ما أكرمك يا جبل الأكرمين: وصلت الرسالة عبر هسبريس؛بكل ما أصبحت تعنيه لقراء الزمن الرقمي الجديد ؛وفية للغة التي تجعل منها حدائقَ تجمع بين الناس ؛وبين كتاب وقراء يضربون أكباد الابل ،ويركبون الطير الأبابيل، من أجل اللحاق بعالم يجري ولا مستقر له. عسانا نرتقي جميعا إلى لحظة المغرب الرقمي ،وشرطُُه الأساسي:التقاءُ جميع الإرادات ،اليومَ وليس غدا،من أجل ميلاد شمس أخرى،تُشرق من الغرب ،وتجري لمستقر لها ضمن الأمم الراقية. الأحلام مباحة ؛وهي معفية من الضرائب في بلد الضرائب. لم يَدُر بِخُلدي،أبدا، وأنا أستزيد طبقالَ أحلاما ؛في موضوعي المعنون ب: "سأظل أكتب حتى تتحقق أحلام يحملها طبقال على كتفه الأيمن" أن يجازيني الله ،عن أحلامي الوطنية، ولما يَرْتَدَّ الي طَرْفي: الجزاء المفاجأة ورد- تعليقا على الموضوع- من أستاذ تتلمذ علي منذ أزيد من ثلاثين سنة.فرقت بيننا الأزمنة والأمكنة الى أن جمعتنا هذه الرائعة هسبريس. اختار – بظرف بليغ- أن يكون الحلمُ السابعُ ،الذي انتظرته من طبقال، خالِصا له ؛إظهارا لأمر مهم جدا؛ قلما ينتبه إليه الأساتذة ؛وهم تحت ضغط " الآن" بكل ما يعنيه من تدبيرات شتى و مرهقة للفعل الديداكتيكي . انه" الغد "؛حينما تتهاوى السنون ،تِباعا، كجبل ثلج،في هُوة الزمن السرمدي ؛ويكبرُ تلاميذُ وتلميذات "الآن" ليصبحوا رجالا ونساء. كيف تتأسس العلاقة الإنسانية بين الأستاذ وتلاميذه لتصبح ،بدورها، درسا آخر- خارج الزمن المدرسي- يشتغل ،وهو يَعْبرُ الأزمنة والأمكنة. لعله الدرس الوحيد الذي لا ينساه التلميذ أبدا ،حينما ينسى جميع الدروس. تقول الرسالة للأستاذ؛بعد ثلاثين عاما من:(دون تصرف) "الحلم السابع لي أستاذي الفاضل : أن يأذن الله بلقاء قريب أعانق فيكم أستاذا عزيزا لا زالت حنايا ضلوعي تحمل له تقديرا خاصا، وذاكرتي حفرت له في مركزها مقاما صدرا. لن ينسى التلميذ الفقير يوم كان يتردد على بيت أستاذه، دون غيره من التلاميذ، بعد أن لمس تشحيعا خاصا على المطالعة والقراءة ؛ليعود محملا بأسفار يلتهمها مرتقبا وعدا غير مخلوف بالمزيد.. لا ولن ينسى عبارات الثناء والمديح التي كنتم تمطرونه بها عند موعد كل تصحيح، وأنتم تجعلون ورقته مسك الختام ، وتقيمونه إلى السبورة كي يسمعه ويراه الجميع.. يومها ألقيتم في روع الفتى محبة اللغة العربية، فقرر أن يصبح أستاذا لها غير ملتفت إلى وجهات أخرى كان يمكن أن تجعل دنياه اسهل ؛ لكنها حتما كانت ستفقده كنزا لم يكن مستعدا أبدا للتخلي عنه.. الفتى الذي أصبح اليوم أستاذا، وأبا كهلا ،يقبل يديكم ويدي كل من علمه حرفا ، وان يمد في عمركم ،ويدعو الله أن يبارك أبناءكم وأن يجمعنا بكم في الدنيا والآخرة.. هذا حلم تلميذكم سيدي الفاضل الذي أتمنى أن يلهمكم موضوعا لمقالة قريبة تجسد هذه المحبة العابرة للأجيال بين التلميذ والأستاذ..والسلام عليكم ورحمة الله ." محمد أبرعوز مكناس الأربعاء 07 نونبر 2012 لو لم تنشر هذه الرسالة ،مُعَرِّفَة بالمُرسل والمرسَل اليه،لتحدثت عنها بصيغة المجهول؛حتى أحتفظ باعتزازي لنفسي ،وأمضي- بكل تجرد وموضوعية- في رسم معالم العلاقة المثالية التي يجب أن يتأسس عليها العقد الديداكتيكي الذي يجمع بين طرفي العملية التربوية التكوينية. الأستاذية والمعرفة، سلطتان قاهرتان: لم ينتخبك التلاميذ لتدريسهم؛ولو كان هذا ممكنا لطالبت به. في الوسط القروي تزداد حدة هذا القهر لأن الأستاذ يختلف –حتى هنداما- عن هذا الوسط. وباعتبار تباين المستوى المادي للتلاميذ، يتفاوت وقع هذه السلط؛وصولا الى التلميذ الفقير جدا الذي يعيقه فقره عن نسج علاقات عادية حتى مع أقرانه ؛بله أساتذته. كبف تتواصل مع هذا المجتمع المصغر من موقع قاهر ؛وان لم ترد قهرا؟ والتواصل هنا من أصعب أشكال التواصل ؛لأن رسالتك تقتضي نقل المعرفة إلى أذهان تختلف طاقات التلقي عندها ،اختلافا كبيرا؛وتختلف ظروفها النفسية، الذاتية والموضوعية . لعل كلَّ ما درستَه في مركز التكوين لا يَحل المشكل؛إن لم يزد في تعقيده؛لأن دروس التربية العامة؛وحتى الخطاب الديداكتيكي المعتمد، لم ينطلقا من وضعية قسمك حتى يقدما لك الحل الأمثل ؛بل من وضعيات تربوية وتعلمية أغلبها يمتح من المستورد من بيئات أخرى:خذ بيداغوجية الإدماج مثالا. يبقى عليك أن تسائل مغربيتك ؛ومجتمعك الذي عشت فيه تلميذا في سن تلامذتك؛وأنت تنظر إلى هيبة الأستاذ، ونفسُك توسوس لك ألا قدرة لك على الاقتراب منه، والأخذ عنه . ويبقى عليك أن تسائل أسرتك التي نشأت فيها:لِمَ كنتَ تحب أمك وتتجرأ عليها ،وتتخذها واسطة بينك وبين أبيك القاسي.؟ عليك أن تخرج خارج أسوار المؤسسة وتخالط الوسط الذي قدم منه تلامذتك؛هؤلاء الذين تخرق المؤسسة نسيجهم الاجتماعي لتنتصب بينهم نشازا؛باعتبار نوع المعارف التي تشتغل عليها. ومن هنا فشل الكثير من مشاريع الإصلاح. لو كانت المعرفة المدرسية نابعة من الوسط ؛لتزرع فيه أسباب رقيه ،وفق حاجاته الحقيقية لتدافع حتى الكبار من أجل دروس ليلية تقدرهم على حسن تدبير معيشهم اليومي. لكن لبلبلة ولأشياء أخرى شاء النظام التربوي أن ينتصب عائقا للتنمية. انظروا الى صرعى المؤسسة التعليمية ،في البادية، يكادون لا يحسنون شيئا مما يعولهم به آباؤهم. ثغرات كبرى لم تجد من يفريها فريا ،ويريحنا من مطباتها الأزلية .لو ظهر هذا المصلح العارف لأقمنا له تمثالا في باب كل مؤسسة. إذن عليك أن تعيد تكوينك التربوي؛وفق وضعية مجتمع الفصل الذي بين يديك ؛تماما كالسائق الجديد لا يشرع في التعلم الحقيقي الا بعد أن يركب سيارته ؛ويترك معلم السياقة على قارعة الطريق. الصداقة عوض القمع: في مستهل الثمانينات،وبعد سنين من العمل في التعليم الابتدائي،وجدت نفسي،بثانوية تاهلة، في الوضعية الديداكتيكية التي ذكرت؛يضاف إليها عائق كبير جدا: شيوع ظاهرة ،كانت لها مبررات اقتصادية واجتماعية: الانقطاع المبكر عن الدراسة الإعدادية أو الثانوية ،والانخراط في أسلاك الجندية. تركت كل دروس المركز التربوي جانبا ؛وبحثت في مخزوني من قراءات متعددة لروائع الأدب العالمي ؛عن لحظات إنسانية رائعة أبدع عباقرة الأدباء في تحريك شخوصها ضمن نسيج اجتماعي حافل بكل التناقضات: كوخ العم توم ، ذهب مع الريح،مرتفعات واذرنج،الاخوة كارامازوف ،مجموعة جبران خليل جبران... يبدو لكم هذا غريبا ؛ونحن بصدد البحث في الديداكتيك. لا اطمئنوا فما لم تقفوا على حقائق النفس الإنسانية؛وما لم تقتربوا من الفقر والبؤس والألم ؛والسعادة والشقاء الإنسانيين ،فلن تفلحوا في التواصل ؛وما التعليم الا تواصل. ومع هذه الروائع ،ورواسبها كنا نتجول يمينا وشمالا في كل واد ومدشر حتى غدا الوسط مفهوما لنا تماما. يتحدث تلميذي عن فقره ؛وأضيف أنه كان منكمشا خجولا ؛ولم يكن الوحيد في هذا. يتحدث عن علاقة تربوية متميزة بيننا فتحت له أبواب خزانتي المتواضعة،وقتها.ويتحدث عن تحريض متواصل على المطالعة. وعن فروضه الإنشائية التي كنت أتخذها نموذجا أحمل التلاميذ على الارتقاء إلى مستواه. لم يتأت كل هذا لو كان الأستاذ غير منصهر في جماعة القسم ؛وغير مستوعب لكل الفروق بين أفرادها ؛لا يكبح جماح الذكي ،المتوثب ؛ولا يرتحل ،مودعا هريرة البطيء ؛كما يرد عند الشاعر: ودع هريرة ان الركب مرتحل فهل تطيق وداعا أيها الرجل. ان الحكمة النبوية التي تأمرنا بالسير بسير ضعفائنا ؛تستدعي ،في العمل الديداكتيكي، ألا نثبط من عزيمة طلائع الركب الأقوياء؛وأن نسير بسيرهم أيضا. كان التلاميذ خليطا من أبناء الفلاحين ،يعيشون بعيدا عن أسرهم ،وبالتالي عن رعايتهم وعطفهم ؛ومن أبناء جنودنا في الصحراء ،المنقطعين لحماية الثغور ؛وهم بهذا يضاعفون مسؤولية مربي أبنائهم ؛من ذوي الضمائر الحية. وبفعل نفس القناعات ونفس الرؤى ،على مستوى مجموعة من الأساتذة الجدد بالمؤسسة ،وقتها؛اشتغلنا فريقا منسجما ألينا على نفوسنا أن نُغير تلامذة الثانوية، من التربص بالجندية ،في أقرب منعطف،وبتحرض من الآباء أحيانا؛الى الحلم بشهادة البكالوريا وارتقاء في مدارج العلم. بعون الله حققنا الكثير ؛ويذكرني تلميذي بآخرين ارتقوا ضباطا كبارا؛ وأساتذة في مختلف الأسلاك ؛بما فيها الجامعية. الإدارة لا تحك جلد الأستاذ: على مدى سنين خدمتى التعليمية كلها؛لا أذكر أنني استعنت بأحد من رجال الإدارة في أمر يخص علاقتي بالتلاميذ. وكنت أقول بيني وبين نفسي ؛خصوصا حين أرى من ترابط عنده الحراسة العامة، في كل حين : حينما تفعلها أنت أيضا فستكون قد أعلنت موتك كأستاذ. لن تَتَحقق لك الهيبةُ الضرورية للانضباط ،لا بالشراسة ولا بخدمات الإدارة. وحدها علاقتك القائمة على محبة التلاميذ والتفاني في تعليمهم ،وكأنهم أبناء صلبك، قادرة على أن تحلك في نفوسهم محل الأخ الكبير المطاع. أما عامل الاقتدار المعرفي ؛وشعور التلاميذ بأنهم بين أيادي أمينة ،فإنهما حاسمان في تحقيق الاحترام المبني على الأهلية لتحقيق الإشباع المعرفي. . وحتى في حالات غضب الأستاذ ؛وربما حتى عزوفه المؤقت عن مواصلة الدرس- وكثيرا ما يحدث هذا "البلوكاج"- تتفهم جماعة القسم ،ويؤنب بعضهم بعضا ، وأنت تسمع. ويبقى السلوك الديمقراطي الذي يحرص على توزيع الجهد و المحبة ،بعدالة ،بين الجميع ؛كما ينحوا إلى الصرامة المقنعة ؛في ما يخص الاستحقاقات ،من نقط وغيرها ،من أمتن اللُّحم التي تُقَوي العلاقة بين الأستاذ وتلامذته. وقد جربت أن تخطئ الإدارة في حق الأستاذ؛ وتجد في وجهها سدا منيعا من التلاميذ يرجعها إلى الرشد؛رغم أنه ما خاطب أحدا منهم في الموضوع ولا حرضه. كانت أياما تعليمية من خيرة ما خلقني الله من أجله. فتنة الساعات الإضافية المنزلية: لو كان لي أن أشرع لألزمت كل أستاذ يقدم في منزله خدمات تعليمية مؤدى عنها ؛بتقديم نفس الحصص ،بالمجان،للتلاميذ الفقراء ؛داخل المؤسسة،وخارج الزمن المدرسي الرسمي. الفتنة الكبرى التي أصابت نظامنا التربوي هي فتنة الساعات الإضافية المنزلية لأنها: فككت وحدة القسم بالتمييز بين الفئات. زرعت الضغينة بين فئات التلاميذ؛ وبينهم وبين أستاذهم. شككت ،لدى التلاميذ والآباء، في موضوعية الأساتذة . وباعتبار اقتراح مواضيع ا لامتحانات من طرف كل الأساتذة ؛يبقى لكم أن تتصوروا مدى استثمار ضعاف النفوس،الباحثين عن الربح المادي ،لهذا المعطى ألتدبيري الذي يؤثر على مصداقية النتائج؛رغم كل الاحتياطات. ذكرت هذا لأنني في معرض الحديث عن بناء العلاقات التلاميذية. كيف تتصورون أن ينظر تلميذ فقير الى أستاذ يقدم خدماته الحقيقية ،والمخلصة، لمن يدفع؟ هل تتصورون أن مثل هذا التلميذ سيراسل أستاذه ،بعد ثلاثين عاما، ليذكر أفضاله عليه؟ شيخ الدروس: هو هذا الذي تقدمه الآن، ،بسلوكك،وعلو همتك ، وديمقراطيتك وتفانيك ،ليظل درسا مثمرا ؛وولودا لدروس أخرى تتلاحق. لا خير في أستاذ ينظر إليه تلميذه نظرته الى طبيب الأسنان ؛يصبر بين يديه مضطرا ،على مضض، وينساه بمجرد خروجه من العيادة.مع كامل التقدير لأطباء الأسنان. يثمر هذا الدرس على المدى القريب ،كما البعيد؛وهذا ما يفسر انشراح بعض التلاميذ ، وغضب البعض وهم يتحدثون عن حظهم من الأساتذة في مستهل السنة الدراسية. لكل أستاذ كتاب سلوكي يتعرف عليه التلاميذ حتى قبل فتحهم للكتب المدرسية. ولولا أحلام "طبقال" لما وصلنا الى هنا ؛الى الحلم السابع الذي أسعدني به تلميذ ذكي من زمن مضى. أيها الأساتذة احرصوا على أن تصلكم رسائل من تلامذتكم ؛فهي خير جزاء على ما أسلفتم في الأيام الخالية. [email protected]