الوطن ساكن فينا.. وأيضا، شامخ في شوارعنا وحياتنا اليومية.. ومن يساهم في نظافة كل ما هو محلي، وعمومي، ومشترك، هو مساهم في نظافة الوطن برمته.. وما الشارع إلا امتداد لبيت كل فرد فينا.. وهو من مواقع هذا الوطن.. ومن مشتركات الوطن.. وعلى العموم، توجد في بيوتنا الخاصة نظافة، وألوان، وحميمية، وإنسانية.. وهذا إيجابي.. منا وإلينا.. ولكن خارج البيوت، وتحديدا ببعض الشوارع، والفضاءات العمومية، قد تتكدس نفايات، وينتشر ذباب وحشرات، وتتجمع فئران وقطط وغيرها... وهذه لا نعتبرها منا.. ولا نتعامل معها تعاملنا مع المشترك.. وكأنها ليست هي أيضا من مكونات الوطن.. وفي العمق هي جزء منا.. وهي منا وإلينا.. ولا يجوز أن نهملها.. وأن نتركها فريسة للقاذورات.. وفي بعض المناطق، تتزاحم المواشي على قطع بلاستيكية، وتتغذى بها مع بقايا خضر ملوثة.. لماذا هذه الفضاءات باقية بكل هذا الإهمال؟ الجواب: لأنها - في نظرنا الضيق - ليست من المشترك، فنهملها كما نهمل كل ما ليس منا وإلينا.. وفي ضواحي المدن، تعكس مطارح النفايات صورة سيئة عن أنواع القاذورات التي نتخلص منها في منازلنا.. ومنازلنا نحسبها منا وإلينا.. وقلما نعير نفس الاعتبار لفضاءاتنا العمومية، حتى وهي امتداد لبيوتنا.. وجزء مهم من المشترك: وطننا.. - أحيانا لا نحسن قراة الوطن.. والوطنية.. لا نحسن النظر.. لا نرى وطننا إلا في ما هو ذاتي.. بين أيدينا.. في قبضتنا.. لا نرى إلا ما هو انتفاعي، في عقر بيوتنا، لا ما هو خارج بيوتنا، حتى وهو مشترك! والوطن هو كل المشترك.. والوطن ليس بقرة حلوبا.. ومن يرى فيها مجرد انتفاع خصوصي، يسىء الفهم.. والتصرف.. ويسيء للوطن.. والمواطن.. أنانية مرضية ترى ألا شوارع منا وإلينا، رغم أننا منها جميعا نستفيد.. أنانية أيضا ترى ألا حدائق.. ولا إدارات.. ولا شواطىء.. ولا سفوح.. ولا جبال.. ولا غابات.. ولا مياه.. ولا ولا ولا... فما هذا؟ منظار الانتفاع يقتصر فقط على ما هو ذاتي محض: البيت.. ما بين الجدران الأربعة! - والآخرون.. إلى الجحيم! قالها أحدهم، وصدقها كثيرون.. رغم أن هذا الآخر هو أنت وأنا ونحن جميعا.. كلنا الآخر.. وحسب نظرة ذاتية ضيقة، فإن البيت وحده تابع لنا.. وحده يأوينا.. وما هو خارج البيت، خارج عن ذاتنا، حتى وهو مشترك.. والحقيقة أوسع من هذا وأكبر.. فوطننا يأوي حتى البيت الذي يأوينا.. الوطن هو بيتنا الأكبر.. وعلينا بتنمية "ثقافة المواطنة"، لتقدير وتثمين كل ما هو مشترك.. والارتقاء إلى هذا المستوى الإدراكي الراقي، لكي نرى الوطن في كل ما حول منازلنا، من فضاءات ومؤسسات وغيرها.. وأيضا في سلوكات فردية وإدارية وغيرها.. وألا نلقي بالمسؤولية فقط على غيرنا، حتى ولو كانت خارج المنزل.. إنها حتى هناك داخلة في فضاءات المشترك.. الزبالة نحن أيضا نلقيها أينما اتفق، وقلما نجمعها.. من يجمعها عامل مهمش يسمونه "الزبال"، وقد بادر حقوقيون إلى تلطيف التسمية، فأصبحت فئات منا تناديه "عامل النظافة".. وهو وحده لا يستطيع فعل كل شيء.. اليد الواحدة لا تصفق.. لا بد من مشاركة الساكن ، فيضع النفايات في مكانها الصحيح، في حين يقوم عامل النظافة بجمعها بطريقة سليمة.. - وفي هذا السياق، يقول مثل صيني: "إذا كنس كل شخص أمام منزله، نظف الشارع".. ومن الحكمة الصينية نستفيد.. نتعلم كيف نتعامل مع الشأن المحلي المشترك.. والشأن العمومي المشترك.. ونتعامل مع "الوطنية" في أنفسنا، وفي شوارعنا، وفضاءاتنا العمومية.. ومن حق الوطن علينا، وهو مشتركنا الشاسع، أن يظهر للجميع، بخصوصياته وعمومياته، وبشكل لائق، نظافة وتعاملا ورونقا يجذبنا جميعا، ويريح أنظارنا، ويمتع نفسيتنا.. ولا يجوز التقاعس عن المساهمة في تنظيف مكثف لبيئة وطننا المشترك، بدءا من شوارعنا؟ وكل فرد منا يستطيع أن يفعل شيئا.. ولو جزءا بسيطا.. والمسألة في غاية البساطة، هي ألا يسمح الفرد لنفسه بإلقاء نفايات خارج منزله.. وأن يحرص على التشطيب أمام باب منزله.. وعلى احترام أبواب جيرانه.. وهذا سلوك إيجابي، يعني امتداد الحس الوطني من المنزل إلى ما هو خارج المنزل.. إذا قام كل فرد بهذا، فإن النظافة ستنطلق من داخل البيت إلى خارجه، فالشارع المشترك.. ويكتسي المشترك عندئذ جمالية نحن كلنا منها وإليها.. وهنا نفتح قوسين.. بين القوسين: تحية خاصة إلى شباب من وطننا.. متطوعون لا يقتصرون على تنظيف بيوتهم.. إنهم ينظفون أيضا أحياءهم.. ويغرسون بها الورد والاخضرار.. ويصبغون جدرانها بألوان زاهية.. - تحية لكم أيها الشباب.. إنكم تنشرون "ثقافة النقاء" العمومي.. نقاء كل الوطن.. ومع مرور الوقت، ستتحول هذه المجهودات إلى سلوك إيجابي بين الجيران، فسكان الحي، والمدينة، وكل التجمعات السكنية في البوادي والحواضر، ثم كل البلاد.. هذه ثقافة "الوطن النظيف".. وطننا المشترك.. وطن الجميع.. هي أخلاق يمكن أن تتحول إلى سلوك عمومي.. ثم نكتشف بعدئذ أن هذا الوطن ليس حكرا على أحد دون آخر، وأنه هو بالفعل ملكنا جميعا، وأن علينا واجب تنظيفه من النفايات، ومن سلوكات مضرة بنا - كمواطنين - وبوطننا الذي هو منا وإلينا، ونحن منه وإليه.. كلنا هذا الوطن! وعندها يرافقنا هذا السلوك الحضاري إلى أي مكان، ويدرك غيرنا أننا أنقياء في أعماقنا، وفي احترامنا للفضاءات العمومية، وسلوكاتنا مع أنفسنا ومع كل الأجناس البشرية.. وهذا الاعتزاز بالانتماء النظيف، إلى وطن نظيف، يرافقنا حتى إلى الآفاق البعيدة.. فنرى أن القمر نفسه هو أيضا نملكه.. هو الآخر ملكنا جميعا.. والشمس كذلك نملكها... ونكتشف أننا نملك كل الآفاق.. وأن هذا الكون في خدمتنا، نحن من صلبه جئنا، ويستأهل أن نكون نحن أيضا في خدمته.. فبدونه ما كان لأرضنا وجود.. وبدون أرضنا ما كان لوطننا وجود.. وبدون وطننا ما كان لمنازلنا وجود.. وجودنا مرتبط ليس فقط بأمنا وأبينا، أي بميلادنا، ولكن أيضا بتسلسل حياتي ينطلق من مسكننا، وجيراننا، ويمتد عبر أبصارنا إلى ما لانهاية.. وسيتضح أكثر أننا بأبصارنا نملك كل الآفاق! وبأعماقنا نحن جزء من كل شيء، ومن ثمة نحن مسؤولون - إلى جانب غيرنا - عن كل شيء.. نحن مسؤولون عن نظافة سلوكنا.. ونظافة وطننا.. ونظافة كوكب الأرض.. ونظافة ما في مدارات كوكب الحياة.. ولا نقبل أن تتحول مدارات كوكبنا إلى مزبلة فضائية تلقيها دول صناعية كبرى، وتشكل خطرا حتى على منازلنا. كما لا نقبل أن تتحول أسطح منازلنا إلى مزابل.. وانظروا إلى أسطح كثير من مدننا.. هي عبارة عن مطارح للنفايات.. ومن يتأمل من سطح منزله باقي الأسطح المجاورة، يتبين له إلى أية درجة نحن بحاجة إلى تنظيف عقولنا، لكي نستوعب أن استمرار حياتنا متوقف على نظافتنا، بدءا من البيت، فالشارع، فالعالم.. وعالم غير نظيف هو عالم لا يرى أن نظافته من نظافة غيره، ومن نظافة عوالم أخرى.. وإذا طبقنا هذه المعادلة، نجد ألا سعادة لفئة، دون سعادة باقي الفئات.. الناس مرتبطون ببعضهم.. شبكة مترابطة.. وما يحدث هنا، يتم التفاعل معه هناك.. وينتفعون به هنالك.. وهذا خطاب آخر، موجه إلى ثلة ممن يملكون فيلات بأشكالها وأنواعها، وبها رونق الاخضرار .. هؤلاء جلهم لا يدركون أن نظافتهم لا تكتمل إلا بنظافة الشوارع والأسطح والفضاءات المجاورة، وأنهم هم أيضا غارقون، بطريقة أو أخرى، في نفس الوحل المحيط بما يملكون.. وعلى مدار كل يوم، يرون أمامهم مطارح للنفايات على أسطح الأحياء المحيطة بهم.. ومع ذلك هم صامتون.. كأنهم "يستمتعون" بالتلوث! وما أغبى حكومة ترى أمامها كل هذه الفوارق والتناقضات، وكل مظاهر العبث والعفن، في البيئة والبشر، وتحسب أنها تملك كل شيء، بينما هي لا تملك شيئا على الإطلاق.. وإنها لواهمة.. هي الأخرى تتساوى مع من يستنشقون قاذورات، ويحسبون أنهم في بيئة نظيفة.. - وفي الختام، مقولة لعبد ربه، رددها منذ عقود: "سلامة البيئة من سلامة الفكر.. وتلوث البيئة من تلوث الفكر"! [email protected]