من المعروف أن الدين يدخل في إطار النظام الثقافي، ومن المعروف كذلك أن الثقافة هي منظومة متعددة في بنياتها الرمزية ومعانيها.. وما يهم في دراسة الأنظمة الرمزية، ومن بينها الدين والأحداث التي ترتبط به، هو تحليل كيفية تعاطي الأفراد والجماعات مع النص الديني، والأثر الذي يخلقه هذا النص الديني كأثر رمزي على المؤمن؛ ففي كتاب "الدين موضوع المستقبل" للباحث كيرتز، أعاد المؤلف التأكيد على أهمية تحليل النص الديني (كما طالب بتحليل النص في إطار الفينمونولوجيا) في ملامسة ذاتية الإنسان وما يفكر فيه المؤمن خصوصا، وما يشعر به، وذلك من خلال وصف وتوظيف إطارات التأويل التي يمكن من خلالها فهم الأفعال والأحداث التي يكون مصدرها الدين. وهذا التحليل يفضي إلى الإقرار بأن المعتقدات الدينية ما هي إلا استجابة للمواقع الاجتماعية، وكيفما كان الأمر فهي مدعوة إلى التعود على التعامل مع التنظيم الاجتماعي السائد. فدراسة مصداقية الكتاب المقدس التي هي موضوع هاته المقالة تسير في هذا الاتجاه، إذ تتطلب تجاوز المؤشرات العرضية والسببية التي تختزلها في ادعاء بعض من يؤمن بهذا الدين، وأقصد الدين الإسلامي، بأن الكتاب المقدس محرف؛ لكنه يبقى مجرد ادعاء شكلي لما تحاور من يدعي ذلك وتدحض معتقداته. ولهذا الغرض، كانت لنا هاته الاستجابة لنجيب بعض القراء الذين طالبوا بتفكيك هذه الادعاءات من داخل النص القرآني وليس من خارجه، وكيفما كان الأمر فنحن مدعوون جميعا إلى البحث والتمحيص في صدقية الكتاب المقدس من عدمها، في اتجاه المقاربة التأويلية للنص. أولاً: شهادة القرآن بصدقية التوراة "وَقَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ ۖ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ" (سورة المائدة 46)، فإذا طرحنا سؤالاً منطقياً - لو كان هناك تحريفا في التوراة، فمتى تم هذا التحريف؟ آية المائدة (46) دليل كاف على أنه لم يكن هناك أي تحريف للتوراة إلى زمن مجيء السيد المسيح، فهل تم التحريف بعد المسيح؟ وإذا كان القرآن يقول عن نفسه إنه مصدقا لما بين أيدي اليهود وقت زمن القرآن، فلا بد أنه يتكلم أيضاً عن نسخة سليمة ليس فيها تحريف، فكيف يقوم اليهود بتحريف التوراة بدون علم ومعرفة المسيحيين؟ وكيف يتفق اليهود والمسيحيون على تحريف التوراة، بالرغم أنهما عقيدتان مُختلفتانَ ومتضادتانَ؟ "وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَهُمْ ۗ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ اللَّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (سورة البقرة/ 91). "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم" (سورة النساء 47). إذاً، القرآن هنا يقول لأهل الكتاب إنه نزل مصدقا لما بين أيديهم، مصدقا لما معهم، فلا يمكن أن تكون التوراة قد تم تحريفها وقت نزول القرآن حسب الفهم الإسلامي للإنزال، وحسب ما قاله الباحث بسام الجمل بهذا الخصوص في كتابه "أسباب النزول"، الذي فصّل فيه معنى الإنزال التوراتي والإنجيلي وسماه ب"النبات" كما تنبت الأرض بعد سقيها بالماء من السماء، أي الإيمان الذي يحدث بعد إنزال كلمة الله من السماء كما قال القرآن بذلك؛ فإنزال التوراة والإنجيل إنبات للإيمان، وإنزال الماء من السماء إنبات للأرض بعد موتها. وإليكم هذه القصة التي تثبت أنه وقت زمن نبي الإسلام، كانت هناك نسخة من التوراة صحيحة باعتراف نبي الإسلام نفسه، فقد جاء بتفسير أية المائدة (46) لابن كثير ما يلي: "أتى نفر من اليهود فدعوا رسول الله (ص) إلى القف فأتاهم في بيت المدراس، فقالوا :"يا أبا القاسم إن رجلا منا زنى بامرأة فأحكم"، قال: "ووضعوا لرسول الله (ص) وسادة فجلس عليها تم قال: "ائتوني بالتوراة" فأتي بها، فنزع الوسادة من تحته ووضع التوراة عليها وقال: "أمنت بك وبمن أرسلك" - فهل يا ترى ممكن لنبي الإسلام أن يفعل هذا، أو يقول هذا الاعتراف للتوراة إذا كانت مُحرفة؟ وفي رواية أخرى عن الحدث نفسه، حدثنا سعيد الهمداني، حدثنا ابن وهب، حدثني هشام بن سعد أن زيد بن أسلم حدثه عن ابن عمر قال: "أتى نفر من اليهود فدعوا رسول الله (ص) إلى القف فأتاهم في بيت المدراس، فقالوا: "يا أبا القاسم، إن رجلاً منا زنى بامرأة فأحكم بينهم"، فوضعوا لرسول الله (ص) وسادة، فجلس عليها ثم قال بالتوراة، فأتي بها فنزع الوسادة من تحته، فوضع التوراة عليها، ثم قال: "أمنت بك وبمن أرسلك"، ثم قال: ائتوني بأعلمكم"، فأتي بفتى شاب، ثم ذكر قصة الرجم نحو حديث مالك عن نافع.. والسؤال الآن هو: هل إذا كانت التوراة محرفة في زمن نبي الإسلام، كان سوف يقول لها "أمنت بك وبمن أنزلك"؟ وكان سيطلبها لكي يحكم منها على اليهود حكم الرجم؟ "إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ۚ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ ۚ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا ۚ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ" (سورة المائدة 44). بدأ تفسير ابن كثير بشهادة كاملة للتوراة، إن الآية تمتدح التوراة وتؤكد على عدم تحريفها أو تزييفها، ثم مدح التوراة التي أنزلها على عبده ورسوله موسى بن عمران، فقال: "إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ۚ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا"، أيْ لا يَخرجون عَنْ حُكمهَا ولا يبدلونَهَا ولا يُحَرُفونَهَا. ثانياً: شهادة القرآن بصدقية الإنجيل لقد وردت كلمة إنجيل في القرآن في اثني عشر موضعا على التوالي: "نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ" (سورة آل عمران 3 – 4)؛ " وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ" (سورة آل عمران 48)؛ "يا أهل الكتاب لما تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون" (سورة آل عمران 65)؛ " وَقَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ ۖ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ" (سورة المائدة 46)؛ "وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ ۚ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ" (سورة المائدة 47)؛ "وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ۚ مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ" (سورة المائدة 66)؛ "قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ حَتَّىٰ تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ ۗ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا ۖ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ" (سورة المائدة 68)؛ " وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ ۖ" (سورة المائدة 110)؛ "الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ۚ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" (سورة الأعراف 157)؛ "إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ" (سورة التوبة 111)؛ " وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ۗ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا" (سورة الفتح 29)؛ "وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ۖ فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ" (سورة الحديد 27). هذا ما جاء في القرآن بخصوص الإنجيل، والذي جاء فيه أنه: هدى للناس - تعليم إلهي لعيسى (المسيح) - هدى ونور - مصدقا لما في التوراة - موعظة للمتقين - من اتبعه يغدق الله عليه النعم - وإن لم يقمه أهل الكتاب فليسوا على شيء. هذا مجمل ما ذكر عن الإنجيل في القرآن، وجلي كبير التقدير والاحترام الذي يوليه القرآن لهذا الكتاب، كما نلاحظ عمق الطرح القرآني بخصوص مجموعة من القضايا التي تخص الإنجيل؛ لكن هنا سنبقى في حدود مفهوم الإنجيل، لنتساءل عن المقصود بالخبر الطيب والسار أو البشارة التي يفسر بها المسيحيون كلمة إنجيل. للتحدث بشكل مستفيض عن الإنجيل ومعناه، أعدكم قرائي الأعزاء في المستقبل القريب بكتابة مقالين أو ثلاثة عن هذا الموضوع. * باحث في مقارنة الأديان، عضو المكتب التنفيذي لمركز الدراسات والأبحاث الإنسانية