الكتابة غارة على النسيان، والقراءة متواطئة معها: في حفل تكريم نقابي لمتقاعدي هيئة التفتيش،جرى منذ شهور,بمركز وجدة للبحوث الإنسانية والاجتماعية، احتج علي أحد الزملاء الأعزاء ,احتجاجا ظريفا,ناكرا حضوري,ضمن المكرمين ؛باعتباري لا يمكن أن أحسب من التقاعدين؛ومعدل حصيلتي مقالان في الأسبوع. لقد صدق ،لأن معدل تقريرين مهنيين في الأسبوع ,هو الذي يجري به العمل من طرف أنشط المفتشين.وهي تقارير لا قارئ لها غير الأساتذة المعنيين بها؛وربما بعض الإداريين أيضا. وحينما تناول الكلمة الأستاذ الجليل مصطفى بنحمزة,عالم وجدة, وجه دعوة ملحة للمكرمين لينكبوا على الكتابة ؛حتى يحاربوا التقاعد بالتفاعل والتواصل؛ويوفروا مادة معرفية يستثمرها غيرهم. وفي لحظة لقاء مع الرجل,سبقت المداخلة, عبرت عن اعتزازي بأن يكون من قرائي.؛اذ حتى البحر يتوق لما يوجد في النهر. كم تنسج الكتابة والقراءة من علاقات انسانية تعبر الأزمنة والأمكنة ؛ما كان لها أن تتعالق لولا كلمات ليست كالكلمات. وكم أسعد أحيانا بقدر الموت؛ حينما أتصور نفسي ألتقي بالمتنبي والمعري والجاحظ ,وكل السلالة القلمية. سيظل رحم الكتابة ولودا؛لأن كل كتابة غارة على آفة النسيان المتمنعة؛وكل قراءة متواطئة معها؛لأنها –على حد عبارة الشاعر- من غزية ,تغزو معها ان غزت وترشد ان رشدت. ورغم هذا ,ومن أحابيل النسيان يلح علي ,أحيانا, سؤال التوقف: الى متى ستظل تكتب؟ان لعينيك عليك حقا؛ولأسرتك؛وحتى للأرض وا لشمس والقمر والنجوم ؛ذلكم الكتاب الكوني الذي تتوالى الأجيال على قراءته ،الى ما لانهاية؛لأن مبدعه لا نهاية لا بداعه ومداده . وما أكاد أستسلم لغواية النسيان,وهي على وزن شيطان, حتى يتراءى أمامي طبقال ,ذا الهضبات,حاملا ,على كتفه الأيمن ,كل أحلامه. لن أتوقف حتى تتحقق هذه الأحلام: الحلم الأول: أن أرى ,حيثما تجولت في الوطن,مؤسسات تعليمية تشترك الدولة ,مع الأسر,في الغيرة عليها؛كما يغار كلُّ واحد منا على أسرته ,ويحرص على أن يكون سكنُها لائقا ؛مبنى ومعنى. مادامت المؤسسة التربوية تظهر في الحي –واِن راقيا- وكأنها محطاتُ نقل قذرة ,مُشْرعة الأبواب ؛مُتخمة لغطا بكل قواميس البذاءة المعروفة. مادامت جموع التلاميذ لا تقف ,صباحا, بهندام موحد,مُعبرة عن حبِّ الوطن، وهي تحيي رايته ؛ثم تُقبل على معارف منتقاة بعناية ,ووفق أهداف,تخدم التنمية الحقيقية والمتكاملة للبلاد؛وتبني وجدان الفرد بناء حقيقيا؛يؤهله للفعل أكثر من الانفعال. وما دام أغلب المنتوج المعرفي ,بمؤسساتنا, فارغا صَدِئا، كهيكل سيارة بمطرح للنفايات؛لا يزرع زرعا ،ولا يُجري ماء ,ولا يُحرك محركا،ولا يحاور حاسوبا. وما دامت أغلبُ دروس التاريخ لاتتجاوز سِيَرَ الملوك,الأدعية ,السكة ,والقادة الكبار,إلى القوة الشعبية التي بنت وحمت وخلدت الذكر؛وأورثتنا وطنا كاملا ؛كثيرا ما ننسبه- ظلما- للأسر الحاكمة فقط؛كما تنسب الأهرام الى غير سواعد العبيد والفقراء واسري حروب الفرعون. وما دامت دروس الجغرافية تقدم تضاريس بدون روح ؛وخريطة بكماء تشبه كل الخرائط . دروس تقدم على عجل وتنسى على عجل. وما دامت دروس الموسيقى والأغاني والرقص انتقائية وخجولة ؛ولا تمارس حريتها الا خارج أسوار التربية ؛بكل اللغات ،وبكل التعبيرات الجسدية التي أبدعها المغاربة ,قديما وحديثا, باعتبارنا شعبا راقصا. ومادامت محاربة الفاحشة,وأمراضها, لا تتم بمؤسساتنا الا كلاما ,لماما؛عزوفا عن تربية جنسية صريحة ,وطبية؛من شأنها الحد من مثيلتها المتوحشة- خارج الأسوار- التي تتمطى ،وتنوء بكلكلها على مراهقاتنا و مراهقينا. وما دامت دواليب الوزارة ,ومصالحها الجهوية والاقليمية ,كثيرا ما تترفع عن ولوج مؤسسات متهالكة؛وفصول إسطبلية؛مكتفية بتقارير تزين الواجهة؛وبقسم الوزير على أنها أفضل مما لدى أوباما . سأظل أكتب وأتهم. الحلم الثاني: أن أرى وطنا يحمل كتابه بيمينه؛يسير بتؤدة ،لكن بثقة تامة في غده؛وطنا محبا لبنيه ومحبوبا. مادمنا لم نبن بعد مشروعا مجتمعيا ,وحضاريا,يجلس من أجله كل الفرقاء على طاولة واحدة ليجيبوا ,بكل صراحة عن سؤال :أي مغرب نريد؟ولأي مغاربة؟ ما دمنا نهرب من هذا السؤال المركزي ؛وقد رأينا كيف بادر "ليوطي" الى طرحه ، وهو الغازي المحتل,وقدم الإجابة واشتغل عليها ,ومن أعقبه,بكل جدية كولونيالية. وما دمنا نبني الدساتير؛ونتنادى لها مصوتين ؛وفي نيتنا أن ننتهي منها بالانتهاء من حفظها وتحفيظها . وما دمنا أقمنا في كل منعطف تمثالا لدستور ؛ينظر كشرطي مرور لا يمتثل له أحد. مادمنا أسرى أسئلة الهوية ؛وكأننا لم نكن هنا منذ قرون,وكأننا ما انصهرنا ؛قبل هذه المصطلحات المقتحمة لمرابدنا . مادمنا نتصرف,في وطن لنا, وكأننا ,فقط, ركاب قطار عابر ؛ندردش,نضحك ,نتدافع,نزولا، ثم نتفرق شَذَرَ مَذَرْ. مادمنا تشرذمنا أحزابا ؛لكنها كمواسم البادية؛محددة المكان والزمان ؛سرعان ما تنتهي لتسيل بأعناق ألمطي الأباطح ؛ويعود الشامي الى شامه والبغدادي الى بغداده؛في انتظار موسم آخر. مادمنا لا نَسْتَلُّ مواطنتنا الشرسة ؛ونحن نقف على خروقات أعوان الدولة ,صغارا وكبارا, وكأنهم ولدوا ما سكين للرقاب ,وكأن أسماءهم مطرزة في راية الوطن. سأظل أكتب وأتهم. الحلم الثالث: أحلم بعدالة قضائية لا تعبس حين يأتيها الأعمى ؛وتنشرح حين يأتيها المُبصرُ مُعَزَّزا بالمبصرين له. فما دامت حروف الارتشاء تذكر ضمن أبجدية القضاء؛نهارا جهارا. وما دامت في المحاكم أكتاف يعرف المتقاضون من أين تؤكل. وما دامت الأحكام تحتاج إلى أحكام أخرى لتنفيذها. وما دامت الجلسات تُرفع، لأن كتاب ضبط متذمرين اقتحموها. وما دام الجهاز الأساس في الملك والدولة يُشل لأنَّ وزيرا ما لم يُتقن عمله التدبيري لموظفيه. ومادامت أجهزة الأمن كثيرا ما تغضب وهي ترى مجرمين قدمتهم للعدالة طُُلقاءَ. وما دام إصلاح القضاء غدا كالبترول ؛قد يظهر في بلادنا وقد لا يظهر. وما دامت أسابيع الفرس تجري في البرلمان ؛ويرى الناس تشابكا ,يكاد يكون بالأيدي,بين وزير العدل وسائليه. وما دام القضاة والمتقاضون لا يتوضئون، وهم يلجون مجالس الحكم ,وضوءهم للمساجد. سأظل أكتب وأتهم. الحلم الرابع: أحلم بغابة تستعيد عذريتها ؛ولو استعانت بالخبرة الصينية في إنبات الشعر ولملمة الانفضاض. مادامت المندوبية السامية للمياه والغابات ومحاربة التصحر لم تصرخ بحرف ندبة ؛نادبة ما يجري للغابة. وما دامت زرقاء اليمامة ترى أشجارا تُقطع وتُحرق ,حيث قطعت, ولا أحد يصدقها. وما دام بعض مهندسيها ,ورجالها,لا يخجلون وهم يتواطئون على غرس الشجرة تلو الشجرة ,في نفس الحفرة ؛من شدة الغش البيئي.(غابة الزكارة نموذجا). ومادام الملك الغابوي ,العمومي,لا حرمة له ؛ولا حماة له الا متظاهرين ومبتزين. ومادامت الغابة لم تستعد فرسان الأمس ؛وسيوف القانون ؛وحيوانات تركت لتنقرض كيفما تشاء. سأظل أكتب وأتهم. الحلم الخامس: أنْ ينوي المواطن السفر ،وهولا يستحضر ,مرعوبا,أغنية سمية عبد العزيز: غدا حين تسأل عني وتدري بأني ذهبت لكي لا أعود فمادامت طرقاتنا تجهض ,أسبوعيا, المئات من مشاريع السعادة والحياة. و مادام طابور يتامى العجلات يطول ويطول. وما دامت حافلاتنا مهترئة ,وتُقاد بفروسية ورعونة؛ وليس برخص سياقة مستحقة؛وبشهادات حسن تحمل المسؤولية. وما دامت مقاتلات البنزين ،والرمال، تعربد في المناطق المعروفة ؛عابثة بكل مدونات الدولة. ومادام للدولة نصيب مالي ،حتى في فحص المواطن السائق لعينيه كل سنتين (150د للطبيب و100د للدولة)وهي ضريبة للعين لا وجود لها إلا في المغرب. ومادامت الدولة تقرر استبدال رخص السياقة الدائمة ؛لكن من جيوب المواطن. سأظل أكتب وأتهم الحلم السادس: أحلم بِمارِسْتانات بغداد القديمة؛ التي تحدثت عنها المستشرقة الألمانية "زغريد هونكه."؛ولا عجب فحتى هذه سلفية . مادام قَسمُ أبقراط قد تحول إلى قسم بمواقع الذهب ؛وألا مريض الا ونُهب . ومادام الأطباء لم يعد لهم وقت لمراجعة علمهم المتجدد كل يوم. وما دامت وطأة المرض لا تضاهيها غير وطأة التطبيب. وما دامت المستعجلات اسما على مسمى؛ لأنها أسواق منعقدة على الدوام؛ تستعجل حتى الموت والطرد . وما دمنا نستورد دائما نتائج بحث الغير ,كيفما كان؛دون البحث عن خصوصيات أمراضنا . وما دمنا لا نلج العيادة ,ونحن مطمئنون ,أن القوم يركزون على مرضنا وليس على مالنا. وما دامت هناك عيادات تجري عمليات وهمية على أجساد في آخر مراحل المرض، التي يعقبها الشفاء التام بالموت. سأظل أكتب وأتهم. وبكى طبقال: حينما نظرت اليه ؛أستزيده الحلم السابع ثم الثامن؛بدا لي شلال يَسُحُّ الماء من عل ؛وداخلني شعور رهيب بأن هذا المغربي الصلب و الشامخ ؛منذ الأزل لم يستطع حبس دموعه.مغربي لم تفهم عنه الجغرافية المدرسية شيئا ؛كما أسلفت. يبكي لبكاء كل جاهل استكثر الوطن تعليمه. يبكي لبكاء كل مخلص في حب وطنه ؛يتألم حين يراه يمضي قدما؛ لكن دون مشروع حضاري متكامل. يبكي لكل مظلوم، لو نطقت جدران المحاكم لأنصفته ؛لكن لا أسماع لمن ناداهم ؛لأنه لا يمتلك مكبرات أصوات. يبكي لكل شجرة قطعت به,ولكل حيوان انقرض في حِماه؛وهو لا يقوى على حمايته. يبكي لكل الحافلات المتردية التي لم يستطع الإمساك بِحُجَزها. يبكي كل مريض لا يدلي الا بمرضه ,ترحمه الجدران لونطقت ولا ترحمه"ملائكة الرحمة". طبقال يبكي لأنه يرى ويسمع ؛لكن لا أيادي له. أيتها الحكومة التي تذكرت فجأة أحجارا أهملتها زمنا ؛رغم ما بها من نصوص مغربية أزلية ؛بكل أحلامها. ابحثي في كل الجبال :وكل الصخور,عن أحلام الأجيال التي لم تتحقق؛وها قد آل اليك الأمر لتحققي ما قد يصير في المستقبل أحلاما لم تتحقق. يوم لا تستطيعين فعل شيء لأن التراب سيكون قد ملأ أفواه أعضائك ؛على غرارنا جميعا. سأظل أكتب فعسى أن تهب حكومة في المستقبل لتصعد قمم طبقال ،تستزيده احلاما. [email protected] Ramdane3.ahlablog.com