من يتكلم كثيرا ،أكيد سيكون احتمال خطئه أكبر،دون أن يعني هذا أن السكوت دائما من ذهب. فأكيد أن بين السكوت والكلام موقفا معتدلا يقف فيه العقلاء والحكماء والمتبصرون.ومن يتأمل موقف كثير من السياسيين أيضا،يجد أن كلامهم موزون ومحسوب ومرتب بعناية كبيرة.وهذا يعني أن ليس كل السياسيين، رصيدُهم كثرة الكلام وحشرُ أنفسهم في كل صغيرة وكبيرة. بالمناسبة،يجدر التنبيه إلى كوننا،كعرب،نفاخر كثيرا بذلك السياسي أو المحاضر أو الخطيب الذي يتحدث '' بدون ورقة'' ويطيل في كلامه ،ويأتي على كل شاذة وفادة .لقد عشنا حينا من الدهر نفاخر برئيس عربي كل قدرته صياغة خطب منمقة بلغة عربية فصيحة إلى درجة التقعر ، لنكتشف في النهاية أن هذا الرئيس لا يختلف عن باقي حكام العرب حين يتعلق الأمر بالاستبداد والقمع والتنكيل بالشعب. الغريب أن هذا الرئيس،وإن شئتم الدكتور بشار الأسد، تغير كل شيء في سوريا ولم يتغير هو قيد أنملة. الدماء تسيل وهو يخطب ... الشهداء يتساقطون وهو يخطب .... النازحون واللاجئون يفرون إلى الدول المجاورة وهو يخطب ... ويبالغ في تحليلاته وتخريجاته التي لا تمت للواقع بصلة. وحين يتوقف هو عن الخطابة،يتدخل الشيخ حسن نصرالله ليملأ الشاشات بخطاباته الطويلة،ولا يتورع عن الدفاع عن حليفه في دمشق حتى وهو ينكل بمعارضيه ويقتل الشباب والأطفال ويشرد الشيوخ والنساء... لعن الله ساس ويسوس وسياسة ..التي لا تحفظ لشيخ وقاره ،ولا لحزب نضاله، ولا لمبدإ جماله وقدسيته. لهذا نستطيع أن نفهم لماذا يحرص ساسة الغرب ومسؤولوه على كتابة خطاباتهم فوق الورق وقراءتها بشكل واضح دون تقعر أو تصنع أو مباهاة ... حتى أكثر الرؤساء الأمريكان فصاحة،باراك أوباما، لم يشذ عن هذه القاعدة.وهذا ليس عجزا ولا تقصيرا،بل احتراما لذكاء المستمعين والمتتبعين والمواطنين.فكل كلمة لها معناها ومغزاها.وكل خطاب وراءه عدد من المستشارين.لأن كلام الرئيس هو كلام الممثل الأسمى للأمة،فلا يعقل أن يفسح له مجال القول دون ضابط كي يصول ويجول،فقط ليقال أنه خطيب في حين يسيء لأمته وشعبه. عودة للرئيس الخطيب، يعلق الكاتب المعروف ، عبد الرحمن الراشد، في جريدة الشرق الأوسط عدد 11894 بتاريخ 22 يونيو2011 مشفقا على المواطن السوري الذي انتظر خطاب رئيسه عساه يأتي بجديد لكن خاب أمله في الخطاب الثالث: ) بالنسبة لمواطن يريد أن يسمع تبريرا للقتل أو ينشد حلا يطمئنه على وضعه وعائلته، كيف سيفهم الرئيس وهو يتلو هذه الجملة، «بالنسبة للمواطنين فإن الحكومة الجديدة تعني دماء جديدة والدماء الجديدة تعني آمالا جديدة وكبيرة ولكن هذه الدماء لكي لا تصبح قديمة بفترة قصيرة لا بد من العمل على تجديدها بشكل مستمر وهذا التجديد يكون من خلال تجديد الأفكار.. ليس بالضرورة أن تكون الدماء هي الأشخاص الذين ينضمون إلى الحكومة أو إلى الدولة وإنما الأفكار الجديدة التي ننتجها كل يوم»!! ( وقد خلص الكاتب إلى هذه النتيجة المنطقية : (الجميع خرجوا من الخطاب باستنتاج واحد أنهم لم يفهموا ألغازه، هذا إن كانت فيه ألغاز. لم يرن في آذانهم شيء من رجاء، ولم تنقبض صدورهم أيضا من عبارات تهديد. عاشوا على آمال مثل: حل عشرة أجهزة أمنية، أو إقصاء عشرين مسؤولا، أو إعلان انتخابات، إلا أنهم سمعوا على مدى ساعة بشائر صغيرة مثل منح الفارين جوازات للعودة، أو مثل هذه، «إنه تم إعداد مشروع قانون الإدارة المحلية الذي سيسهم في معالجة الكثير من الإشكاليات مثل المركزية الحالية والتنظيم بين الإدارات المحلية» ). لا وجه للمقارنة بين رئيسِ عرف العالم كله اليوم أنه دكتاتور بمبضع طبيب ، ومناضلِ كبير هو الأستاذ بن كيران.ومع ذلك فإن كثرة الكلام والتدخل في كل صغيرة وكبيرة والرد على من ينتظر ردا وعلى من لا ينتظر ، ومحاججة الصغير والكبير، والحاضر والغائب، والميت والحي، والعربي والأمازيغي ... كلها أمور لن تكون في صالح الأستاذ بن كيران... بل من شأنها أن تأكل من رصيده النضالي وشخصيته الكاريزمية .وهو ما يحاول خصومه تضخيمه وإبرازه بشكل سلبي . لا أريد أن أعطي أمثلة ، وهي كثيرة،لتصريحات الأستاذ عبدالإله بن كيران ،وما جرت عليه من ردود ساخطة ومشككة وطاعنة في نيته وولائه .لأنني لا أريد أن أطعن في شخصه ولا في نيته.وأرى مباديء الرجل ووطنيته فوق كل شبهة.ولا داعي لكثير من المزايدات الرخيصة التي أفسدت الساحة السياسية المغربية، وبثت السموم، ونشرت العداوة والبغضاء بين كثير من القيادات والأحزاب والجماعات. لقد وصلنا إلى درجة أصبح كل رأي هو في حكم الخاطيء فقط لأن الخصم من قال به .وكل رأي هو صواب مطلق، لا ينبغي مجرد التشكيك فيه ،فقط لأن الموالي أو الحليف هو من رآه.وهذا تردّ كبير ، وخروج عن منهجية الحجاج والحوار بالتي هي أحسن.لأن الأصل أن تكون مصالح الوطن فوق كل اعتبار،وأن يكون خيرُ المواطن وصالحُ الشعب قبل أية مصلحة فئوية أو حزبية أو جهوية أو بأية صفة من الصفات. ولكي نصل إلى مثل هذه المنزلة في التفكير والتقدير والتعبير، لا بد من التعاطي الجدي والمسؤول مع الشأن السياسي.وخاصة من طرف المتفرغين للعمل السياسي ،وعلى رأسهم قادة الأحزاب السياسية،لأن أقوالهم ومواقفهم معرضة للنقد والتمحيص أكثر من الآخرين.فكيف والأمر يتعلق بالمغرب الذي تشكو ساحته السياسية من كثير من المفارقات والتعثرات ؟ وكيف ونحن نعيش مرحلة تغير كبرى على مستوى العالم العربي؟ أعرف أن رد الأستاذ بن كيران ومناصريه سيكون ،أن الأمر يتعلق بطبيعة السياسة في حد ذاتها.والسياسة في نهاية الأمر مواقف وردود على ردود وكلام في كلام .وكل من اختار أن يكون شخصية عمومية لا بد أن يؤدي الضريبة وينتظر ما هو أسوأ .فالسياسة شأن يومي.وكل لحظة، تستجد مواقف ،وتبرز وجهات نظر .ومع تطور وسائل الاتصال فإن الأمر في تجدد متواصل ،ولا وقت للتوقف أو التأمل الفلسفي أو الشاعري.. وحتى مع الاقتناع بوجهة النظر هذه،لا بد من التمحيص قبل الرد.ولابد من قراءة ردود الأفعال قبل صدورها.ليس احتراما للخصوم فقط وليس خوفا من ردودهم القاسية والتي لا تتورع أحيانا عن توسل لغة القدح والطعن في النوايا ونسب كلام الخصم إلى الخنوع أو المداهنة ... وقاموس طويل من كلمات السب والشتم.أقول إن الهدف أكبر، ألا وهو عدم إشغال المواطنين بمواضيع هي ،على أهميتها،لا تدخل في باب الأولويات .وأحيانا ينصرف جهد بعض القياديين ، وعلى رأسهم بن كيران،إلى إطفاء الحرائق التي تخلفها تصريحاتهم.وفي ذلك مضيعة للوقت والجهد وتوقف عن البناء.. يا أستاذ بن كيران، لا تطفئ حرائق في نهاية المطاف تخلف دخانا يغشى الأبصار ويؤذي النظر!... ولكن أوقد مصابيح،كما هو مصباحكم ورمزكم،تنشر نورا ساطعا ولا تخلف دخانا داكنا !.المرحلة لا تسمح بكثير من الجدل البيزنطي العقيم.وما تزال أمامنا كمغاربة أشواط للبناء والتطوير والإبداع.وإن كان ولا بد من الكلام،لأن السياسة هذا طبعها،فليكن حوارا بالتي هي أحسن ونقاشا عاليا ومسؤولا.وإلا فإن السكوت من ذهب. نحن كمغاربة نعرف أن النقاش الكثير الذي دار حول اللغة الرسمية وغير الرسمية، هو نقاش في نهاية المطاف غير مُقتنع به واقعيا.فسواء أولئك الذين يدافعون عن العربية،أو أولئك الذين يناصرون الأمازيغية ...كلهم يعرفون ... ونحن موقنون ومضطرون أن نعترف... أن كلمة السبق اليوم هي للغة أخرى إسمها الفرنسية.ولمن أراد أن يتبحر في العلوم ويواكب تطور التكنولوجيا فعليه بالإنجليزية.فلماذا ننتصر للعربية أو الأمازيغية في حواراتنا ونقاشاتنا النظرية ، وفي الصباح نرسل أولادنا للمدرسة الخصوصية أو للبعثات كي يتقنوا الفرنسية ويتبحروا فيها؟ أليس هذا نوعا من النقاش في غير محله؟ أليس هذا انفصاما في الشخصية ؟ ألم يقولوا بتعريب التعليم ، وقد عربوه بطريقتهم الخاصة،ثم وجدنا أنفسنا بعد الثانوية أمام مشكلة كبيرة هي مواصلة التعليم العالي بالفرنسية ؟ نريد من ساستنا كلهم أن يشتغلوا ويشغلونا معهم بما هو أهم.وأكيد أن الأستاذ عبدالإله بن كيران في رأسه،بل وفي وجدانه كثير من القضايا الكبرى التي تتطلب تفكيرا عميقا وتخطيطا استراتيجيا ونقاشا وطنيا واسعا... وهي قضايا بطبيعتها تحقق الإجماع ويتفق حولها كل الفاعلين الوطنيين وكل العقلاء المخلصين، لا أستطيع أن أمليها عليهم في هذه العجالة، ولكن لن تخرج في نهاية المطاف عن التنمية بمفهومها الشامل والتعليم العصري والمتطور ومحاربة الفقر وتحقيق مزيد من الحريات أو باختصار هي الشعار الذي اتفق عليه المغاربة والعرب: كرامة ،حرية ،عدالة اجتماعية .حتى وإن كان الشيطان يكمن في التفاصيل،فبقليل من الكلام الهادف والمسؤول وبتجاوز الجدل العقيم،فإن الشيطان سيخرس و يخنس. وفي الأخير أتمنى ألا يكون هذا مني تطاولا،لا في حق الأستاذ بن كيران ولا في حق باقي السياسيين . لقد قال "كليمنصو"، السياسي الفرنسي الشهير: ''الحرب موضوع خطير، والأخطر منه أن نتركه للعسكريين وحدهم" وأظن السياسة أيضا أخطر من أن نتركها فقط للسياسيين ... حتى وإن كانوا محترفين ومخلصين . [email protected]