقرى والمدن فهذا كله يسهل بناؤه وإنما للإنسان. كيف تلخص الفرق الذي وجدته بين تجربتك في الصحافة المكتوبة و بين عملك بقناة تلفزية ؟ الفارق هائل بين تجربة الصحافة المكتوبة وبين التجربة التليفزيونية، فى الصحافة المكتوبة تستيطع أن تكتب أي معلومات تحصل عليها وتعتمد على أسلوبك فى عملية التصوير، أما في العمل التليفزيوني فلا بد أن يكون لديك الصور، فالتلفزيون صورة، وبدون الصورة يتحول عملك إلى راديو، كما أن العمل التليفزيوني أكثر إجهادا من العمل الصحفي، فأنا أبقى أعمل طيلة أسبوع حتى أقدم للمشاهد فى النهاية حلقة مدتها ساعة، ورغم كل ذلك فأنا أعشق الصحافة المكتوبة ورغم احترافي للعمل التليفزيوني فإني أعتبر الصحافة المكتوبة هي بيتي الأول والأخير . هل وجدت من خلال عملك المهني داخل المغرب شيئا يميز بلدنا عن باقي الدول العربية ؟ المغرب به مميزات كثيرة، من الناحية الصحفية حرية الصحافة في المغرب أعتقد أنها علامة مميزة حتى أن بعض الصحف المستقلة أصبحت أقوى من الأحزاب السياسية، كما أ نها أصبحت سلطة حقيقية، وأصبح بعض الكتاب أقوى من الوزراء والمسؤولين لشيء واحد هم قرروا أن يكونوا أحرارا وأن يعبروا عن الناس وهمومهم، كما أن المغرب بها تنوع كبير غير أن الأوضاع السياسية فيها تشبه كثيرا ماهو في المشرق من حيث ضعف الأحزاب السياسية، والفقر والبطالة والفساد، وغيرها من المشكلات الأخري فالوضع في المغرب من هذا الجانب يشبه الوضع في مصر وسوريا وكثيرا من الدول العربية الأخرى . لماذا لم نشاهد أي مغربي ضيفا على حلقة شاهد على العصر؟ هناك مشكلة كبيرة في كثير من السياسيين المغاربة أنهم إذا اتصل بهم صحفي فرنسي هرولوا للقائه، بينما يغفلون الصحافة العربية، وقد اتصلت بكثيرين فلم تكن لديهم الشجاعة حتى للقائي للحديث كما أن بعضهم يكتم شهادته وهذا خياره، لكن كتم الصمت فى تصوري هو نوع من الشهادة الزور لهذا فإني أدعوا كل السياسيين الذين شاركوا في صناعة تاريخ المغرب الحديث أن يؤدوا أمانة الشهادة إلى هذا الشعب وإلى الشعوب العربية حتى نعرف حقيقة ما جرى فى المغرب خلال العقود الخمسة الماضية، لكن السيد عبد الهادي بوطالب كان أشجعهم، فقد رحب بي في يبته وجلست معه عدة ساعات ورتبت معه لتسجيل شهادته وآمل أن أتمكن قريبا من تسجيلها ومازلت أحاول إقناع آخرين ممن آثاروا الصمت لعلي أفلح في إقناعهم أن يتحدثوا. كيف تم الاتفاق بداية أن تكون من ينشط برنامج الشريعة والحياة ولماذا تخليت عنه؟ بالنسبة لبرنامج الشريعة والحياة، حينما ذهبت للعمل في الجزيرة لم يكن لدي أية خبرة تلفزيونية، وكانت خبرتي كلها في مجال الصحافة المكتوبة وحينما نجحت في المقابلة واختبار الكاميرا، طلبت من إدارة الجزيرة أن أبقى تحت التدريب لمدة ستة أشهر قبل أن أقوم بتقديم البرامج التي تقدمت لعملها وهي شاهد على العصر وبلا حدود، لكن كانت هناك مشكلة في برنامج الشريعة والحياة، كانوا يبحثون له عن مقدم بديل، فعرض علي المدير أن أقوم بتقديم الشريعة والحياة لمدة ستة أشهر وتكون تدريبا في نفس الوقت، رفضت في البداية لكن تحت إلحاح المدير وتعهده بأن تكون الفترة ستة أشهر فقط، قبلت لاسيما وأنه قال هذا تدريب على الهواء، وكان لي عدة شروط من أهمها أن أعيد صياغة البرنامج من جديد بأسلوب صحفي وليس بأسلوب البرامج الدينية المعتادة، فقبل المدير، لكن الدكتور القرضاوي كان متحفظا إلى حد ما، فهو تعود على أسلوب معين ولا يحب أن يملي عليه أحد أسلوبا جديدا، جلست معه عدة جلسات مطولة لإقناعه، لم يبد قناعة، لكن قبله، ربما كانت خبرتي التلفزيونية المحدودة آنذاك لها دورها، لكن حينما بدأت تقديم البرنامج انقلب من مجرد برنامج ديني إلى برنامج يتابع على نطاق واسع حتى أصبح البرنامج الأول في الجزيرة، وكان يتابع من كل الأعمال وحتى من كل الأديان، وأذكر هنا حادثة أني كنت في مطار دمشق عام 99، وإذا بشخص يناديني حينما هممت أن أدخل بوابة المطار الداخلية ويركض نحوي ويطلب مني أن أنتظره، وحينما جاء نحوي كان ينهج، فقال لي عفوا، أنا أردت فقط أن أحييك، أنا اسمي ميخائيل وأنا مسيحي، وأحب أن أقول لك أني أنتظر يوم الأحد كل أسبوع لا لأذهب إلى الكنيسة، ولكن لأشاهد برنامج الشريعة والحياة، حقق البرنامج نجاحا باهرا أسعد الشيخ القرضاوي قبل غيره، لكن هذا النجاح جعل إدارة الجزيرة تتخلى عن وعدها لي بأن أبقى في البرنامج ستة أشهر فقط ثم أتفرغ لتقديم بلا حدود وشاهد على العصر، وإنما مددوا لي عاما آخر كنت أسجل خلاله برنامج شاهد على العصر، وبعد ضغوط مني تفرغت لبرنامج بلا حدود وشاهد على العصر وتناوب الزملاء على الشريعة والحياة. ألا تفكر في العودة إلى مصر للعمل والاستقرار بها؟ ولماذا؟ أنا في الجزيرة أقدم برامجي من كل أنحاء العالم، كل أسبوع من دولة بلا حدود حسب مكان إقامة ضيفي، ولا يقلقني أن أعمل من مصر أو غيرها، الدنيا تغيرت الآن، وأنا لم أستقر في مكان واحد أو أعمل عملا محدودا منذ خمسة وعشرين عاما، ولا أتطلع إلى أن أكون ذلك الشخص القابع، الذي يعمل بأسلوب روتيني في مكان ما عملا ما، ليس لدي روتين في حياتي، وكل يوم مختلف عن الآخر، وأعمل بحب وشغف واضعا نصب عيني كيف أسعد الناس بما أقوم به، فالحياة قصيرة والأعمال المطلوبة من الإنسان كثيرة، وبلاد الدنيا كلها بلادي رغم حبي لكل ذرة من تراب مصر، لكنني أيضا سفير لها في أي مكان أعمل منه وفي أي مكان أكون فيه. ما هي نوعية البرامج التي ترتاح أكثر لإنجازها؟ ولماذا؟ أرتاح لعمل ما أقوم به، فأنا لست موظفا ولا أعمل بروح الوظيفة على الإطلاق، ولا أقبل أن يملى علي شيء أو أعمل شيئا لا أحبه، كل ما أعمله وأقوم به أحبه، ولأني أنا منتج برامجي: أي أنا الذي أحدد الموضوعات والضيوف والمحاور وصلب الموضوعات، لذا أستمتع بما أقوم به. هل تجد أن إحراج الضيف هو من مقتضيات إنجاح البرنامج الحواري؟ وهل سبق أن لامك ضيوفك بعد نهاية التسجيل بسبب إحراجك لهم؟ لا أتعمد إحراج ضيف على الإطلاق، وكل ضيوفي يعرفونني ويعرفون أسلوب حواري وأني لا أجامل حتى أصدقائي أو معارفي، وكثير من ضيوفي تربطني بهم بعد ذلك علاقة مودة واحترام، فالكل يعرف أني محترف وكثيرون يعتذرون عن الحوار معي، وأنا أحترم آراء الجميع ومواقفهم، فأنا في النهاية أبحث عن الحقيقة وليس عن الإحراج لأحد، وهذا ما يجعل الجميع يحترموني ويقدرون ما أقوم به، ومازلت أذكر مقالة الجنرال مارك كيميت نائب قائد القوات الأمريكية الأسبق في العراق حينما اتهمني ببث الأكاذيب حينما كنت أقوم بتغطية معركة الفلوجة، غير أنه بعد عامين قبل الحوار معي في برنامج بلا حدود وقال لي أمام جميع الملأ:«رغم أني أختلف معك إلا أني أريد أن أعبر عن احترامي لك وتقديري لشجاعتك، لاسيما حينما كنت في الفلوجة». هكذا يحترمني الجميع وهذه نعمة أشكر الله عليها.