قدم فرانسوا هولاند، مرشح «الحزب الاشتراكي» للانتخابات الرئاسية الفرنسية، يوم الأحد الماضي، بشكل جزئي برنامجه الانتخابي ومفهومه لمنصب الرئيس ونظرته إلى مستقبل فرنسا، في أول مهرجان انتخابي له بمدينة البورجيه بالضاحية الباريسية أمام حوالي 15 ألف شخص، بحضور مسؤولين كبار في «الحزب الاشتراكي»، بينهم ليونيل جوسبان، رئيس الحكومة الأسبق، وسيغولين روايال، مرشحة الحزب للرئاسة في 2007. اختار فرانسوا هولاند، المرشح لرئاسية 2012، قصر البورجيه للمعارض الدولية، الذي يحتضن أيضا المطار الدولي لشارل ديغول، منصة لإطلاق حملته الانتخابية. هذا الاختيار ليس بريئا بل ينم عن رغبة قوية للإقلاع في اتجاه الإليزيه. هكذا، وأمام 20 ألف مناضل أو متعاطف مع الحزب الاشتراكي، ألقى هولاند، لمدة ساعة وعشرين دقيقة، خطابا تضمن ترسيما أوليا لكبريات التوجهات الاقتصادية والسياسية في حالة فوزه بالرئاسية. وكعالم أركيولوجيا، قلب مساحة الورشة العشوائية لإعادة ترتيب تربتها من جديد، ولوضع البناء الذي ستقوم عليه بعض القطاعات الحيوية مثل قطاع الاقتصاد، المال، الشغل، والسكن. كما رسم الخطوط العريضة لمساره الشخصي ولمجيئه للسياسة. إذ أعلن أنه ولد في عائلة محافظة في منطقة نورموندي ولقي كل الحب والتقدير من قبل والديه، مشيرا إلى أنه قضى حياته في خدمة فرنسا والشعب الفرنسي سواء كنائب في البرلمان أو كسكرتير أول للحزب الاشتراكي مدة 11 عاما أو كمنتخب في المجالس المحلية. وقال هولاند: «لقد ناضلت 30 سنة وكل ما قمت به في السابق يصب في هدف واحد هو أن أكون اليوم أمامكم وأترشح إلى رئاسة الجمهورية.. نعم أرغب وأحلم في الوصول إلى الحكم لخدمة جميع الفرنسيين دون استثناء». وأنهى خطابه بمقولة للكاتب والمسرحي البريطاني وليام شكسبير : «لقد فشلوا لأنهم لم يكن لديهم حلم». وفي انتظار أن يعرض المرشح، اليوم، الخميس، البرنامج المفصل للحزب، ارتأى رفع اللبس عن التوجهات العامة وعن شخصيته التي شككت المعارضة في افتقادها للوزن الرئاسي. وإن كان من درس أولي يمكن استخلاصه لأداء فرانسوا هولاند في البورجيه هو تموقعه لجهة اليسار. بعد الانتقادات التي أعرب عنها أكثر من طرف داخل اليسار، سواء من داخل الحزب الشيوعي ممثلا في جان-ليك ميلنشون، أو داخل البيئويين، والذين يؤاخذون عليه توجهاته الاشتراكية الليبرالية، اتضح أن المرشح ليست له أي رغبة في مهادنة الرأسمال ممثلا في السلطة المفرطة للأبناك والمتسبب في الانهيار الاقتصادي. وقد جاء خطاب هولاند مرصعا برموز لخصوم لمس من ورائها المحللون ظل ساركوزي بل شبحه المتواطئ مع أصحاب المال والنفوذ. وقد أشار هولاند في خطابه إلى أن خصمه الرئيسي يبقى هو عالم المال، الذي يعتبر السبب في تفاقم الأزمة وتعمق هوة الفوارق الاجتماعية. وهو ما يبرزه قوله بداية خطابه: «لقد جئت هنا لأتحدث إليكم عن فرنسا التي تحلم، فرنسا التي تتطلع إلى مستقبل زاهر.. لقد جئت لأقول لكم إن صفحة من تاريخ فرنسا في طريقها إلى الزوال وصفحة جديدة في صدد الكتابة». وأضاف أن الترشح إلى الانتخابات الرئاسية يعني النضال من أجل عالم «لا يخضع لدكتاتورية الأسواق والمؤسسات المالية، بل عالم تسوده المساواة والعدالة بين جميع المواطنين ويحترم فيه الجميع القوانين مهما كانت مكانتهم الاجتماعية أو السياسية، بعيدا عن الديماغوجية والعنف السياسي». مشيرا إلى أن خصمه الحقيقي «لا يملك اسما ولا وجها ولن يشارك حتى في الانتخابات الرئاسية، خصمي يحمل اسم النظام المالي الدولي». ووعد في سياق حماسته بأن يكون ذاك «الرئيس الذي يضع حدا للامتيازات». واستشهد بأصوله المتواضعة التي سادت فيها دائما قيم العدالة والمساواة بين الأشخاص من دون إعطاء الأفضلية للاعتبارات أو الوسائط. وشملت اقتراحاته التعجيل بإصلاح الأبناك، بالإصلاح الجبائي، بتأطير الكراء وإطلاق السكن الاجتماعي. واجتماعيا، تعهد فرانسوا هولاند بتقديم الدعم اللازم للشباب كونه مستقبل فرنسا، على حد تعبيره. ويمر هذا الدعم من خلال خلق 60 ألف وظيفة في قطاع التربية وتوفير منح دراسية وخلق فرص عمل جديدة بهدف وضع حد للبطالة التي تدفع إلى الشارع كل سنة 150 ألف شاب، حسب تقدير هولاند. كما تعهد بالحفاظ على حرية الإعلام والصحافة ومعاقبة كل المتورطين في الفساد والفضائح المالية، إضافة إلى إدخال قانون 1905 الذي يضمن مبدأ الفصل بين الدين والدولة في الدستور الفرنسي. إن كان فرانسوا هولاند ميترانديا، (نسبة إلى فرانسوا ميتران)، فإن قلبه يميل أكثر إلى بيار-مينديس فرانس، من جهة البوح بالحقيقة التي يجب أن تقود خطى الإنسان. لذا فالشعار الذي رفعه أمام مناضلي الحزب والقائل ب«العدالة الآن، الأمل الآن»، يدين أكثر لبيار مينديس فرانس. يأتي لقاء البورجيه في سياق الاستفتاءات المؤيدة لفرانسوا هولاند واحتلاله لرأس القائمة في مختلف استطلاعات الرأي بحصوله على نسبة 30% من الأصوات في الدور الأول فيما لا تتعدى نسبة ساركوزي 23% . وإن تابع هولاند مسيرته على هذا الإيقاع، فإنه سيحرز بالكاد في الدور الثاني وبمساعدة نقل مجموع أصوات اليسار لحسابه على نسبة 60% . وقد صحح هولاند من استراتيجية تعامله. عوض الترقب والمهادنة، أظهر على العكس من ذلك خلال لقاء البورجيه عن دينامية غير مألوفة. وبالتالي نجح في طمأنة أنصاره وخلق أجواء الثقة والإقناع بجمع شمل الفرنسيين الذين أحدث ساركوزي في صفوفهم تفرقة صارخة. دينامية مسلسل الإجماع خلق هولاند أولا إجماعا في صفوف الحزب وذلك بفرض اختياراته، كما نأى بنفسه عن النزاعات الداخلية الواقعة بين تيارات الحزب. هذا الإجماع مستهل يتكئ عليه هولاند لخلق إجماع داخل اليسار من حول شخصه وترشيحه. وبتركيز سهامه على «عالم المال» و«رئيس الامتيازات» (ساركوزي)، نال استحسان بعض أقطاب اليسار أمثال جان-بيار شوفينمون وإيفا جولي، المرشحة باسم البيئويين. اليوم الخميس، يعرض المرشح الاشتراكي للرئاسية بالأرقام والوثائق لمشروعه الذي كشف عن بعض محاوره في خطاب البورجيه. لكن الطريق لا زالت طويلة وشاقة. إذ عليه أن يتجاوز العديد من العقبات وليست الرئاسة مضمونة مائة بالمائة. ذلك أن المعارضة وبالأخص جنود وقناصي ساركوزي أخرجوا مباشرة بعد انتهاء هولاند من إلقاء خطابه، الأسلحة لإطلاق النار على مقترحاته. فيما أشار البعض إلى «تفاهة المقترحات»، ندد البعض الآخر مرة أخرى ب«ضبابيتها». لم تعد تظاهرة البورجيه في نظر البعض الآخر مجرد فرجة إعلامية. وأرخى الوزراء والمسيرون الحزبيون العنان لتصريحاتهم العدائية. وانتظمت الجوقة لدك خطاب هولاند. اعتبر هنري غينو، المستشار الشخصي لساركوزي، أن «خطاب هولاند خطاب عتيق ومانوي. الخير ضد الشر. اليمين ضد اليسار». أما بريس هورتفوه، وزير الداخلية الأسبق فقد رأى في فرانسوا هولاند مرشحا لسنوات 70-80 . وزير الشغل، غزافييه بيرتراند، يرى أن هولاند ليست له نفس الأولويات التي يفكر فيها الفرنسيون. ويبدو أن حزب التجمع من أجل حركة شعبية قرر نهج سياسة «بارد وسخون». من جهة تسليح قناصة الحزب ( كلود غيان، هنري غينو، جان-فرانسوا كوبيه، ) لإطلاق النار على هولاند ومن جهة أخرى تحلي ساركوزي ببرودة الأعصاب وعدم الاهتمام باستطلاعات الرأي، عدم تغيير توقيت إعلان ترشح ساركوزي للرئاسية، ثم الرهان على الأزمة كي توجه الفرنسيين نحو المرشح الذي يوفر لهم الطمأنينة على النقيض من فرانسوا هولاند، الذي لم يتحمل يوما مسؤوليات وزارية أو حكومية. كما يرغب ساركوزي في القيام بحملة انتخابية سريعة وجارفة لإغراق خصمه. وقد أشارت صحيفة « لوباريزيان» لعدد الثلاثاء إلى أن الخوف تملك الطاقم الانتخابي. لكن محطة RTL سربت خبرا مفاده أن ساركوزي طرح لأول مرة أمام بعض من وزرائه احتمال هزيمته في الانتخابات القادمة. وإن حصل ذلك فإنه سيعتزل السياسة نهائيا. كما أن الموقع الإلكتروني لصحيفة «لوموند»، نسب إلى ساركوزي قوله إنه منهك القوى. «لأول مرة أجدني أمام نهاية مهمتي. هذا النوع من التسريبات لا يخدم معنويات الحزب الذي شرع في التهيؤ للإعلان عن ترشح ساركوزي. أمام الحزب إذن 15 يوما لاسترداد عافيته بعد تخفيض ستاندرد آند بورز للتصنيف الائتماني لفرنسا، الشيء الذي أوله الفرنسيون كفشل للسياسة الاقتصادية لساركوزي. وعوض أن يدافع الحزب عن برنامج المرشح القادم وجد نفسه يدافع عن حصيلة فصل الحديث فيها ملصق وزعه الحزب ابتداء من يوم الثلاثاء على نطاق 6 ملايين نسخة يمدح فيه 10 إصلاحات قام بها الرئيس. كيف سيحافظ فرانسوا على وثبة البورجيه؟ في الوقت الذي أجمع فيه الملاحظون على الإنجاز السياسي والمعنوي الذي حققه فرانسوا هولاند في هذا اللقاء، يتساءل بعضهم عن ديمومة هذا الحدث واستفادة المرشح الاشتراكي من تبعاته. هل تجاوز منطقة الخطر وأصبح بمنأى عن الزلات أو الهفوات التي قد تعترض سبيله؟ على أي حرص هولاند على الحفاظ على إيقاع وثبته وذلك بقيامه يوم الثلاثاء بزيارة لمدينة تولون، التي ألقى فيها ساركوزي خطابين شهيرين. كما أن المدينة تعتبر معقلا لليمين المتطرف. يتضح أن استراتيجية هولاند هي القيام بمسح ميداني من خلال لقائه بالمواطنين وفتح الحوار معهم. لكن اليوم، الخميس، هو أم المواعيد في البرنامج الانتخابي للمرشح هولاند، حيث ضرب هذا الأخير موعدا للمناضلين ب«دار عمال لميتالو» لعرض برنامجه مدعما بالأرقام. وسيعرض البرنامج بكراس ستوزع منه 15 مليون نسخة. طموح الحزب الاشتراكي هو أن يستوعب الفرنسيون هذا البرنامج. كما أن هولاند سيرفع من إيقاع الحملة خلال فبراير القادم وذلك بإلقائه خطابين، الأول في موضوع التربية والتعليم والثاني في موضوع الصحة. لكن ليس المرشح الاشتراكي بمنأى عن هفوة أو عن انقلاب لمزاج الرأي العام الفرنسي. يعرف هولاند ذلك، الشيء الذي يمنعه من المبالغة في الحماس. في الوقت الذي ركز فيه المرشح الاشتراكي على ضرورة تخليق الحياة السياسية الفرنسية وذلك بمعاقبة المتنصلين من الضرائب، ارتكب خطأ في الكاستينغ بدعوته لاعب التنس الدولي سابقا يانيك نوحا، إلى إحياء حفل موسيقي بلقاء البورجيه. فالمغني ولاعب التنس، والذي يتربع على قائمة أفضل شخصية شعبية فرنسية، يجر خلفه فضيحة تنصله من الضرائب بقيمة 580000 أورو، قد تكون ضربة للمرشح للرئاسية. لكن يانيك نوحا، دافع عن نفسه مشيرا إلى أنه مواطن كبقية المواطنين ويمكنه الدفاع عن نفسه. هذا في الوقت الذي كان فيه الرئيس ساركوزي في رحلة إلى لغويان ( ماوراء البحار)، لتقديم التهاني بأعياد رأس السنة وللتقرب من مواطني هذه المناطق النائية التي ترزح تحت البؤس.