لماذا أيها الزمن تعمل على تفريق الأعزاء وتبعدهم عنا؟ وما المقصود من هذا وما الحكمة منه؟... أتمنى أن أجده مجددا وأرتمي بين أحضانه، أن أراه مرة أخرى وأقول له ألف شكر وتقدير وبليون تحية...لم أره منذ اثنين وعشرين سنة! مازال موشوما بذاكرتي ومازالت الكلمات التي منحها لنا بقاموسنا والأشعار التي ناولها لنا... بلساني، تجدني بين الفينة والأخرى أرددها عن ظهر قلب محفورة في ذاكرتي التي أصيبت بمرض النسيان... ذاكرتي التي حلفت برب السماوات والأرض بعدم نسيان ذاك الإنسان، وكل ما علمه لنا... ذاكرتي التي طرحت كل ما مر بحياتي، جميله وقبيحه بسلة مهملاتها ...إلا هو، الذي لم تستطع كسر جدار حضوره القوي لدي وتأثيره الأقوى علي.. سي أحمد، الملقب بالمكناسي، أستاذ اللغة العربية، الشاب طويل القامة، أسمر اللون، متساوي الأسنان، وكأن آلة قد عملت على تسويتها وتبيضها، أسود الشعر، دائم الابتسامة، منشرح الصدر...المفضل للونين البني والرمادي، المكسران بقميص أبيض، الذي كنا نراه دائما وأبدا، سواء بمقر عمله أو بالشارع، محملا بالكتب والقصص المتنوعة باللغتين معا الفرنسية والعربية... كانت القراءة تجري بعروقه مجرى الدم ولا يعرف الكلل أو الملل منها... كان أعز التلاميذ لديه من يتصفح جريدة أو مجلة أو كتابا ...علمنا حب الاطلاع والمثاقفة ونحن أبناء الثانية عشرة والرابعة عشرة، والإحساس بالآخر وتحمل المسؤولية، مسؤولية أنفسنا وبلدنا والتفكير العميق بدل السطحي... كان الأب والأخ والصديق الذي نحكي له كل مخاوفنا وآلامنا بكل حرية وبدون عقد نفسية ونشكو له كل من كان يريد الاعتداء على براءتنا أو يتربص بنا ...كان اليد الحنون التي تربت على كافة تلاميذ قسمه، وكان المربي والمهذب، أدلنا على مخاطر التخدير والتدخين، ومالنا وما علينا من حقوق وواجبات وكيف نحترم الآخر، وأجابنا عن الأسئلة الصعبة التي كانت تساور أدمغتنا الصغيرة...حفظنا أشعار نزار القباني وأمل دنقل ومعين بسيسو ومحمود درويش ...علمنا كيف نحب الشعر وكيف نميز بين الكتب القيمة وكيف نحافظ عليها، وعلمنا النهل من الكتاب والروائيين الكبار، وناوبنا على ثلاثية نجيب محفوظ وغيرها من رواياته، وعالم بلا خرائط وغيرها من القصص والروايات العديدة لكتاب كبار ونحن لازلنا في سن صغيرة، وعلمنا كيف نتذوق الموسيقى الرائعة والأغاني الجميلة...وكيف تكون لنا عين نقدية، كيف نتفرج على الأفلام، وكيف نميز بين أجودها ورديئها...وكيف نتجنب خدع الإشهار...ومزايا المسرح والسينما، كما كلفنا بالبحث فيهما وإلقاء عروض بخصوص الطفل والمرأة، وبالبحث عن رواد تحرير المرأة والعنف الذي يطالها... لقد علمنا فن الحياة والأخلاق النبيلة والتسامح... وكيف نصل إلى أي هدف مهما كانت المتاعب، وكيف تصبح الأحلام حقيقة...عن طريق العزيمة، وكيف تصبح العزيمة سلاحا في وجه الصخر الصلد وألاشي يستطيع أن يدفعنا إلى الوراء إن تعلمنا وشمرنا على سواعدنا وتحملنا المسؤولية... فقد كان شعاره لا صعوبة في تعلم أي لغة إن أحببناها وتمنطقنا بحزام العزم ... كان رائدا في التعليم والتهذيب والتربية والتثقيف...ما جعل الكل يحلم بالدراسة عنده... أرجع بذاكرتي للوراء فأتمنى لو درسني حتى بالثانوية والكلية... فقد كان نعم الرجل والأب ونعم رجال التعليم الذين يحتاجهم العالم العربي لتعليم ناجع وجيل صالح... أحبه الذكور قبل الإناث، أحبه الذين يدرسون عنده والذين لا يدرسون...وكان قسمه دائم الزوار من التلاميذ...فقد داع صيت أخلاقه وغيرته على بني مجتمعه واشتهر بغيرته على الأطفال والشباب عماد المستقبل...إلى درجة بات بعض أصدقائه في المهنة يغارون منه وينتقدونه لنا..! أتذكر لما حصلت على أول نقطة عنده وكيف نوه بمجهوداتي، والقصة والمعجم اللذين منحني إياهما... ولما نجحت في قسم السنة الثانية إعدادي مدى الحزن الذي خيم علي بدل الفرح بالنجاح.. كنت جد حزينة وكأنني كررت القسم !! ولم أكن أنا الوحيدة التي تخيم عليها هذه المسحة، بل كان كل زملائي بالقسم... كنا نعرف مسبقا، أننا سنفتقده بنجاحنا، لأنه لا يدرس السنة الثالثة إعدادي ... بعد العطلة الصيفية التي قضيناها في الاستجمام والقراءة التي أكد لنا عليها، جاء الدخول المدرسي، وكلي أمل بوقوع معجزة تغير هذه المعادلة الصعبة...وتجعله يدرس حتى مستوى السنة الثالثة بدل الانتظار إلى السنة الرابعة... لكن تجري الرياح بما لا تشتهيه السفن، لم يحصل هذا، فذهبنا إليه مهرولين، أنا وزملائي، باحثين عن حل لهذه المعضلة التي طلبنا منه حلها... فشجعنا على العمل والمثابرة بغية النجاح والتفوق بهذه السنة على أمل الدراسة عنده في السنة الرابعة...وذلك ما عملنا عليه، فكنا نتمنى أن تمر هذه السنة بأقصى سرعة...وبالفعل ذلك ما حصل، تفوقنا نحن، وكان تفوقنا مميزا مع باقي الزملاء الذين لم يحصل لهم شرف الدراسة عنده سابقا...وكنا نفتخر بأننا أبناؤه، وكانت أستاذة هذه السنة تعيب علينا تفكيرنا الأكبر منا سنا، فكنا نومئ إلى بعضنا البعض ونبتسم في مكر، ونفتخر بكوننا مختلفين عن باقي تلاميذ الفصل...هذا الاختلاف الذي سيميزنا عن تلاميذ المدينة كلها مستقبلا... مرت سنة كاملة وكأنها ثلاث سنوات أو أكثر، ورغم الزيارات المتكررة التي كنا نقوم بها لأستاذنا، كان أملنا في اللقاء به كبيرا ... حل موسم دخول السنة الرابعة، السنة الأخيرة بالإعدادي، فماذا جرى؟ كان ما لم يقع بحسباني...! للأسف، لم يكن اسمي ضمن اللائحة التي سيدرسها أستاذي؟!! الذي طالما حلمت بالدراسة عنده هذه السنة!! فما الحل إذن لهذه المصيبة التي سقطت فوق رأسي كالصاعقة؟ ما زاد من تأزم الأمور لدي، هو أن كل زملائي سيدرسون عنده هذه السنة إلا أنا ؟؟ لماذا، لماذا أنا؟...جلست أرضا وبدأت أبكي، نعم أبكي وبصوت مسموع، فاجتمع حولي أصدقائي، الذين هم الآخرون حزنوا لأنني لم أكن أملك وساطة لدى مدير الإعدادي، لانتقالي إلى القسم الذي يدرسنا به سي أحمد ويوجد به كل أصدقائي، اللهم أنا . آنذاك أغلقت أمامي كل الأبواب واحمرت عيني من كثرة البكاء، فهددت بانقطاعي عن المدرسة إن لم أدرس عنده... ولكن للأسف لم يكن لتوسلاتي وتهديداتي أي ردة فعل لدى المدير...فكنت أدخل لقسمي على مضض... وعيوني موجهة إلى قسم آخر، نحو أستاذي، الذي تحلق حوله كل أصدقائي مستعطفين انتقالي إليهم، لكن للأسف أخبرهم بأن القسم يعرف اكتظاظا والمدير يرفض زيادة أي واحد لهذا القسم. بكيت حظي التعس وبكيت بمرارة متسائلة لماذا أنا بالضبط؟..حاولت جاهدة التأقلم مع زملائي الجدد لكن لم أتقلم مع أستاذ اللغة العربية لهذه السنة، فقد كنت أحس بأن المسافة بين قدوتي وأستاذ هذه السنة كبيرة كبر مسافة السماء والأرض، فقد كان هذا الأخير عكس أستاذنا الغالي، يكتفي بالمقرر ويمر على الأشياء مرور اللئام، ولما ينتهي يجلس يتثاءب ويضع رأسه فوق المكتب إن غلبه النعاس...فعرفت آنذاك أن كل ما تلقنته من جد ومثابرة وبحث...من ذاك المربي الصالح، سأفقده على يدي هذا الأخير، الذي يوجد من أمثاله العديد...هؤلاء الذين يربون الجيل الصاعد على التعليم "الببغاوي"، الحفظ الغير ممنهج ثم "التقيؤ" في آخر المطاف... بكيت كثيرا وبقي حالي هكذا لمدة شهر بكامله، وأنا أصارع الحزن ومرارة الخيبة...وكل مرة تجدني متجهة نحو أستاذي شاكية...بعد أن نصحني باللجوء إليه كلما احتجت لشيء ما أو لم أفهم مسألة معينة... وفي أحد الأيام، وكان يوم الثلاثاء، أثناء الاستراحة، جاء إلي أصدقائي مهللين ومبشرين...حياة، حياة، افرحي، فقد جاء الفرج، انتقل أحد التلاميذ إلى مدينة أخرى مع عائلته...آنذاك أطلقت ساقي للريح تاركة محفظتي وإعداديتي، متجهة نحو منزلنا، لكي أحظر والي أمري بغية الانتقال إلى فصل رائدي، قبل أن يسبقني أحد غيري... فلم أجد أحدا بالمنزل! فصحت ملء فمي: ما هذا الحظ "العاثر" يا رب؟ فتوجهت بأقسى سرعة إلى الثانوية التي يدرس بها خالي حفظه الله، كان الجرس يرن بأعلى صوته معلنا صوت دخول التلاميذ إلى الأقسام...وقفت وأنا أشهق بصوت مسموع أمام القسم، فلم أرى خالي، لقد كان هناك أستاذ آخر بقسمه، آنذاك تجرأت وسألته، فأخبرني بأن خالي قد أنهى حصته وربما أجده بالإدارة أو يخرج من باب الأساتذة...استدرت بشكل انسيابي متجهة نحو الإدارة فرمقته، وسرعان ما قفزت دموعي الغزيرة من مقلة عيني...ما أدخل الرعب في صدر خالي فجاء نحوي مسرعا، خصوصا وأنني لم أقم بمثل هذه الزيارة قط. آنذاك حكيت له مشكلتي العويصة فضحك من أعماق قلبه وقال لي: ظننت أن أمرا كبيرا قد وقع! وعاتبني لما لم آتي عنده أول الأمر، ولما لم أتحدث معه في هذا الصدد؟ فسألني عن اسم الأستاذ الذي يدرسني وأريد الانتقال من عنده، وضحك عاليا ...آنذاك أخذني من يدي وتوجهنا نحو إدارة الإعدادي فدخلنا إلى المدير فعانقه هذا الأخير وبدءا يتحدثان عن الماضي والعائلة...!!! آنذاك عرفت أنني لم أقم بالخطوة التي كان علي أن أخطوها كما فعل معظم زملائي... فقد كان المدير، أحد أصدقائه القدامى. آنذاك بدأ المدير يحكي لخالي على أنني قمت بالاحتجاج بالانقطاع عن الدراسة إن لم أنتقل إلى الفصل الذي يدرس به المكناسي...فانهمكا في الضحك !! كما أخبره عن المجهودات الجبارة التي يقوم بها هذا الأستاذ ومدى الحب المتبادل بينه وبين تلامذته... وأخيرا تحقق حلمي ووصلت إلى ما أريد وانتقلت حيث يوجد صانع الأجيال، المربي الناجح، الأستاذ الذي يجب أن يكون مثله كل رجالات التعليم، وأن يكون قدوة يعتبر منها الباقون.. المربي الذي يعطي ويعطي وينهمك في العمل أكثر من ساعاته المطلوبة، الذي يعطي بدون حساب، الذي يعطي من أجل جيل صالح قارئ، مثقف، متسائل...والذي يعطي ما هو مقرر وما هو غير مقرر، الأستاذ الذي اعتبرته دائما وأبدا، واعتبره كل زملائي وكل من حصل له شرف الدراسة عنده أحسن وأفضل رجال التعليم ورائدهم... ورغم كبرنا واشتغالنا...نتمنى من أعماق قلوبنا أن يجد أبناؤنا أساتذة مثل هذا المربي الصالح والمهذب الكبير والمحبب للثقافة والقراءة، الذي إن وجد أمثاله بشكل ولو معدود على رؤوس الأصابع حتما لن يكون المستوى الثقافي والمعرفي بهذا الشكل الذي أصبح عليه الآن، متمزق ومتهرئ وشبه منعدم رغم انتشار وسائل الثقافة بشكل كبير وبسهولة أكثر مما كانت عليه...لأنه بكل بساطة لا يوجد الرجل المناسب في المكان المناسب، وفاقد الشيء لا يعطيه... أطال الله عمر منيري ومرشدي وكثر من أمثاله، ويا ليتنا نلتقي به يوما لنخبره بأننا قد وصلنا إلى العديد من الأجوبة التي طرحها علينا وعلمنا كيفية طرحها... وأن كل من درس عنده إلا وقد وصل...إلى مستقبل جد مشرف...فبليون تحية يا رائد صنع الأجيال. فيا زمن كن ولو مرة واحدة زمن الوصل فأصلنا برائدنا الذي يستحق أن يقال عنه: كاد المعلم أن يكون رسولا...أستاذنا الجليل بن غويلة أحمد.. فسلاما وبليون تحية...لكم ولأمثالكم... [email protected]