ترامب يهدد بمحاولة استعادة قناة بنما    هيئة المعلومات المالية تحقق في شبهات تبييض أموال بعقارات شمال المغرب    المغرب يخطط لإطلاق منتجات غذائية مبتكرة تحتوي على مستخلصات القنب الهندي: الشوكولاتة والدقيق والقهوة قريبًا في الأسواق    تشييع جثمان الفنان محمد الخلفي بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء    فريق الجيش يفوز على حسنية أكادير    شرطة بني مكادة توقف مروج مخدرات بحوزته 308 أقراص مهلوسة وكوكايين    دياز يساهم في تخطي الريال لإشبيلية    فرنسا تسحب التمور الجزائرية من أسواقها بسبب احتوائها على مواد كيميائية مسرطنة    المغرب يوجه رسالة حاسمة لأطرف ليبية موالية للعالم الآخر.. موقفنا صارم ضد المشاريع الإقليمية المشبوهة    المغرب يحقق قفزة نوعية في تصنيف جودة الطرق.. ويرتقي للمرتبة 16 عالميًا    حفيظ عبد الصادق: لاعبو الرجاء غاضبين بسبب سوء النتائج – فيديو-    وزارة الثقافة والتواصل والشباب تكشف عن حصيلة المعرض الدولي لكتاب الطفل    فاس.. تتويج الفيلم القصير "الأيام الرمادية" بالجائزة الكبرى لمهرجان أيام فاس للتواصل السينمائي    التقدم والاشتراكية يطالب الحكومة بالكشف عن مَبالغُ الدعم المباشر لتفادي انتظاراتٍ تنتهي بخيْباتِ الأمل    مسلمون ومسيحيون ويهود يلتئمون بالدر البيضاء للاحتفاء بقيم السلام والتعايش المشترك    الرجاء يطوي صفحة سابينتو والعامري يقفز من سفينة المغرب التطواني    العداء سفيان ‬البقالي ينافس في إسبانيا    جلالة الملك يستقبل الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني    بلينكن يشيد أمام مجلس الأمن بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    وقفة أمام البرلمان تحذر من تغلغل الصهاينة في المنظومة الصحية وتطالب بإسقاط التطبيع    الولايات المتحدة تعزز شراكتها العسكرية مع المغرب في صفقة بقيمة 170 مليون دولار!    الجزائر تسعى إلى عرقلة المصالحة الليبية بعد نجاح مشاورات بوزنيقة    انخفاض طفيف في أسعار الغازوال واستقرار البنزين بالمغرب    رسالة تهنئة من الملك محمد السادس إلى رئيس المجلس الرئاسي الليبي بمناسبة يوم الاستقلال: تأكيد على عمق العلاقات الأخوية بين المغرب وليبيا    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    رحيل الفنان محمد الخلفي بعد حياة فنية حافلة بالعطاء والغبن    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك    لقاء بطنجة يستضيف الكاتب والناقد المسرحي رضوان احدادو    بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    أكادير: لقاء تحسيسي حول ترشيد استهلاك المياه لفائدة التلاميذ    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الكتاب المقدس ليس محرّفا
نشر في هسبريس يوم 28 - 12 - 2016

أنا واع بأن هذا العنوان مستفز؛ لكن لكي نفهم هذه الدراسة التحليلية والتي ستنشر كمقالات مسلسلة وما تريد أن تقوله، لا ينبغي الوقوف عند عنوانها، بل ينبغي قراءتها كاملة والتأمل في المعطيات التي تعرضها بتأنّ. الانطباع الذي أتمنى أن أخلقه عند القارئ هو أن هناك أوهاما أصبحت تلبس لباس الحقيقة علينا تعريتها، الإيديولوجية الدينية الإسلامية صنعت أوهاما متعددة بخصوص معتقدات الآخرين (اليهود / المسيحيون) – تلك الأوهام آن الأوان لتشريحها وفضحها.
سأبين تحديداً أن الفكرة السائدة التي تقول بأن الكتاب المقدس محرف تنطوي على مغالطات خطيرة ينبغي فضحها ومعالجتها معالجة ذكية إذا أردنا أن نتصالح مع المنطق السليم، سأبدأ هنا بعرض لآيات قرآنية تُثبث مصداقية الكتاب المقدس، وآيات قرآنية تتحدث عن التحريف، ثم في الأخير أعرج على معنى تنزيل وإنزال بالقرآن وعلاقته بالكتاب المقدس.
أولاً - آيات قرآنية تشهد بمصداقية الكتاب المقدس
"أولئك الذين أتيناهم الكتاب والحكم والنبوة، فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بكافرين، أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتداه" (سورة الأنعام 89 - 90)/ "ما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم، فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون" (سورة النحل 43)، لقد جاء بتفسير الجلالين "أن أهل الذكر هم العلماء بالتوراة والإنجيل، فإن كنتم لا تعلمون ذلك فإنهم يعلمونه، وأنتم إلى تصديقهم أقرب من تصديق المؤمنين بمحمد" (تفسير الجلالين -ص 357) (1)، ويقول الرازي" "إن محرفي التوراة هم معاصرو محمد" إلا أنه يقول في المجلد الثالث من تفسير القرآن: "إن المراد بالتحريف، إلقاء الشبه الباطلة والتأويلات الفاسدة، وصرف اللفظ عن معناه الحق إلى معنى باطل بوجوه الحيل الباطلة اللفظية كما يفعل أهل البدع في كل زمان بالآيات المخالفة لمذاهبهم".
فعندما يتكلم القرآن عن الكتاب المقدس الذي بين أيدي المسيحيين بدفتيه (العهد القديم والعهد الجديد) أو بتسمية أخرى (التوراة والإنجيل)، فإنه يفصل ويميز بين التوراة التي بيد اليهود وبين الإنجيل الذي بيد المسيحيين، ومن ضمن التسميات التي أطلقها القرآن على التوراة والإنجيل والزبور، الكتاب، الفرقان، التوراة، الزبور، الإنجيل، الذكر، ولكل تسمية من هذه التسميات في القرآن قصد ولها معنى مختلف، فالكتاب مثلاً أو أهل الكتاب يقصد به اليهود والمسحيين، كما يقصد بالكتاب أيضاً القرآن. أما التوراة، فيقصد بها اليهود فقط، والزبور، يقصد به مزامبير داوود، والإنجيل يقصد به كتاب المسيحيين المقدس، والاسم الما قبل الأخير الفرقان تم إطلاقه على كل من التوراة والقرآن، ولما يتكلم القرآن عن الذكر فهو يتكلم عن لفظ يشمل كل من الكتب السابقة: التوراة، والزبور، والإنجيل، والقرآن، والذكر في مجمله يعني كلام الله.
القرآن مليء بالآيات التي تشهد للتوراة والإنجيل بأن فيهما هدى ونورا (سورة المائدة: 44 و46) وأن القرآن جاء مصدقا لما قبله، ليس فيه ما يميزه عن الكتاب سوى التصديق له باللسان العربي، والقرآن يحث دائما أهل الكتاب (اليهود والنصارى حسب التسمية القرآنية) على العمل بما جاء في التوراة والإنجيل، - فهل من الممكن أن يطلب القرآن شيئا كهذا وهو يتهم هذه الكتب بالتحريف أو التزييف والتغيير؟
وهنا أتسأل، إن إتهام الكتاب المقدس بالتحريف هو إتهام لذات الله نفسه أنه عجز عن حفظ بعض كلامه وتركه عرضة للتغيير والتحريف، وهو اتهام ذو حدين، فكما ترك الله ذكره في الإنجيل والتوراة عرضة للتحريف بيد البشر، فلماذا لا يكون القرآن كذلك؟
هذا السؤال يرد عليه المسلمون بآية واحدة: "إنَا نَحن نَزّلنا الذّكر وإنّا له لحَافظون" (سورة الحجر 9).
وبالرغم من أن هذه الآية الوحيدة ليست كافية للدفاع عن القرآن، لأنها من القرآن ذاته، فإنها تعطينا أيضاً الدليل والبرهان الناصع من القرآن نفسه أن الذكر، بمعنى الإنجيل والتوراة والزبور، محفوظ بقدرة الله ووعده.
إلا أنني أرد على الرد الإسلامي ردا مسيحياً مساوياً، ونقول إن الله وعد أيضاً في التوراة والإنجيل بحفظ كلمته، فلماذا يحفظ الله وعده القرآني، ويتخلى عن وعده بحسب التوراة أو بحسب الإنجيل؟
وهذه آيات كتابية تثبت مصداقية الكتاب المقدس :
"إلى الأبد يا رب كلمتك مثبتة في السماوات" (مزمور 89:119)؛
"فقال الرب لي أحسنت الرؤية لأني أنا ساهر على كلمتي لأجريها" (إرميا 12:1)؛
"قال يسوع المسيح: "السماء والأرض تزولان، ولكن كلامي لا يزول" (متى 35:24 مرقس 31:13 لوقا 33:21)؛
"لا يمكن أن ينقض المكتوب" (عبرانيين 12:4)؛
"عندنا الكلمة النبوية وهي أثبت التي تفعلون حسناً إن انتبهتم إليها كما إلى سراج منير في موضع مظلم إلى أن ينفرج النهار ويطلع كوكب الصبح في قلوبكم" (2 بطرس 19:1)؛
"إني أشهد لكل من يسمع أقوال نبوة هذا الكتاب إن كان أحد يزيد على هذا يزيد الله عليه الضربات المكتوبة في هذا الكتاب، وإن كان أحد يحذف من أقوال كتاب هذه النبوُة يحذف الله نصيبه من سفر الحياة ومن المدينة المقدسة ومن المكتوب في هذا الكتاب" (رؤيا 18:22).
فإذا أراد المسلمون الاستدلال على استحالة تحريف القرآن بآية قرآنية واحدة، يحق للمسيحيين أن يستدلوا بالعديد من الآيات الكتابية التي تضمن استحالة تحريف الكتاب المقدس.
ثانياً - آيات قرآنية تتحدث عن التحريف
"فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه، ونسوا حظا مما دكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم، فأعف عنهم وأصفح، إن الله يحب المحسنين" (سورة المائدة 13-15).
تتكلم هاته الآيات عن اليهود وليس عن المسيحيين؛ فإذا نظرنا إلى الآية (12) من سورة المائدة التي لم أسمُها هنا: "ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل" اتضح لنا ذلك، ولكن ما نريد أن نثبته هنا هو أن الآيات لا تتكلم عن تحريف بمعنى تغيير في كتاب التوراة، بل قال القرآن: "إنهم يحرفون الكلام عن مواضعه"، بمعنى تأويله وتفسيره على غير تأويله الحقيقي.
جاء في تفسير ابن كثير: "يحرفون الكلم عن مواضعه" أي فسدت فهومهم وساء تصرفهم في آيات الله وتأولوا كتابه على غير ما أنزله وحملوه على غير مراده، وقالوا عليه ما لم يقل عياذا بالله من ذلك "ونسوا حظا مما ذكروا به" أي وتركوا العمل به رغبة عنه"، ففي تفسير الجلالين، يُحرفون الكلم" الذي في التوراة من نعت محمد (ص) وغيره "عن مواضعه" التي وضعه الله عليها أي يبدلونه "ونسوا" تركوا" "حظا" نصيبا "مما ذكروا" أمروا "به" في التوراة من اتباع محمد "ولا تزال" خطاب للنبي (ص) "تطلع" تظهر "على خائنة"، أي خيانة "منهم" بنقض العهد وغيره، "إلا قليلاً منهم" ممن أسلم "فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين"، وهذا منسوخ بآية السيف..
جاء في تفسير الطبري، عن ابن عباس قوله: "يُحرفون الكلم عن مواضعه" يعني : حدود الله في التوراة، ويقولون: "إن أمركم محمد بما أنتم عليه فاقبلوه، وإن خالفكم فاحذروا".
وجاء في تفسير القرطبي، "يُحرفون الكلم عن مواضعه" أي يتأولونه على غير تأويله، ويلقون ذلك إلى العوام، وقيل: معناه يبدلون حروفه، و"يحرفونَ" في موضع نصب، أي جعلنا قلوبهم قاسية محرفين، وقرأ السَلمي والنخعي "الكلام" بالأَلف وذلك أنهم غيروا صفة محمد (ص) وآية الرجم.
وقد جاء في تفسير البيضاوي: "يحرفون الكلام عن مواضعه"، أي يبدلونه بغيره أو يتأولونه على غير تأويله.
بعد أن رأينا الآيتين (13) و(15) من سورة المائدة، وكلمة "التحريف" بهما، نأتي الآن إلى آية شبيهة مثلهما أتت بسورة النساء (46): "من الذين هادوا يحرفون الكلام عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا، واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين، ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيراً لهم وأقوم، ولكن لعنهم الله بكفرهم، فلا يؤمنون إلا قليلا" (سورة النساء 46)، جاء في تفسير الجلالين: "منَ الذينَ هَادوا" قوم "يحَرَفون يغيرون "الكلم" الذي أنزل الله في التوراة من نعت محمد (ص)، "عَن مَوَاضعه" التي وضع عليها. وهنا كما نرى، فإن الآية لا تتهم عموم اليهود، بل تتهم فريقا منهم - فهل يستطيع فريق من اليهود تحريف التوراة كلها، مع وجود فرق أخرى لا تتفق معهم فيما يفعلون؟
فالطبري يقول: "يُحَرَفونَ الكلم عَن مَوَاضعه" أي يبدلون معناه ويغيرونه عن تأويله، والكلم جماع كلمَة، وكان مجاهد يقول: "عنَى بالكلم: التوراة"، وجاء في تفسير القرطبي، "يحرفونَ الكلمَ" يتأولونه على غير تأويله، وذمهم الله تعالى بذلك لأنهم يفعلونه متعمدين، وقرأ أبو عبد الرحمان السُلمي وإبراهيم النخعي "الكلام"، قال النحاس: "والكلم في هَذا أولى، لأنهم إنما يحرفون كلم النبي (ص)، أو ما عندهم في التوراة وليس يحرفون جميع الكلام".
وأخيراً جاء في تفسير البيضاوي: "من الذين هادوا يُحرفون بيان للذين أوتوا نصيباً، فإنه يحتملهم وغيرهم، وما بينهما اعتراض أو بيان لأعدائكم أو صلة لنصيراً، أي ينصركم من الذين هادوا ويحفظكم منهم، أو خبر محذوف صفته يحرفون الكلم عن مواضعه، أي من الذين هادوا قوم يحرفون الكلم أي يميلونه عن مواضعه التي وضعه الله فيها بإزالته عنها وإثبات غيره فيها، أو يؤولونه على ما يشتهون فيميلونه عما أنزل الله فيه".
وكما نرى من خلال ما ذكرناه، وكما قلنا سابقاً في مقالات سابقة، فإن هناك فريقا يرى التحريف بمعنى تغيير الكتابة، وفريقا آخر يرى أن التحريف هو التأويل على غير حقيقة النص.
إذاً، فعدم اتفاق المُسلمين على صورة واحدة من فهم هذه الآيات يجعلنا نقول، تعالوا نعمل العقل معا ! إذا سلمنا بأن التحريف هنا هو تحريف الكتاب، فالآيات لا تتهم عموم اليهود بالاتفاق على هذا، وإنما تخص فريقا منهم بهذا، فما دام أن هناك فريقا آخر لا يوافقهم، فلا بد أن الفريق الآخر لديه التوراة الصحيحة، أليس كذلك؟ فهل لدينا الآن كتابان للتوراة أم كتاب واحد؟ وهناك سؤال آخر، إذا كنا نعتقد أن القرآن هنا قد فضح من قام بالتحريف بمعنى تغيير الكتاب، - فهل يا ترى أن الكتاب الذي انتصر ووصل إلينا هو الكتاب المحرف أم الكتاب الصحيح؟
ثالثاً- معنى تنزيل وإنزال في القرآن وعلاقة الكتاب المُقدس بهذين المصدرين
لقد تكررت صيغة "تنزيل" بالقرآن 52 مرًة على نحو ما نجده في الآية الثمانين من سورة الواقعة (56): "تَنزيلُ من رب العالمينَ"، وفي الآية الثانية من سورة الأحقاف (46): "تَنزيلُ الْكَتاب منَ الله العَزيز الْحَكيم"، وإذا انتقلنا إلى الأَفعال نرى القرآن يستخدم فعلين ماضيين من صيغة "تنزيل" هما "أْنزَلَ" 183 مرة و"نَزلَ 63 مرة استخداماً لافتاً للانتباه (2)، واقترنا أكثر ب"الماء" و"الكتاب".
ففي سياق تأكيد أهمية الماء للإنسان، يكون إنزاله عنوان حياة ووجود، إذ يقول القرآن: "وَأنَزَلَ منَ السمَاء مَاءَ فَأَخُرَجَ به منَ اُلثمَرَات رزُقاَ لكُمْ" (إبراهيم 32)، ويقول أيضاً: "نَزل منَ اُلسماء مَاءَ فَأَحْيَا به اُلأرْض منُ بَعَد مَوْتهَا" (سورة العنكبوت 63).
ومن ثم، بدَت الدلالات الإيجابية للماء بارزة في القرآن (3). أما إنزال الكتاب، فعادةَ ما يذكر لإثبات صفته المفارقة من جهة والحث على اتباعه من جهة أخرى: "وَهَذَا الكتَابُ أَنَزَلْنَاهُ مُبَارَكُ مُصَدقُ اُلذي بَين يَدَيه" (سورة الأنعام 92)، وجاء في الآية الرابعة والستين من سورة النحل (16): "وَمَا أَنَزلْنَا عَليْكَ اُلكتابَ إلاً لتُبَيًنَ لُهُمُ اُلذي اخْتَلفُوْا فيه وهُدَىَ ورَحْمَة لقَومْ يُؤْمنُونَ"، وقد بدا إله القرآن فاعلاً أوْحَد في تنزيل الكتاب أو إنزاله إثباتا لخصوصية الخطاب مقارنةَ بسائر الخطابات البشريًة (4)، وإن كان نزول الكتاب دالاً على معنى ذهني، فإن إنزال الماء مُعبر عن موجود حسي؛ غير أن الاختلاف في المظهر يخفي وحدةَ في الجوهر، إذ كلاَهُمَا نَبْتُ، الأول في الشعور والثاني في الأرض، كلاهما تخصيبُ ونماء، الأول في الوعي والثاني في الطين"" (5).
ولنا أن نسأل مدعي تحريف الكتاب المقدس: كيف يحرف من جاء عنه أنه "تنزيل" و"مُنزل"؟ ثم كيف نقول إن تنزيل القرآن هو غير تنزيل التوراة والإنجيل؟ مع العلم أن كلمة "تنزيل" تؤدي إلى فهم معنَيْين متكاملين، معنى أول عام مفاده أن "النزول" هو الانتقال من فوق إلى أسفل، ومعنى ثان خاص يمثل نزول الكتب السماوية! وكيف نقول بالتحريف، ونحن نعرف أنه قد التمس المُفسرون القدامى هذا المعنى الخاص في صيغة "نزًل" فعلا و مصدراً (6)؟ زيادة على أن القرآن خص التوراة والإنجيل ب"الإنزال".
مرة أخرى، إن فرضية التحريف لم يتفق عليها المُسلمون بعد. ولذلك، فلا يمكن الوثوق والركون إلى هذا الافتراض مع الاطمئنان إليه.
عموما، إن هذه الآيات، كما نرى، لا يستطيع مُسلم شريف يطلب الحق أن يقول باطمئنان شديد إنها تنسب التحريف إلى التوراة ككتاب، وإن كان يستطيع أن يركن إلى التحريف بمعنى التأويل على غير تأويله، فهذا أكثر معقولية ومطابقة لوقائع الأمور.
المراجع :
1- تفسير الجلالين
2- انظر "المعجم المفهرس لألفاظ القرآن" لمحمود فؤاد عبد الباقي، الطبعة الثالثة = دار المعرفة - بيروت 1992 (ص 866 – 870)؛ وأيضاً: "أسباب النزول" لمؤلفه بسام الجمل = الطبعة الأولى = المركز الثقافي العربي - 2005 (ص 78 – 79).
3- في مواطن قليلة جداً من القرآن يكون إنزال المطر عنوان عقاب يسلط على "الكفار" وهذا ما تفصح عنه الآية الثالثة والأربعون من سورة النور (24) :"أَلمْ تَرَى أَن الله يُزْجي سَحَابَا تُم يُؤَلًفُ بَيَنهُ ثُم يَجْعَلُهُ رُكَامَا، فَتَرى اُلوَدْقَ يَخْرُجُ منْ خلاَله ويُنَزًلُ منَ اُلسمَاء من جباَل فيهَا منْ بَرد فَيُصيبُ به مَن يَشَاءُ ويَصْرفُهُ عَن مَن يَشَاءُ يَكاَدُ سَنَا بَرْقه يَذْهَبُ باُلأَبْصَار".
4- راجع في ذلك : stevan wild "we have sent down to thee book wieth the truth. . " spatial and temporal implications of the qur anic concepts of "nuzl" and "inzal" in : the qur an ar text. p 144
أنظر أيضاً "أسباب النزول"، لبسام الجمل = الطبعة الأولى = المركز العربي للثقافة - 2005 (ص 79).
5- "الوحي والواقع"، حسن حنفي (ص 135). وانظر أيضاً المصدر نفسه "أسباب النزول" (ص 79).
6- تم الجمع بين الفعل "نزل" وبين المصدر "تَنْزيل" في ثلاثة مواطن من القرآن هي سورة الإسراء (17 / 106) وسورة الفرقان (25 / 25) وسورة الإنسان (76 / 23).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.