حادثة الإعتداء الجنسي على الشاب الفرنسي "ثيو"، قبل أسابيع عديدة، من لدن 4 من عناصر الشرطة الفرنسية، وما تبعها من احتجاجات عنيفة في الضواحي، أعادت إلى المشهد الفرنسي أزمة مماثلة شهدتها البلاد في 2005. أزمات متتالية يرى مراقبون أنها تستبطن قطيعة فجّة بين الدولة الفرنسية وضواحيها، والتي يقيم فيها عدد كبير من الجاليات المغاربية والإفريقية وغيرها، وتنذر بخريف مماثل لذاك الذي شهدته البلاد قبل 12 عاما، حين أشعلت حادثة مقتل الطفلين زياد بنة (17 عاما) وبونا تراوري (15 عاما) في ضاحية "كليشي سو بوا" البلاد برمتها، وأجبرت باريس على إعلان حالة الطوارئ. 10 أيام متواصلة من أعمال الشغب في الضواحي الفرنسية كانت نتيجتها إحراق أكثر من 8 آلاف سيارة، واشتعال مئات المباني، وإيقاف 6 آلاف شخص. خريف غاضب أشعل أحداثا تعتبر الأعنف في تاريخ الضواحي الفرنسية، قبل أن تتمكن السلطات من احتواء وضع شبيه ببركان مهدد بالثوران من جديد في أي لحظة، جراء استفحال البطالة والفقر والطائفية والعنف، في محصّلة لم تشهد تحسّنا يذكر 12 عاما إثر ذلك. ومطلع فبراير الماضي، أعادت حادثة الإعتداء على "ثيو"، أثناء التحقق من هويته في ضاحية "أولناي سو بوا"، الجدل حول أزمة الضواحي الفرنسية إلى الواجهة، وأسفرت عن إيقاف 245 محتجا، وفق المقرّبين من وزير الداخلية الفرنسية، برونو لو رو". فما كشفته قضية "ثيو"، وفق مراقبين، هو عجز السلطات عن معالجة مشاكل الضواحي التي تعاني العزلة والتهميش والفقر، ما يجعلها معقل الجرائم والإقتصاد الموازي وغيرها من الآفات الإجتماعية، ويورث سكّانها مشاعر "الفصل العنصري"، رغم الجهود المبذولة من قبل باريس. قطيعة لافتة تفصل الدولة الفرنسية عن ضواحيها، وتشكّل حصيلة تراكمات لأحداث منفصلة دفعت نحو الإحساس بالعزلة والإقصاء، قبل ظهور حالة من الضياع فالتململ، كان من البديهي أن تقود نحو الإنفجار. مهدي بيغاديرن، عضو المجلس البلدي لضاحية "كليشي سو بوا" بفرنسا، يرى أن "الغضب المرتبط بالعنف الإجتماعي وسوء الأوضاع المعيشية لا يزال موجودا بالفعل حتى اليوم، وباعتبار ما ألاحظه يوميا، فإننا نرصد مثل هذا الأمر باستمرار". من جانبها، قدّرت أستاذة العلوم السياسية في جامعة "باريس 8"، سيلفي تيسو، أنّ "الكثير من الأشياء تغيّرت منذ 2005، لكن ليس بالضرورة نحو الأفضل". وأوضحت أن "العوامل الاجتماعية والاقتصادية تفاقمت، وهذا الأمر يشمل جميع أنحاء فرنسا، غير أنه يمسّ بشكل أعمق الأشخاص الذين يواجهون ظروفا معيشية سيئة، ويضاف إلى كل ذلك شكل جديد من أشكال العنصرية، ألا وهو الوصم، والذي يستهدف المسلمين أو الثقافة الإسلامية في فرنسا". وبالنسبة لمدير البحوث بالمركز الفرنسي للأبحاث العلمية، لوران موكييلي، وهو أيضا مؤلف كتاب "عندما تشتعل الضواحي: عودة على أحداث نونبر 2005"، فإنّ "النخبة الباريسية لا تعير انتباها لحجم التباينات (الاجتماعية/ الاقتصادية)، فالسكان، شبابا أم مسنين، يتحدثون عن معضلة البطالة". وأوضح أن "البعض يمكن أن يقبل بالوضع (...)، غير أن البعض الآخر سيسقط في الانحراف وتجارة المخدرات، وحين نسألهم لماذا، يجيبون بأن لا مكان لهم في النظام، وأنهم وجدوا أنفسهم خارجه، ما يعني أن هذا الأمر أضحى بديلا لهم، تماما كما كان يحدث قبل 30 عاما حين كان يتعين على الشخص الاعتماد على والده للحصول على وظيفة في مصنع". شعور طاغي يتملّك سكان الضواحي بأن لا صوت لهم، لكن هل يكفي أن يجدوا آذانا صاغية دون الحصول على حلول عملية؟ تساؤل أجاب عنه مهدي بيغاديرن، والذي قال إنه "من الضروري أن يستعيد القانون العام مكانته، والتمديد في معاناتنا لا يكفي، بل نحن بانتظار أفعال". بيغادرن أشار أن المجالس البلدية الفرنسية تعمل، منذ عدّة أشهر، على تشكيل هيئات جديدة للديمقراطية التشاركية، أطلق عليها اسم "مجالس المواطنة"، في مبادرة ترمي إلى فسح المجال أمام السكان من أجل التوصّل إلى حلول أكثر فاعلية لأزمة الضواحي. ولفت أن فكرة "مجالس المواطنة" مستوحاة من تقرير بعنوان "لن يحدث شيء بدوننا"، والذي أنجز في 20133، وشارك فيه محمد مشماش الرئيس السابق ل "أي سي لو فو"، هذه الجمعية التي تأسست عقب أحداث 2005، لإيصال صوت الأحياء الفرنسية. أما عن محصّلة تلك المجالس، فأعرب عن قناعته بأنه "حين تلعب المدن دورها، فإنه من الممكن إحداث تغيير حقيقي، غير ذلك سيكون الأمر عبارة عن مهزلة". وبالنسبة له، فإن "هذه المجالس تمنح الأمل بعدم تكرار تجاهل مخاطر تفاقم الوضع، ومزيد إقصاء السكان من السياسة"، مشيرا إلى تشكيل خلية مراقبة لمجالس المواطنة، لرصد أي خلل أو خرق في عمل الهيئات، وتجميع المبادرات الإيجابية. مرشح اليمين الفرنسي، فرانسوا فيون، ومرشح اليسار، بنوا آمون، ومرشّح جبهة اليسار الراديكالي، جان لوك ميلونشون، يشددون جميعهم، في برامجهم الإنتخابية على ما أسموه ب "التنوّع الإجتماعي". فيون تعهّد ب "إلغاء المساعدات المقدمة لبناء المساكن الإجتماعية حين تتجاوز سقف ال 30 % بالمدينة"، مستنكرا ما أسماه ب "القطيعة الجهوية". أما كل من آمون وميلونشون، فمنحا الأولوية لخارطة تعليمية جديدة، حيث اعتبر مرشّح الإشتراكيين (آمون) أن "هذه السياسة ستركّز على القطاعات، وعلى التعاقد مع التعليم الخاص من أجل أن يساهم في جهود التنوّع الإجتماعي". وفي الوقت الذي يركّز فيه كل من مارين لوبان مرشّحة حزب "الجبهة الوطنية" الفرنسية (يمين متطرف) للرئاسية المقبلة، وفرانسوا فيون، على القضايا ذات الصلة بالأمن والسلطة، يتحدّث فيه مرشحو اليسار والوسط على معضلة التمييز. المرشح المستقل، إيمانويل ماكرون ، يرى من جهته أن الحلّ يكمن في اقتصاد جديد. وقال، في إحدى تصريحاته، إن "الشاب الفرنسي لا يريد أن نرافقه، لأن ما لا يمكن قبوله حين نكون قادمين من أحد الأحياء هو أن نعتبر بأننا غير مؤهلين للحصول على آليات المساعدة". وأضاف حين كان لا يزال وزيرا للاقتصاد (2014-2016): "شخصيا، سأتحدّث معهم حول بعث المشاريع، لأن العثور على زبائن بالنسبة لهم أسهل بكثير من إيجاد مشغّل". * وكالة أنباء الأناضول