لعب العلماء عبر التاريخ، بعد نشر الإسلام بالمغرب الأقصى، دورا هاما في نشر العلم، وتأسيس دور المساجد والزوايا عبر التراب الوطني، وتزعم الحركات الجهادية ضد الاستعمار الأجنبي، وتكريس الجهد في الكتابة والتأليف في شتى مناحي المعرفة. كما كان للعلماء صيت عند الجماعة الوطنية، وسطوة على السلطة السياسية؛ حيث ينهل المجتمع من معين المعرفة والعلم بالمجان، ويستفيد من ثقافة الوقف التي كانت سائدة في المجتمع دون مقابل، كما يبرز الموقف الشرعي في المبادلات التجارية، وعقد البيعة للسلطان، والتدخل في العلاقات الدولية، عبر الإعراب عن الموقف الشرعي من المبادلات التجارية، وعقد الصلح بين السلطة وجزء من المجتمع المتشكل من القبائل والأعيان والشرفاء. ويسجل التاريخ أن العلماء في المغرب الأقصى تفوقوا على أترابهم في بلدان عربية وإسلامية أخرى، خاصة بالمشرق العربي، في علم الحديث والفقه والفلسفة والنحو والمنطق والتصوف، وأخذوا من المشرق فطوروا وأبدعوا وألفوا في شتى العلوم. وهكذا أصبحت تُشد إليهم الرحال من المشرق إلى المغرب؛ وذلك بالنظر إلى توسيع الرؤى المعرفية للكون وللعالم والإنسان. في مقابل ذلك، يسجل التاريخ الراهن للمغرب شبه غياب لدور العلماء في توجيه المجتمع، بل إن موقف عالم الدين غائب في كثير من النقاشات التي تمس منظومة القيم، والموقف من مجموع القضايا التي تشغل الرأي العام ولها علاقة بالهوية المطلقة. فما سر غياب المؤسسة الرسمية عن النقاش العمومي بالمغرب؟ لماذا لا يتدخل العلماء الرسميون في ترشيد المجتمع وتوجيه النقاش في سبيل توحيد الجماعة الوطنية عبر مشروع ديني إصلاحي واضح ومتفق عليه؟ ولماذا تراجعت الحركات الإسلامية في الدفاع عن منظومة القيم؟ ألم يطلق المجلس الوطني لحقوق الإنسان دعوة "ثورية" للمساواة في الإرث قبل سنتين تقريبا فهام المجتمع يبحث عن الرأي الفقهي في الموقف: هل هو بدعة أم اجتهاد؟ حق أم باطل؟ حرام أم حلال؟ مستحب أم واجب؟ ولماذا غاب موقف المؤسسة الرسمية والحركات الإسلامية في الموضوع؟ ولماذا كلما تحدث عالم دين في تاريخينا الراهن إلا وسب وقذف وكفر عوض أن يبسط الرأي الفقهي بعيدا عن معجم التكفير والتخوين؟ ما سر تقوقع العلماء الرسميين والموازيين على أنفسهم؟ ولماذا يغيب الرأي وينكمش النقاش؟ وهل غياب هؤلاء العلماء عن النقاش العمومي يضر بالشباب المتدين فيهرع إلى أخذ الرأي والحرب والمكيدة من دعاة التوحش والإرهاب؟ باختصار، ما سر فتور، إن لم نقل خفوت صوت "الموقعون عن رب العالمين"، الرسميين والموازيين، عن النقاش العمومي في المغرب؟ العلماء الرسميون والحاجة إلى الفقه الجامع الباحث المغربي الدكتور جواد الشقوري أكد أن المشكل لا يتعلق بإبداء الرأي في هذا الموقف أو ذاك، بل إن المشكل يتعلق ب"عدم انخراط المؤسسة الدينية في مناقشة الأسئلة التي تتحدى المنظومة الإسلامية ورؤيتها إلى العالم". وأضاف الشقوري في اتصال بهسبريس: "حتى وإن أفصحت المؤسسة الدينية الرسمية عن موقفها من الدعوة إلى المساواة في الإرث، فإنها ستجد نفسها أمام أسئلة أخرى لا تتوقف (...) ومن الأجدى أن يتم الاشتغال على الرؤية الكلية للإسلام، ومن خلالها سيكون من السهل التفاعل مع القضايا الجزئية وتبيان الموقف الشرعي منها". واعتبر أن المؤسسة الرسمية باتت في الحاجة إلى "بناء مقاربات تتسم بالصدقية لمختلف الأسئلة التي يفرضها العالم المعاصر والغربي بشكل خاص، فإن تناول مثل هذه المسائل سيكون يسيرا؛ لأنه سيكون متناغما مع تلك المقاربات". وهل تقوقع النخبة الدينية بالمغرب على نفسها، وعدم إعطاء العناية للخطاب الإسلامي المعولم يمكن أن يشكل تحديا لها؟ للجواب على هذا السؤال، يقر الباحث في الخطاب الإسلامي بأوروبا، المتخصص في أصول الفقه، بهذا العطب، ويقول: "إلى حد الآن، الجهد الأكبر للنخبة الدينية الرسمية يتوجه إلى الداخل الفقهي والإسلامي؛ حيث تحاول جهود المؤسسة العلمية بالمغرب أن تُؤصِّل لثوابت فقهية ودينية بمعزل عن التحديات التي تفرضها الحداثة الغربية على أصول وفروع تلك الثوابت". وماذا عن الثوابت الوطنية؟ يجيب الشقوري بالقول: "من الجيد أن تكون للمؤسسة الدينية ثوابت فقهية ودينية يلتف حولها المجتمع وتخلق نوعا من التمايز والتميز عن قراءات دينية أخرى، لكن الأهم هو مدى قدرتها على التفسير والإجابة على التحديات التي تفرضها المنظومات الأخرى التي تقدم نفسها باعتبارها رؤىً للعالم والكون وبديلا عن الوحي". وتبعا لما صرح به الشقوري، تبقى المؤسسة الدينية الرسمية بالمغرب مطالبة بالاستفادة من القراءات النقدية للحداثة الغربية، وبالانفتاح على أقلام غربية استطاعت أن تبين حقيقة القيم التي تبشر بها هذه الحداثة. فلا يمكن بناء خطاب إسلامي من خلال فقط تراثنا الفقهي والسياسي الذي كان نتاج سياق معين بملامح ومعالم مختلفة عن السياق الراهن، إنما لا بد من الاستعانة بنقاد الحضارة المعاصرة لبناء خطاب إسلامي جوهره الحفاظ على روح الإسلام، وبالتالي الانتصار للإنسان. ولهذا فلابد من تحديد خريطة الأسئلة التي تفرضها الحداثة الغربية ليس على الفكر الإسلامي وحسب، وإنما على الوحي قرآنا وسنة، كمسألة المساواة وحقوق المرأة بشكل عام. أما عبد الرحمن منظور الشعيري، باحث في العلوم السياسية، فيفسر عدم تفاعل المؤسسة الرسمية مع بعض الدعاوى التي قد تفهم من قبل المجتمع على أنها "صادمة"، من قبيل المساواة في الإرث واتفاقية سيداو، بأسبقية البت في الموضوع من خلال الكتاب الصادر عن المجلس العلمي الأعلى الموسوم ب" فتاوى الهيئة العلمية المكلفة بالإفتاء 2004-2012"، الذي ورد في صفحته 156: "لا مجال للرأي في طلب التسوية بين الرجل والمرأة في الإرث (...)؛ إذ لا اجتهاد مع وجود النص كما هو مقرر في القاعدة الأصولية الفقهية عند علماء الشريعة". ومن ثم، فصمت المجلس العلمي الأعلى ينسجم مع فتاواه السابقة ومع بيانه السابق بخصوص اتفاقية سيداو، الذي اعتبر فيه موافقة المغرب على هذه الاتفاقية لا يمكن أن يخالف أحكام الشريعة. كما أن صمت العلماء الرسميين، بحسب منظور الشعيري، "يتجلى في عدم إظهار البناء المؤسساتي للدولة في حالة صراع محافظ-حداثي، كما حصل سابقا بين المجلس العلمي الأعلى والمجلس الوطني لحقوق الإنسان بخصوص تمثيلية النخبة الدينية الرسمية في المجلس الوطني". ويخلص الشقوري، في اتصاله بهسبريس، إلى أن المؤسسات الدينية الرسمية "لها ضروراتها"، وهي التي تتحكم فيها، و"من المهم أن تقوم الجامعات والمؤسسات المغربية بتخصصاتها الإسلامية والشرعية بتحقيق تراكم معرفي على مستوى تبيان الرؤية الإسلامية لمجمل الأسئلة التي يفرضها النموذج الغربي على الإسلام، ومنها سؤال المساواة، وسؤال حقوق الإنسان، وسؤال المرأة (...)؛ لأن هذه هي المداخل التي من خلالها تتم الدعوة إلى مراجعة مجموعة من النصوص القرآنية والحديثية دون التمييز فيها بين القطعي والظني". العلماء الموازيون.. طغيان الإسلام الاحتجاجي ولماذا تراجعت الحركات الإسلامية عن الانخراط في النقاش العمومي؟ هل لغياب نخبة علمائية؟ أم إن العلماء الموازيين/ المنتسبين للحركات الإسلامية أصبحوا منقادين للموقف السياسي على حساب الموقف الشرعي؟ للجواب على السؤال، يعزو الدكتور عبد الرحمن منظور الشعيري صمت علماء الحركة الإسلامية إلى "وجود رهانات سياسية في مقاربة القضية"؛ فبالنسبة للعدل والإحسان والتوحيد والإصلاح، يشير الباحث في العلوم السياسية، "لا يتعلق الأمر بغياب وجود علماء في التنظيمين-فلهما هيئتان علميتان وعلماء من قبيل محمد عبادي، عبد العلي مسؤول، وعبد الصمد الرضى وآخرين بالعدل والإحسان، وأحمد الريسوني، وعز الدين توفيق وغيرهم في التوحيد والإصلاح، بل يعود إلى قناعة لدى العدل والإحسان بأن إثارة هذه القضايا تحريف للنقاش العمومي عن القضايا الكبرى للشعب، سواء في المجال السياسي أو الاقتصادي أو التعليمي، وبأن الانشغال بهذه القضايا سيحرف مسار معارضتها للنظام، الذي يتقن لعبة التوازنات، بحسبها، من خلال سماحه بإثارة هذه القضايا التي تكرس مركزيته في الاستقرار المجتمعي؛ أي ترسيخ الحاجة إلى الملك-الأب أمير المؤمنين". أما بالنسبة لعلماء التوحيد والإصلاح، فالأمر لا يعدو كونه صمتا "يعكس تحولا في المواقف. فبعد أن كانوا ينخرطون بقوة في الرد عليها وتعبئة حملات ضدها في السابق، أصبحوا يتجاهلونها بدعوى عدم التشويش على التجربة الحكومية التي يقودها حزب العدالة والتنمية" يقول منظور الشعيري. الإسلاميون المغاربة لما يتخلصوا بعد من أدبيات الإخوان أما الدكتور امحمد جبرون، باحث في التاريخ، فيرجع سبب تراجع الإسلاميين المغاربة عن النقاش العمومي المتصل بالقضايا الفقهية والشرعية إلى كون "الحركة الاسلامية التي تنشط حاليا بالمغرب هي حركة كلاسيكية في مشروعها، لم تتخلص من أدبيات الإخوان، ومن ثم يغلب عليها الهاجس السياسي". وأضاف جبرون: "لا يخفى أن هكذا هاجس يؤدي بالضرورة إلى نوع من المهادنة مع التراجعات القيمية، أو عدم استفادتها من الجهد الدعوي الكافي؛ فمعركة القيم بشكل عام لا يمكن أن تضطلع بها حركة دعوية سياسية، بل هي بحاجة إلى حركة مدنية، وهو ما لم يتوفر بعد في الواقع المغربي". ألا يعني تراجع دور الإسلاميين المعتدلين أن السلفيين سيستفيدون منه؟ في الإجابة على السؤال، يستبعد جبرون ذلك، ويعتبر أن الحركات السلفية في منظورها للقيم "لا تعالج المشكلة بمنطق التواؤم مع الحادثة، بل تعالجها من منظور صراعي، يعكس شكلا من أشكال الاستلاب التاريخي، ومن ثم فهي تغذي الانفصام، وتنتج في سياق ذلك المشاكل بدل الحلول؛ فالمغرب، شأنه شأن عدد من بلدان العالم العربي، بحاجة إلى حركة قيمية مدنية حديثة".