لقد صرنا اليوم في مجتمعنا المعاصر نفتقد كثيرا لهذا الوصف الجليل القدر العظيم النفع ، وذلك ناتج عن قلة الصبر، وضعف في قدرة التحمل، وتسرع في الغضب، وسرعة في الكلام، وعدم النظر بعيدا إلى مآلات الأفعال والأقوال، وإدراك سوء عواقبها المترتبة عنها في الحال والمآل. وبعد هذا قد تجد أحيانا موقفا للمُزَاح يتحول إلى صراعات لا ينتهي حدها شتما وسبابا، وتخريبا للمصالح وتضييعا للنفوس في بعض المواقف؛... كل ذلك ناتج عن قلة الفهم والعلم، وسوء التصرف بعيدا عن الحلم، واضمحلال الأخلاق، ولو توَصَّفنا بالحكمة لقلت مثل هذه الويلات الخطيرات. فلنبدأ من دلالة مفهوم الحكمة، يطلق لفظ الحكمة في لسان العرب ويراد بمدلوله المنع؛ جاء في كتاب العين:«الحكمة: مرجعها إلى العدل والعلم والحلم. ويقال: أحكَمَتْه التجارب إذا كان حكيما. وأحكَمَ فلان عني كذا، أي: منعه»1 فالعدل مثلا منع للظلم، والعلم منع للجهل، والحلم منع للغلظة،... وهكذا كل صفة جميلة قائمة في الإنسان تمنع مقابلتها من التمثل في شخصه؛ مدعاة لتثبيت دعائم الحكمة ومن ثم أركانها. وورد في المقاييس أن « ''حَكَمَ '' الحاء والكاف والميم أصل واحد، وهو المنع ... والحكمة هذا قياسها؛ لأنها تمنع من الجهل»2. فالعلم بالشيء يمقت الجهل ويطرحه أرضا، والجهل به مدعاة للنفور منه وتكذيبه. فالاتصاف بالأول بناء للحكمة وتأسيس لجذورها، والاقتحام في الثاني ضرب في صميمها، وتمزيق لأركانها، وشتان بين هذا وذاك. هذا على مستوى المفهوم اللغوي؛ أما الحكمة في المتداول الاصطلاحي فتعني : كما قال ابن القيم رحمه الله بكلامه النفيس في هذا الباب: «فعل ما ينبغي، على الوجه الذي ينبغي، في الوقت الذي ينبغي»3. وابن عباس رضي الله عنه ذكر بأن الحكمة:«المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ومقدمه ومؤخره، وحلاله وحرامه، وأمثاله»4 فلو فككنا كلام ابن القيم وابن عباس – رحمة الله عليهما - لوجدناه بمنزلة قانون تنظيمي يؤسس لمقتضيات الحياة ومشمولاتها، والتعامل مع قضاياها وحيثياتها، فهو ذو بعد نظري عميق شامل لذلك الوصف الأخاذ... إذ قيام وصف الحكمة بأقوال الإنسان وأفعاله تمنعه من الوقوع في المزلات والمطبات والمهالك. وهي في ذات الوقت بالنسبة له بمثابة مغير للسرعة في السيارة إذ يتحكم فيها سائقها بواسطته حسب الحاجة والدوافع ومتطلبات السير، وحسب الحيثيات والمتطلبات الطرقية والمنعرجات الخطيرة وآفات تساقط الأحجار وسط الطريق؛ فهو لا ينظر في هذه الحال بمجرد البصر فقط؛ بل ينظر بالبصر والبصيرة؛ حيث ينظر بالأول لتجاوز عراقيل الطريق عن طريق المشاهدة، وينظر بالثاني تحسبا لأي طارئ، ومدركا في ذلك مآلات السرعة الخطيرة ومدى تأثيرها في فعل السائق، بفعل التجربة والواقع الملموس. هذا فيما إذا كان السائق على علم تام بخطورة السرعة ومهلكاتها، أما الذي اتصف بغيرها فإنك تجذه ينفعل كثيرا، لا يصبر إلا قليلا، يسرع في الطريق كثيرا، لا علم له بخطورة الطريق وآفاتها، يتصرف بعبثية تامة، ... فهو بهذا الصنيع قد يؤدي فعله المتسرع إلى خسائر مادية وبشرية كثيرة... فحال صاحب الحكمة هنا المتصف بها كهذا السائق تماما، فهو لا يتكلم ولا يجادل ولا يجيب ولا يرد ... إلا إذا قاس مدى تأثير الفعل والقول في سير الحال المشاهد والمآل الآتي؛ لأن العشوائية تنتفي عن الموصوف بها مما يستلزم الأمر في القائم بها النظر بالبصر والبصيرة النافذتين، ولا يؤتيها الله إلا للخواص من عباده الذين كانوا متحكمين في دوافعهم ورغباتهم. أما المنتفية عنه فنصيبه منها كحال السائق المتهور المنفعل لا يؤتي بثمار طيبة ولا ينتج نتائج حسنة؛وبأقصر لفظ وأدق معنى أن الحكمة فعل عقلي قلبي به تتم قراءة الأقوال قبل قولها والأفعال قبل فعلها واستشراف آثارها المستقبلية، وتقديرها وتقييمها وتفادي أخطارها. يقول الحق سبحانه:(يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) [البقرة،269]. «والحكمة في كتاب الله نوعان: مفردة، ومقترنة بالكتاب؛ فالمفردة: فسرت بالنبوة، وفسرت بعلم القرآن. .... وأما الحكمة المقرونة بالكتاب: فهي السنة. وكذلك قال الشافعي وغيره من الأئمة... وأحسن ما قيل في الحكمة. قول مجاهد، ومالك: إنها معرفة الحق والعمل به. والإصابة في القول والعمل»5. إذ الاصابة مصطلح يجسد الحكمة في صورة محسوسة، وذلك حين تكون الرمية هادفة قاصدة؛ أي حين يوضع الفعل أو القول في محله على الوجه المطلوب، في الوقت المطلوب، بالقدر المطلوب في الزمن المطلوب... وهكذا. يقول سيد قطب في المتسم بالحكمة:« أوتي القصد والاعتدال فلا يفحش ولا يتعدى الحدود وأوتي إدراك العلل والغايات فلا يضل في تقدير الأمور وأوتي البصيرة المستنيرة التي تهديه للصالح الصائب من الحركات والأعمال.. وذلك خير كثير متنوع الألون..»6 يقول ابن القيم رحمة الله عليه: «ولها ثلاثة أركان: العلم، والحلم، والأناة. وآفاتها وأضدادها: الجهل، والطيش، والعجلة»7. فالعلم ينميها، والحلم يزكيها، والأناة تطبقها. وأما الجهل هادمها، والطيش يفتك بها، والعجلة تمحوها. «والحكمة حكمتان: علمية، وعملية. فالعلمية: الاطلاع على بواطن الأشياء. ومعرفة ارتباط الأسباب بمسبباتها، خلقا وأمرا. قدرا وشرعا. والعملية كما قال صاحب " المنازل " هي: وضع الشيء في موضعه»8. ولقد قال الحق سبحانه في داوود: (وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ) [ص،20 ]. ولو أوتينا الحكمة اليوم في واقعنا المعاصر لاستثمرنا طرق الخطاب الشرعي ولأفدنا منه الكثير، ولابتعدنا عن ما نغالي فيه اليوم من الفتور والمآزق والصراعات المجتمعية. لكن للأسف طغى علينا العنف والتكبر والقول بغير علم، وسرعة الغضب، وقلة الصبر ، فصرنا نساق كما يراد غيرنا لنا بعيدين عن ما نصبوا إلى تحقيقه من أهداف الرسالة المحمدية ومعالمها الكبرى في تنظيم الكون واستتباب هدايته. فاستتباب الحكمة في المجال الديني يتم عن طريق استحضار الركائز الدينية والعمل على تنفيذها في الوقع المعيش بطرق تقرب الناس إلى هذا الدين ولا تنفرهم منه، والمجادلة معهم بالتي هي أحسن حتى يستمع لك الناس وأن لا ينفروا من رسالتك التي تريد تبليغها، وعدم الترافع والتخاصم في قضايا دينية مع أناس تعرف منهم أنهم سيسبونك أو يشتمونك أو يهزأوا بك، أو بالأحرى أن يسخروا مما تدعوا إليه على هداية وبصيرة وفق مبدأ الوسطية والاعتدال. ولقد أثيرت مأخرا جدلية البرقع فأحدثت هرجا كبيرا وجدلا دينيا واسعا شمل جميع أطياف المجتمع، فسالت فيها الكثير من الأقلام ، وتضارب فيها الكثير من الكلام ... ولو تلبس مثيروها بالحكمة لما أحدثوا من الهرج ما أحدثوا... وأما العمل على تنزيل الحكمة في المجال السياسي؛ فهو يقتضي بالأساس اتخاذ التدابير التسييرية المناسبة في الوقت المناسب بالطريقة المناسبة، والتي تتخذها الدولة في حل مشاكل الشعب، والخروج به من مآزق الأزمات إلى فضاء الرخاء وضمان العيش الكريم في ظل قانون وطني عام شامل لتفاصيل الحياة السياسية والمجتمعية؛ ... بما يضمن استمرار المصالح العامة لجميع أصناف المواطنين وضمان حقوقهم وكراتهم على حد سواء بما يزيل الإكراهات ويرفع الصراعات، ... وأما نشر فضيلتها بين الناس في المجال الاجتماعي فتتجلى في قيام الفرد كل حسب حريته، وامتدادها المحدود له بالتصرف اللائق قولا أو فعلا تجاه أخيه الإنسان أو الدولة، وذلك بما يساعد وينفع نصحا ورشدا لا شتما ولا سبابا، ولا تعصبا لأي حزب سياسي، أو مذهب فقهي، أو انتماء قبلي؛ لأننا في النهاية إخوة ندين بدين واحد، نتبع رسولا واحدا، ولنا رسالة واحدة ... وأما في المجال الاقتصادي فهي تتجه بالأساس إلى توفير التدابير الملائمة ... التي تقوم بها الشركات تجاه العاملين أو المستهلكين ... بما يتلاءم وطبيعة العيش الموجود في البلد مع مراعاة ظروف المواطن ومتطلباته وحاجاته ... وأما في المجال البيئي فهي التدابير الملائمة في الوقت الملائم على الوجه الملائم والتي تتخذها الدولة أو الأفراد بما ينمي البيئة ويزكيها من التلوثات والرذائل والغازات السامة والانحباس الحراري؛ حتى لا ينعكس ذلك على صحة المواطنين جميعهم، ولقد أحدث مؤخرا (كوب22) في مدينة مراكش الذي قام بدور توعية المواطنين سواء من المغرب أو خارجه بخطورة الانحباس الحراري وأثره الخطير على البيئة، مما ينعكس الأمر على صحة الناس، ولقد كان هذا من الحكمة ... والحكمة في النهاية لها منافذ كثيرة وأبواب عديدة، لذا سنختم هذا المقال بأن الحكمة درجات: «الدرجة الأولى: أن تعطي كل شيء حقه ولا تعديه حده، ولا تعجله عن وقته، ولا تؤخره عنه.. والدرجة الثانية: أن تشهد نظر الله في وعده. وتعرف عدله في حكمه. وتلحظ بره في منعه.. والدرجة الثالثة: تعظيم الحق سبحانه. وهو أن لا يجعل دونه سببا، ولا يرى عليه حقا، أو ينازع له اختيارا..»9 نسأل الله أن نكون حكماء في الأقوال والأفعال هوامش: 1- العين للخليل: ج:3، ص:66 2- مقاييس اللغة مادة حكم 3- مدارج السالكين 2/449 4- جامع البيان فيتأويل آي القرآن لابن جرير الطبري (ت: 310ه)، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، ط:1، 1420 ه - 2000 م 5- مدارج السالكين، لابن القيم الجوزية 2/ 448 6- في ظلال القرآن لسيد قطب، 1/ 312، دار الشروق. 7- مدارج السالكين، 2/449 8 مدارج السالكين 2/448 9 انظر مدارج السالكين لابن القيم، ج:2، ص: 448 وما بعدها إلى 470. بتصرف.