تحتضن الضواحي الفرنسية حوالي 8 ملايين نسمة، أي بمعدل 12 في المائة من سكان فرنسا، وهي نسبة لها تأثير وازن في حالة مشاركتها في التصويت، لكنها تبقى الهامش المنسي والمسكوت عنه. صحيح أن بعض المرشحين للانتخابات الرئاسية نطق بكلمة ضواحي فيما زار بعضهم الآخر هذه المنطقة أو تلك، لكن تبقى في الأخير نظرتهم دون المستوى ودون أية استراتيجية لإخراج الضواحي من وضع الغيتو الذي توجد عليه منذ عقود. يتسابق المرشحون للاستحقاق الرئاسي الفرنسي القادم لعرض مقترحات حلول في قضايا تهم الشغل، التعليم، الطاقة، محاربة البطالة، دعم الثقافة... لكن الضواحي بقيت الهامش المنسي والمسكوت عنه. صحيح أن بعض المرشحين نطق بكلمة ضواحي فيما زار بعضهم الآخر هذه المنطقة أو تلك، لكن تبقى في الأخير نظرتهم دون المستوى ودون أية استراتيجية لإخراج الضواحي من وضع الغيتو الذي توجد عليه منذ عقود. هكذا قام المرشح الاشتراكي، فرانسوا هولاند، بقفزة شبه سرية للاجتماع بأعضاء جمعية «أوقفوا النار»، كما حل فرانسوا بايرو، المرشح باسم الحركة من أجل الديمقراطية، بمدينة جانفيلليه، فيما حل دومينيك دوفيلبان ب«مكان الجريمة»، آرجانتوي، في الثالث من فبراير. وكانت المدينة مسرحا لخرجة ساركوزي لما توعد شباب المدينة بتنظيف أحيائها ب«الكارشير». فرانسوا هولاند يعد بإبقاء المصالح العمومية في الضواحي، أما جان-ليك ميلنشون، عن جبهة اليسار، فيعتبر أن «وزارة المدينة» لا تصلح لشيء وأبانت عن فشلها وبالتالي يجب إلغاؤها. تبقى مارين لوبان أكثر راديكالية من الآخرين، في نظرها يجب التشطيب على «المناطق الحضرية الحساسة» والمعروفة باسم متوحش ZUS والتي تعتبرها «مناطق خارج القانون». سياسة الاستئصال من بين المقترحات ال60 التي عبر عنها المرشح الاشتراكي، فرانسوا هولاند، ثمة اقتراح واحد يخص الضواحي، وهو المقترح رقم 27 الذي يتركز على إعطاء الأسبقية للشباب، وخلق فرص عمل في مجال التربية الوطنية، تماشيا مع مبدأ «تساوي الفرص». ما هي أسباب هذا الجفاء؟ هل هي مبعث على الخوف؟ الأكيد أن السياسة الاستئصالية أو سياسة «الكارشير» التي اتبعها نيكولا ساركوزي، والتي شيطن فيها الضواحي هي إلى حد المسؤولة عن عزوف العديد من المرشحين عنها. الوعود التي ضربها ساركوزي بتنظيف العمارات الإسمنتية من «الأوباش»، الذين قدم عنهم توصيفا قاتما، بمتاجرتهم في المخدرات، واعتدائهم على العجزة، وتكسيرهم واجهات المحلات التجارية، لم تطبق على أرض الواقع، لذا أصبح السلوك السائد هو تجاهل الضواحي. تحتضن الضواحي 8 ملايين نسمة، أي بمعدل 12 في المائة من سكان فرنسا، وهي نسبة لها تأثير وازن في حالة مشاركتها في التصويت، لكن من الصعب القيام ب«راديوسكوبي» لتوجهات ناخبي الضواحي، وتحديدا المهاجرين منهم، على اعتبار أن القوانين تمنع الإحصائيات التي تستند إلى الأصول الإثنية أو الدينية. ما هو معروف هو أن المغاربيين يصوتون لصالح اليسار لدواع سياسية حقوقية تتعلق بمؤازرة هؤلاء لمطالبهم. كما أن الجمعيات التي تنشط في الضواحي تبقى ذات توجهات يسارية. وفي الانتخابات الرئاسية لعام 2007، صوت سكان الضواحي بنسبة 75 في المائة على سيغولين روايال. لكن ثمة تخوفات من أن ينفر المغاربيون من فرانسوا هولاند، إذ يأتي التقرير الذي أعدته جمعية «تيرا نوفا» المقربة من الحزب الاشتراكي، ليلمح إلى هذا الاحتمال. في عنوان: «اليسار.. أية أغلبية انتخابية لعام 2012؟»، أشار الخبراء، الذين انكبوا على إعداده، إلى وجود قطيعة بين سكان الضواحي واليسار، وهي قطيعة ترجع إلى انتخابات 2007 بل إلى سنوات السبعينيات، حينها جرى الحديث فقط عن قطيعة ثقافية وليس قطيعة سياسية. وقد تعززت هذه القطيعة في الثمانينيات بوصول فرانسوا ميتران إلى الحكم، ثم بمجيء ليونيل جوسبان، الذي أفتى بفكرة مفادها أن «الدولة لا تقدر على القيام بجميع الإنجازات». وبما أن سكان الضواحي أغلبهم من العمال، فإنهم لا يلبثوا أن يديروا ظهرهم لليسار للتوجه صوب اليمين المتطرف أحيانا. حتى اليمين التقليدي لم يستفد من هذا الجفاء، بل على العكس ارتدت الضواحي ضده على خلفية التصريح الذي أعرب عنه نيكولا ساركوزي أمام الكاميرات خلال الزيارة التي قام بها لآرجونتوي، ناعتا أبناء الضواحي ب»الأوباش». كان وقتئذ وزيرا للداخلية، ولما أصبح رئيسا، دفع بوزيره في الداخلية إلى محاربة المهاجرين ونعت الضواحي ب»أوكار للجنوح والانحراف». هذه العملية كان الغرض منها التقاط أصوات الفرنسيين المقربين من اليمين المتطرف. مازالت الضواحي على حالها بعد خمس سنوات من مجيء ساركوزي إلى الحكم، مازالت الضواحي على حالها، بل أكثر من ذلك، عرفت انتكاسا حقيقيا على كافة المستويات. على مستوى الشغل، 42 في المائة من الشباب القادر على العمل، الذين تترواح أعمارهم بين 15 و 24 سنة لا يعثرون على وظيفة، حيث تطال البطالة 21 في المائة مقابل 10 في المائة من المواطنين النشيطين. وقد اقترح ساركوزي عام 2007 «خطة مارشال» للنهوض بالضواحي، تحت اسم «أمل الضواحي»، لكن هذا المشروع كان مجرد شعار، لأنه كان يفتقر للإمكانيات المادية، بل تم التراجع عن المكتسبات التي تحققت في عهد فرانسوا مثل «وزارة المدينة» عام 1991 بعد المظاهرات التي وقعت في ضواحي ليون على إثر وفاة شاب على يد البوليس. الجديد الذي استحدثه ساركوزي هو تجنيده لعناصر من الفعاليات الجمعوية، لتعيينها على رأس مسؤوليات وزارية قبل أن يغلق عليها في قمطرات مهملة، من أمثال رشيدة داتي أو فاضلة عمارة، النتيجة هي عزوف سكان الضواحي، وتحديدا المغاربيين، عن السياسة. فهم ينظرون إلى السياسيين على أنهم شرذمة من المتاجرين على ظهور الطبقات المهمشة، يكثرون من الوعود لكن فور انتهاء الانتخابات يرجعون إلى صالوناتهم المخملية. وعزوف مغاربيي الضواحي عن السياسة أو الانخراط في السياسة على الطريقة الفرنسية هو بشكل ما رفض للاندماج في جسم المجتمع الفرنسي. كما يلاحظ أيضا إقبال على متابعة سياسة البلد-الأصل. وقد جاءت ثورات الربيع العربي لإعطاء زخم لهذا الاهتمام بالشأن العربي وتوجيه المغاربيين نحو الاهتمام بتطورات هذه المجتمعات. كما أن طفرة الإسلاموفوبيا دفعت العديد من الفرنسيين من أصول مغاربية إلى عدم التعرف على ذواتهم في قيم الجمهورية الفرنسية. لكن يجب التمييز داخل المغاربيين بين عدة أطراف وتوجهات، إذ منهم من يدير ظهره بالمرة للسياسة، ومنهم من ينتظر البدائل، فيما يناضل طرف ثالث من أجل إحداث الضجيج من حول مطالبه، مثل جمعية Acelefeu التي رأت النور عام 2005 بمدينة كليشي سو بوا (بضاحية السين سان-دونيه)، غداة أحداث الشغب التي شهدتها المدينة. فقد احتلت الجمعية، خلال الأسبوع الماضي، فندقا فخما شاغرا في باريس لإثارة انتباه المرشحين للرئاسية إلى ضرورة الاهتمام بأحياء الضواحي. وقد تعاقب أقطاب اليسار على المكان لإبداء اهتمام شكلي بالقضية، فيما لم يستجب مرشحو اليمين لهذا النداء، ذلك أن هذا الأخير أظهر فشله الكبير في توفير فرص شغل لأبناء الضواحي، الذين تعرف أوضاعهم انتكاسا متزايدا. وإلى الآن لم يجرؤ ساركوزي على الخوض مجددا في الموضوع، لأن أي حديث عن الضواحي من شأنه إحالة الأذهان على خطاب «الكارشير» و«الأوباش»، وهي بمثابة جروح لم تندمل بعد خمس سنوات من التسيير الساركوزي. ولتبييض هذه الحصيلة، هب بعض المثقفين-الخبراء لنجدة ساركوزي ولترسيم صورة قاتمة للضواحي كونها تحولت إلى مرتع للتطرف والأصولية الإسلامية. وفي هذا الاتجاه أطلق المعلق السياسي ألكسندر آدلر، المعروف بحقدة الصريح للمسلمين، العنان لقلمه للإشارة إلى أن الضواحي أصبحت «أرضا للإسلام». المظاهر الخارجية للضواحي كتب في مقال بجريدة «لوفيغارو» بأن المذهب الإسلامي المحافظ يتحدث عن «بيت الإسلام»، وهي الأرض التي شاعت وانتشرت فيها هذه الديانة، ثمة مقارنة بين الوضع الذي توجد عليه الضواحي الفرنسية والضواحي في بلدان مثل باكستان أو الهند. هذا ما يحدث عندما تحاول الضواحي الفرنسية أن تسير نفسها بنفسها بمعزل عن الدولة، إذ تتحول بناء على هذا الواقع إلى أرض إسلام ولا يمكن للجمهورية في هذه الحالة الدخول إلى مجالها. ألكسندر آدلر ينعش في الحقيقة كليشيهات إكزوتيكية مستهلكة تنبني على عنصر المظهر (ظهور الحجاب واللحية والصلوات في الأزقة والمجازر الإسلامية)، ثم على العدد (تكاثر المسلمين)، وهي نفس النغمة التي عزف عليها كلود غيان، وزير الداخلية، لما أشار إلى أن فرنسا مهددة في هويتها وجغرافيتها بتكاثر المسلمين ! وهذه النظرية تجد لها أنصارا أيضا لدى الإسرائيليين الذين يرون أن الكيان اليهودي مهدد بتكاثر الفلسطينيين! إن حاول ساركوزي «التقاط» رشيدة داتي التي دفع بها مجددا إلى الحلبة بمدينة ليل بشمال فرنسا لإلقاء خطاب مديح في حقه، فإن بعض رموز التعددية غير مرتاحين من تهميش الضواحي، من أمثال يزيد الصباغ، الذي عينه ساركوزي عام 2008 مفوضا للتعددية (وهو منصب شكلي من دون ميزانية ولا قرار سياسي). وعلى القناة الأولى أشار الصباغ إلى أن غياب الضواحي في الحملة الانتخابية شيء تراجيدي، وحذر من انبثاق جيوب للمقاومة «لا أحد من المرشحين يعد المعبر عن الضواحي» يوضح الصباغ. وفي شهر فبراير، عقد معهد مونتاين، بالتعاون مع جمعية عمداء المدن والضواحي، مناظرة تحت عنوان: «الضواحي.. أية مقترحات للغد؟» وقد أجمع المتدخلون من عمدات الضواحي على أن هذه الأخيرة هي آخر ما يدخل في اهتمام المرشحين للرئاسية. تفسر سيلين براكونييه، أستاذة العلوم السياسية بجامعة سيرجي بونتواز، هذا الإهمال بغياب تصويت الضواحي، لذا فإن الأحزاب السياسية لا تعيرها أي اهتمام. كما أن قاطنة مدن الضواحي تفتقر إلى معرفة الفاعلين السياسيين. وتستطرد قائلة إن العديد من المواطنين يجهلون من هو الوزير الأول! الرهان اليوم هو نزول المرشحين بشكل مستدام إلى عين المكان وليس القيام بزيارات ظرفية عابرة. وهذا ما عبر عنه الاشتراكي، أوليفييه كلان، عمدة «كليشي سو بوا» حين صرح لجريدة «ليبراسيون» الفرنسية بأنه لا ينتظر الشيء الكثير من المرشحين، «حتى وإن كنت على اقتناع بأنه يجب إشراك الجمعيات والاستماع إلى مطالبها. لكن في ما يخص الاقتراع الرئاسي، يجب أن تدمج الضواحي ضمن برامج المرشحين لا أن تكون فقط مجرد نقطة ظرفية. وضرب المثل بوضعية الأساتذة الذين يعملون بالمدينة، والذين في غياب ظروف لائقة، غادر 70 في المائة منهم المدينة. قطر في الضواحي لكن المشكل ليس في «زحف الأسلمة» على الضواحي، ولا في تحولها إلى «وكر إثني» إنما يكمن في انعدام الإمكانيات وعدم الاعتراف بها كمجال فرنسي. وسياسة إهمال الضواحي هي أحد أشكال العقاب المفروضة عليها، مما يفسر اليوم تدخل دولة قطر على الخط في الضواحي لتمويل مشاريع تربوية وتنموية. هكذا أنشأت المشيخة صندوقا للاستثمار بقيمة 50 مليون أورو لتمويل مشاريع اقتصادية اقترحها مغاربيون من منتخبي الضواحي، وقد قام هؤلاء (خمسة رجال وخمس نساء)، بزيارة إلى قطر دامت شهرا لربط علاقات اقتصادية مع المستثمرين القطريين والأحياء الشعبية. واستثمار قطر له أهداف مزدوجة: استثمار مالي واستثمار بشري، لأن هؤلاء يمكنهم أن يشكلوا وساطة في الشراكة بين قطر وفرنسا. على مستوى آخر يمكن لقطر أن تصبح قطبا للهجرة المنتقاة لأبناء الضواحي من حملة الشهادات الكبرى الذين لم يعثروا على وظائف بفرنسا. يبقى مشكل التأقلم مع العادات والتقاليد المحلية للبلد، ثم عامل اللغة (أغلب هؤلاء المغاربيين لا يتكلمون العربية)، والمناخ السياسي لقطر الذي لا يتسم بنفس الحريات التي يحظى بها هذا الشباب في فرنسا. لكن حياة البذخ التي توفرها مشيخة قطر قد تنسيهم جحيم الجنة ! الخلاصة أن الضواحي تبقى ضحية الاستحقاق الرئاسي، فيما تسابق كل المرشحين إلى الصالون الدولي للفلاحة لمعانقة الأبقار وأخذ صور تذكارية إلى جانبها.