تقديم: لن أقدم درسا أكاديميا في المواطنة ؛معرفا،ومعددا لحقوق المواطن وواجباته؛بل سأحاول تتبع أثر المواطنة في سلوك المواطنين ؛من خلال أمثلة من واقعنا المغربي ،الذي يشبه لوحة تشكيلية يساهم الجميع في رسمها ،الممتد في الزمن؛دون نهاية. رسم يخلط بين الاحترافية الفنية الكاملة ،التي يصدر عنها البعض؛ و الجهل التام بها ،المقترن بعمى الألوان لدى البعض.وبينهما من يأخذ من هنا ومن هنا. خطأ شائع ؛ بأي معنى؟ تساءل خطيب الجمعة ،بظرف وسخرية،في مسجد بقرية جبلية أسرفت على نفسها – انحرافا-في السهل، كما في الوادي والجبل: عجبا ها أنتم ،والحمد لله ، كلكم هنا في المسجد- شبابا وشيبا،رجالا ونساء- فمن أين الفساد المستشري في القرية؟ ابتسم وأضاف بالأمازيغية : "اَِنَغْ ازِّي يْشَعْبَاوَنْ ذَ ثْشَعْبَاوِينْ؟" :لعله من ذكور الثعالب وإناثها. المفروض- حسب قناعة الفقيه – أن يَجُبَّ المسجدُ ،بمن فيه،فسادَ القرية ؛ لا أن يدخل هذا الفساد إلى المسجد ،ويخرج سالما غانما. هكذا الوطن ؛يعيش فيه المواطنون ؛ويكادون لا يستنشقون سوى أكسجين المواطنة ؛يضخه التمدرس ،البرامج الإعلامية الوطنية،الإنتاج الفني،نشرات الأخبار ؛وكل القيم العابرة على بساط التاريخ،والأعياد الوطنية المخلدة لمحطاته الكبرى. يضاف إلى كل هذا اشتغال الثنائيات المحددة والمفصلة للمواطنة: الحق والواجب/الثواب والعقاب/المسموح والممنوع/التضحية والأنانية/الفردانية والجماعية/العام والخاص.... رغم قوة هذه الترسانة المُواطِنية،وشدة رباطها ؛لم تَرْقَ- بعد-المواطنة عندنا لتصبح قناعة مشاعة، فاعلة في السلوك اليومي للجميع؛بكيفية عفوية لا تكلف فيها :نقوم بالواجب لأن الزاميته في كونه واجبا ، وكفى. تشترك في هذا القصور جميع الشرائح الاجتماعية ؛مع تباينات طبعا راجعة إلى مستوى التكوين والتمثلات بالنسبة لكل شريحة. حتى الذي يعي هذا القصور مكره ليقصر هو أيضا ؛ولو عَنىَ الشاعر المعري وضعنا لقال: ولما رأيت النقص في الناس فاشيا تناقصت حتى قيل إني ناقص وعليه فتمثلنا للمواطنة يظل تمثلا خاطئا وشائعا؛ومن كثرة فشوه يبدوا كما لو أنه التمثل الصحيح. طبعا تظل الاستثناءات واردة. دروس نموذجية في قصور المواطنة: في هرم مسؤوليات الدولة تبدو الوزارة مكان صدارة ؛يفترض ألا يرقى اليه الا من نضجت مواطنته ،ولم تسلم فقط من كل شائبة أو مظنة ،بل أبانت عن سبق حميد وتجربة تضحية، أو استعداد لها؛دون الحديث عن الالتزام الصارم بدستور الدولة وقوانينها؛لأنه ألفاء المواطنة. وكل هذا العنفوان المُواطِني ،المنتظر من الوزير، لا يعني كثيرا إذا لم يكن معززا بالمؤهلات الكافية في مجال تخصص الوزارة؛ وهذه قضية أخرى. ومادام هذا هكذا فمن أين كل هذه الدروس "النموذجية"؛وهي غيض من فيض؟: *تبادل رئيس حكومة سابق ،ووزير ماليته،اتهامات خطيرة ،وصلت إلى حد التهديد بالكشف عن ملفات توثق قضايا فساد ؛لا شك أنها ضخمة باعتبار مكانة صاحبيها. *شبهة تورط وزير في قضية شركة النجاة ؛التي بددت أموال وأحلام الآلاف من المواطنين الشباب الفقراء. شبهة استفادة وزير للمالية والخزن- شهريا- من أموال عمومية لا حق لهما فيها.الشبهة-ولعل القضاء جار للبث فيها -أصبحت شأنا وطنيا أثير ببرلمان الأمة. *تصريح وزير،في الحكومة الحالية، بوجود ريع كبير- رخص النقل والمقالع والمصائد- بين يدي مواطنين دون استحقاق مشروع،أحيانا؛ثم إحجامه،فيما بعد، عن اتخاذ أي إجراء قضائي يلزمه به منصبه.ثم سكت عن الأمر كلية ،ولم يعد يذكره.كأنه نسيه أو حمل على نسيانه. *تصريح رئيس الحكومة الحالي بإحجامه- وهو بكل اختصاصاته وفي تمام وعيه وأهليته- عن محاربة الفساد ؛رغم كونه مدار العقد الذي يجمعه بناخبيه؛وبالأمة من خلال تصويت البرلمان على التصريح الحكومي. *وجود وزير سابق خلف القضبان بتهم خيانة الأمانة التي حَمَّلها اياه ملكُ البلاد؛ وحملها عن طواعية. لقد ذكرت هذه الأمثلة كدليل على أن حتى شريحة الوزراء-وهم رجال دولة- لا تسلم من قصور المواطنة ،يصيب بعض أفرادها ؛إما انقلابا على مواطنة كاملة تحلوا بها قبل الوزارة؛وهنا لا لوم على من قلدهم الأمانة ؛وإما بدا عليهم القصور ،عيانا، حتى قبل الاستوزار. ليس فضولا ،أو ترفا،أن يسأل المواطن عن سبب وأد اتهامات بالفساد،بثقل الجبال؛ بل واجبا تفرضه المواطنة الكاملة ،التي تستدخل شرط النضال .أي لا تكون مواطنة كاملة حتى تكون مناضلة. إن المواطنة ليست كأسا تشرب فيدب دبيبها،أو درسا يحفظ ،بل مسارا طويلا من النضال اليومي حتى ضد النفس. و اذا لم يكن المواطن ملحاحا في سؤال المواطنة؛ فما الفائدة من كل الخطابات المدرسية والأكاديمية ،ومن اشتغال كل الثنائيات المذكورة؟ وأي فائدة في أن نتوقف عند قصور المواطنة في باقي رتب الدولة ؛ما دمنا لا نلزم كل وزير متهم أن يبرئ ذمته أولا أمام القضاء. حينما يصدر الخطأ عن الأستاذ لا داعي لمحاسبة تلامذته. حينما يتم تبادل التهم بين وزير للمالية ورئيسه ؛ولاتتعامل الدولة مع المسألة؛ كما لو كانت إعصارا أو زلزالا ؛فإننا نرفع الحرج ، والخوف عن كل المسؤولين . كثيرا ما نسمع عن استقالة وزراء ،في الدول العريقة في الديمقراطية، ليتمكنوا من دفع التهم عن أنفسهم قضائيا. يحصل منهم هذا لتقديرهم لمستوى مسؤوليتهم في هرم الدولة؛وكراهيتهم أن يكونوا سببا في خدش صورتها، والنيل من هيبتها. التضحية بما هو شخصي حِفظا لما هو عمومي. وحينما يصرح رئيس الحكومة ،في قناة عربية وعالمية،بألا حرج على المفسدين في المغرب،وعفا الله عما سلف،ومن عاد يعذبه الله؛ و لا يصله خبر إقالته من منصبه- معززا بمتابعته قضائيا- وهو لم يبرح بعد مكان الاستجواب، فلا شك أننا أمام حالة سياسية وقانونية تستعصي على الفهم. حالة تقع دون الصرح الذي نبنيه للمواطنة؛أسوة بباقي شعوب المعمور،التي اختارت أن تعيش معا في قطعة أرض واحدة. يرتب القانون عقوبات عن عدم التبليغ عن الجرائم والجنح ، وعدم تقديم المساعدة لمن هو في حاجة إليها،وشراء المسروق، وغيرها من الحالات المشابهة- قانونا- لعدم التبليغ عن الفاسد ، ونحن نعرفه؛بل ولعدم معاقبته والسلطة بيدنا؛و أخيرا لاختيار تشجيعه بدل السكوت والاقتصار على التغيير القلبي للمنكر. يمكن الإدلاء بمخالطة اكراهات السياسة لتدبير هذا الوزير أو ذاك ؛لكن هذا الدفع سيظل مفتوحا على الدوام ؛ويمكن لكل من قصرت مواطنته، وخفت موازينه ،من المسؤولين،أن يدلي به ليبرر إقدامه أو إحجامه. وهل يقبل القانون من الممتنع عن التبليغ عن جريمة أن يتحجج بالمودة التي تجمعه بالمجرم؛أو توقع النفع منه؟ وهل يقبل من المتصرف في أموال ومنقولات مسروقة؛حجة كونه بحاجة إليها.؟ مهما كانت التبريرات السياسية فان القصور في المواطنة يبزها جميعا.يقف شاهدا على أن المواطنة الكاملة ،التي تستدخل شرط النضال،كما سلف، هي الأساس الصلد لبناء الدولة الديمقراطية؛ بعد أساس الهوية الذي يستدخل الدين ،عندنا، وكل المنظومة القيمية . وكما أن اللوحة التي ترسمها أيادي متعددة، دون حد أدنى من التجانس الفني ، لا تسمى فنا؛ فكذلك المواطنة القاصرة ،والقابلة للتصرف-كل على هواه- لا تبني دولة مستجيبة للهوية ،وشرط الديموفراطية العالمي؛بل تقيم تجمعا بشريا يمكن ضبطه بالترهيب والترغيب؛لكن لا يمكن الثقة في إمكانية أن يحكم نفسه بنفسه. ستظل ،والحالة هذه، دولة قاصرة ؛بمؤسسات صورية ، ومواطنين يظهرون المواطنة لكن يتصرفون على هواهم. تماما كفساد السهل والجبل الذي حير الفقيه الأمازيغي. الصواب المهجور: سألجأ هذه المرة إلى مثال واقعي للمواطن حينما يؤمن بالمواطنة ، ويتمسك بمقتضياتها التفصيلية في حياته اليومية؛لكن يوجد من موظفي الدولة – صغرواأم كبروا- من يدفعه- لمصلحة خاصة- دفعا إلى هجر الصواب والسباحة في بحر الخطأ الشائع مع السابحين. يتعلق الأمر بممرض تعرفت عليه منذ سنين عديدة في قسم العلاج الكيميائي بمعهد الأنكولوجيا بالرباط. عرفته في ظروف قاسية جدا:كنت أواظب ،فيها،على مرافقة مريضة من العائلة ؛هي اليوم في عداد الأموات. يتوافد المرضى وذووهم على القسم في الصباح الباكر؛وينتظمون في صفوف صارمة التنظيم لأن المرض اللعين علمهم أن يشفقوا على بعضهم البعض. يظل الوضع هكذا إلى أن يظهر الممرض ؛حاجب الطبيب المعالج؛وهو بقساوة قل نظيرها اعتبارا للمرض ولتخصص القسم. بظهوره تدب الفوضى ،وتتكسر الصفوف فيتقدم المتأخر، وهو يبش في وجهه، ويتأخر المتقدم حزينا ساخطا. تكرر منه هذا حتى لم يبق في عصب إلا استثاره فقررت أن أفضحه عساه يرعوي. فعلا في اللحظة المنتظرة-ذات صباح- وقد هم بالصفوف ليبعثرها – استدرارا خبيثا للرشوة- صرخت في وجهه ؛وأقمت عليه شهودا من المرضى ،بأنه المخرب الكبير للنظام ،بل لمقتضى من مقتضيات المواطنة الكاملة ؛وهممت مع شهودي بالنزول الى الطابق السفلي حيث الطبيب الرئيسي:البروفيسور الكداري. لا زلت أذكر أن من بين الشهود كان يوجد شرطي مريض جدا ؛هو اليوم أيضا في عداد الأموات. ولا زلت أذكر أيضا أن صحراوية مريضة كانت تستقبل في القسم استقبال الأميرات؛وكأن مرضها أمير ومرض الباقي حقير. هذا من سنوات الرصاص ايضا ؛وشكرا خاصا هنا أرفعه- دون مجاملة- للأميرة للا سلمى على استبدال حال بحال؛والذين ابتلاهم الله بالمرض اللعين ، وترددوا على الرباط في مستهل التسعينيات ،يعرفون عن ماذا أتحدث. ذُلَّ الرجلُ ،بل أصابه خوار ،خصوصا لما تعالت الأصوات وسرت حالة استثنائية لم يكن يتوقعها ؛فلم أشعر الا وهو يجذبني جانبا، ويقسم أغلظ الأيمان ألا يكررها وأن كل الأبواب مفتوحة أمامي. أجبت بأن الأمر لم يعد يتعلق بي شخصيا بل بهذه الحالة الهستيرية الجماعية التي تسبب فيها. بذل الطبيب المعالج ما في وسعه لتهدئة الوضع ؛وقد كان رجلا بشوشا ومتخلقا ونزيها فعادت الأمور الى نصابها ولم تتكرر أبدا أمام عيني. في هذا المثال ،وهو واقعي أصدر المواطنون عن وطنية مسؤولة ،ونظموا صفوفهم احتراما ،لبعضهم البعض، وللمرفق العمومي وقوانينه؛ لكن هناك من وجد أن هذه الدرجة من المواطنة لا تخدم مصالحه ،فدأب – يوما بعد يوم- على حمل الناس على هجرها : هجرة الصواب إلى الخطأ الشائع. يتناسل هذا المثال في العديد من المرافق الإدارية التي يقصدها المواطنون يوميا ؛لكن الأدهى أن نجد قرارات حكومية تسير في نفس الاتجاه ؛وان بدون قصد: اتجاه حمل الناس على هجر الممارسة الصحيحة للمواطنة الى نقيضها: عدا رئيس الحكومة لم يكن احد يقول بأن الزيادة في المحروقات ،دون الخضوع لالتزام سابق بسعر السوق،لن تلهب الأسعار ؛ وهي اليوم لا قرار لها لأن " أبي فوق الشجرة" كما يقول الشريط العربي. لولا الجور في الضرائب ؛ولا سيما بالنسبة للموظفين- بل حتى المتقاعدين- لما تفنن القطاع الخاص في اساليب التملص الضريبي. لولا تفعيل قانون متوحش لاقتطاع الضرائب من الحسابات البنكية؛دون شيك من المعني بالأمر لما سارع الكثيرون الى سحب أرصدتهم من الأبناك.(قيل لي بأن هذا الخطأ تم تداركه) لولا الجور في مبالغ الذعائر ،التي تفرضها مدونة السير الجديدة ، لما تضامن السائقون لمواجهة مقتضيات المواطنة الحقة، والتواطؤ على خرق القانون: ان تنبيه السائقين، في الطريق، لبعضهم البعض بوجود حاجز للدرك أو الشرطة ،بردار أو بدونه يمكن اعتباره رد فعل ضد مدونة حققت نقيض ما قصد بها.لا تُلاحَظ هذه الظاهرة في طرقات أوروبا مثلا؛حيث لا يتصور مثل هذا التضامن . ويلحق بهذا احتلال الملك العمومي، وحرائق الغابات العمدية،وتخريب الملك العام والتهريب المخترق لعدد من المدونات ،دفعة واحدة: تهريب البنزين في الجهة الشرقية كمثال؛ونهب الرمال الشاطئية في مناطق أخرى. ردود أفعال تنقل المواطنة من وضع الى وضع متدن. أحيانا – حينما تمر أمامي القوافل ذوات العدد ؛قد تصل الى الأربعين سيارة مقاتلة ،محملة بالبنزين وغيره- ولا ألمس استهجانا واستغرابا من عابري السبيل مثلي ؛يخيل لي أنني لا أصلح لهذه المرحلة . أي أوجد في الزمان الخطأ والمكان الخطأ. هل لمدونات الدولة جغرافية واحدة أم جغرافيات؟ قوافل لا يمكن أن تنتظم في غفلة من المسؤولين؛وحتى لو حاولوا منعها لما استطاعوا.لتوقيف أرتال من المقاتلات يلزم فرقة عسكرية مدرعة.أقول هذا وأنا متفائل من حصيلة ولاية الأمن بوجدة،ودرك الجهة ؛وقد نشرتها هسبريس. لكن الأدهى أننا حتى لو حاولنا أن نجد تبريرات للعديد من التصرفات الارتدادية ،والمنتقصة من المواطنة فان مقولة " عفا الله عما سلف" كنهج غريب لم ينته باعتذار – رغم سيولته عند رئيس الحكومة- تخلط أمامنا جميع الأوراق. انه نهج يخرق جميع المدونات ويؤثر على جميع المؤسسات. ويبقى مطلب المواطنة الصحيحة أعز ما يطلب. و لا عفا الله عن المفسدين وان كره رئيس الحكومة. [email protected] Ramdane3.ahlablog.com