«كوب-29».. الموافقة على «ما لا يقل» عن 300 مليار دولار سنويا من التمويلات المناخية لفائدة البلدان النامية    بعد عودته من معسكر "الأسود".. أنشيلوتي: إبراهيم دياز في حالة غير عادية    الدرهم "شبه مستقر" مقابل الأورو    مقتل حاخام إسرائيلي في الإمارات.. تل أبيب تندد وتصف العملية ب"الإرهابية"    نظام العالم الآخر بين الصدمة والتكرار الخاطئ.. المغرب اليوم يقف أكثر قوة ووحدة من أي وقت مضى    الكويت: تكريم معهد محمد السادس للقراءات والدراسات القرآنية كأفضل جهة قرآنية بالعالم الإسلامي    هزة أرضية تضرب الحسيمة    المضامين الرئيسية لاتفاق "كوب 29"    حارس اتحاد طنجة الشاب ريان أزواغ يتلقى دعما نفسيا بعد مباراة الديربي    نهيان بن مبارك يفتتح فعاليات المؤتمر السادس لمستجدات الطب الباطني 2024    شبكة مغربية موريتانية لمراكز الدراسات    ارتفاع حصيلة الحرب في قطاع غزة    افتتاح 5 مراكز صحية بجهة الداخلة    إقليم الحوز.. استفادة أزيد من 500 شخص بجماعة أنكال من خدمات قافلة طبية    تنوع الألوان الموسيقية يزين ختام مهرجان "فيزا فور ميوزيك" بالرباط    خيي أحسن ممثل في مهرجان القاهرة    الصحة العالمية: جدري القردة لا يزال يمثل حالة طوارئ صحية عامة    بعد الساكنة.. المغرب يطلق الإحصاء الشامل للماشية        نادي عمل بلقصيري يفك ارتباطه بالمدرب عثمان الذهبي بالتراضي    توقعات أحوال الطقس لليوم الأحد    مدرب كريستال بالاس يكشف مستجدات الحالة الصحية لشادي رياض    مواقف زياش من القضية الفلسطينية تثير الجدل في هولندا    بنكيران: مساندة المغرب لفلسطين أقل مما كانت عليه في السابق والمحور الشيعي هو من يساند غزة بعد تخلي دول الجوار        ما هو القاسم المشترك بيننا نحن المغاربة؟ هل هو الوطن أم الدين؟ طبعا المشترك بيننا هو الوطن..    الإعلام البريطاني يعتبر قرار الجنائية الدولية في حق نتنياهو وغالانت "غير مسبوق"    الدكتور محمد نوفل عامر يحصل على الدكتوراه في القانون بميزة مشرف جدا    فعاليات الملتقى العربي الثاني للتنمية السياحية    موجة نزوح جديدة بعد أوامر إسرائيلية بإخلاء حي في غزة    الأمن الإقليمي بالعرائش يحبط محاولة هجرة غير شرعية لخمسة قاصرين مغاربة    موسكو تورد 222 ألف طن من القمح إلى الأسواق المغربية    ثلاثة من أبناء أشهر رجال الأعمال البارزين في المغرب قيد الاعتقال بتهمة العنف والاعتداء والاغتصاب        ⁠الفنان المغربي عادل شهير يطرح فيديو كليب "ياللوبانة"    عمر حجيرة يترأس دورة المجلس الاقليمي لحزب الاستقلال بوجدة    ترامب يستكمل تشكيلة حكومته باختيار بروك رولينز وزيرة للزراعة    مظلات ومفاتيح وحيوانات.. شرطة طوكيو تتجند للعثور على المفقودات    أفاية ينتقد "تسطيح النقاش العمومي" وضعف "النقد الجدّي" بالمغرب    غوتيريش: اتفاق كوب29 يوفر "أساسا" يجب ترسيخه    الغش في زيت الزيتون يصل إلى البرلمان    "طنجة المتوسط" يرفع رقم معاملاته لما يفوق 3 مليارات درهم في 9 أشهر فقط    المغرب يرفع حصته من سمك أبو سيف في شمال الأطلسي وسمك التونة    دولة بنما تقطع علاقاتها مع جمهورية الوهم وانتصار جديد للدبلوماسية المغربية    قوات الأمن الأردنية تعلن قتل شخص بعد إطلاقه النار في محيط السفارة الإسرائيلية    المغرب يعزز دوره القيادي عالميا في مكافحة الإرهاب بفضل خبرة وكفاءة أجهزته الأمنية والاستخباراتية    هزة ارضية تضرب نواحي إقليم الحسيمة    لقجع وبوريطة يؤكدان "التزام" وزارتهما بتنزيل تفعيل الطابع الرسمي للغة الأمازيغية بالمالية والخارجية    المخرج المغربي الإدريسي يعتلي منصة التتويج في اختتام مهرجان أجيال السينمائي    حفل يكرم الفنان الراحل حسن ميكري بالدار البيضاء    كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة    الطيب حمضي: الأنفلونزا الموسمية ليست مرضا مرعبا إلا أن الإصابة بها قد تكون خطيرة للغاية    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



وفاءاً لمدرستي العمومية الحبيبة: حكاية ابن مدرسة
نشر في هسبريس يوم 05 - 12 - 2016

- Loyalty to my dearest public school: a tale of a school boy
-Loyauté envers ma plus chère école publique: conte d'un garcon d'école
- Lealtad a mi querida escuela pública: una historia de un niño escolar
مع شاي الصباح في يوم يبدو غير عاديٍّ لشدّة برودته وجوّه العام حيث تلبّدت السماء بالغيوم، وبدت زخّات المطر كخيوطٍ محبوكةٍ تتكسّر على زجاجِ نافدةِ المقهى تارةً بعد الأخرى محدِثَةً أصواتاً عجيبة وكأنّ أحداً يصفع الزجاج بقوّة. جلست أصغي لصديقي الذي يبدو أنّ الغربة أثّرت فيه أكثر من ذي قبل. طلب مني صديقي إبراهيم أن آخذ النقاط الرئيسية وهو يحكي بكلماتٍ تختلطُ أحياناً بحشرجةٍ في صوته المبحوح، فيرتشف الشاي الساخن فوق العادة من كأسه تارةً بعد الأخرى وهو يحملق في عينيّ وكأنه يستفسر إذا ما كنت قد فهمت ما يقصد أو اكتملت عندي الصورة كما يريد أن ينقشها هو في مخيّلتي، فشعرت أنه لا يُحِبُّ أن أستوقِفه لئلّا أقطع عنه مُتعته بلوعةِ الحكاية ومرارةِ النوستالجيا الممزوجة بعبقِ الجوِّ الممطرِالغائم في هذا المقهى البارد وشبه الخالي إلا منّا نحن الاثنين وآهاتِ أمهاتِ الجنِّ في زواياه المظلمةِ المخيفة. وبين الفينة والأخرى يتدخل العامل الهندي بالمقهى سائلاً هل الشاي لازال سخناً، فيجيبه إبراهيم بابتسامته المعهودة مطأطئاً برأسه وأنا أقرأ أفكاره وكأنّه يقول:"عشنا حتى شفنا هندياً يحضّر شاياً مغربياً وفي مدينة خليجية!" إنه بالفعل شايٌ بالاسم فقط يفتقد لأبسط طقوس الصينية والبراد والجلسة المعهودة في المغرب.
أما وقد اكتملت لدي النصوص واكتملت لديكم صورة الجلسة والمكان والزمان، فدعونا نصغي لحكاية إبراهيم، وأعتذر عن الإطالة أو النسيان أو التقصير في إيصال المعلومة أو الصورة كما يرغبها هو:
التفتَ إبراهيم يمنةً ثم يسرة ونظر إلي بنظراتٍ أحسستُ أنّها تجاوزتني لتلامس جميع أطرافِ المقهى خلفي وكأنه يريد أن يسمع العالم أجمع وقال بصوت مبحوح:
"لا ولن تترك مخيلتي صورُ مدرستي بكل تفاصيلها، برونقها المتواضع، وشكلها الهندسي الصيني، وبسقفها المكسوّ بالقرميد الرماديّ كي لا تتجمع عليه المياه ولا الجليد، والمساميرِ الكبيرة (وكأنّ عليها طرابيش فولاذية)، وببابها الأخضر الصامد أمام الأمطار والرياح العاتية، بشرفتها الصغيرة التي كانت تجمعنا في فترةِ الاستراحة هروباً من الأمطارِ الغزيرة والبرد القارص حيث نحسّ بالدفءِ ونحن مكدّسون ننتظر دقّاتِ الجرسِ التي ترتفع معها دقّات قلوبنا الصغيرة خاصةً إذا كان عندنا اختبار أو نشاطُ يستدعي الحفظ ثم السرد أمام الجميع. نعم لازالت في مخيلتي صورةُ السّاحةِ الكبيرة التي يكسوها الترابُ الأحمرُ الصّلب، والتي أصبحت فيها بعض البقعِ لامعةً كالمرايا لكثرة ركوضنا عليها، وبعض الحصى الصغيرة التي كنّا نُطالَبُ أحياناً بجمعها كنشاطٍ اجتماعيّ وكعملٍ جماعيّ لتنظيف أرضيّة الملعبِ الصّغير، ويحيط بها جدارٌ قصيرٌ تتوسّطهُ بوّابةٌ بلا أبواب مطلّة على الطريق الثانوية الصغيرة والتي كانت محطَّ أنظارنا لأنها من بعض منجزات الاستعمار الفرنسي، تربِط قريَتَنا الصّغيرة بأطرافِ المدينةِ الكبيرةِ المخيفة. وبالفعل كنّا في كلّ يوم نلمحُ من بعيدٍ أطراف المدينةِ وهي تزحف جنوباً باتجاه قريتِنا وتبدو تلكَ الأطرافُ البيضاءُ الضّخمة كالتّنينِ الضّخم الذي سيلهف يوماً ما كلّ ما يعترضُ طريقَهُ من أخضر ويابس. وفعلاً، ما هي إلا سنواتٌ تبدو قليلة حتى تجاوز رأس التّنين قريتنا الصغيرة لتَستقِرّ في وَسط أحشائه تاركةً ورائَها جرحاً عميقاً مَزّقَ هدوءَ الليلِ الذي كان يُرخي سُدولَه على حقولها الخضراءِ اليافعة، وكانتِ الأمّهاتُ والأطفالُ سعداءَ وهم يهشّون على العجول كي تعود إلى مراكِضِها عند الغروب، يَنتشونَ بفرحةِ انتهاءِ يومٍ احْمَرّت فيه السماء مودّعةً شَمسَهُ عند الغروب، فبَدَتْ فيه الشّمس وكأنّها جمرةٌ ضَخْمةٌ تنطفئُ جوانبها بكلِّ هُدوءٍ وبُطءٍ وهي تنغمِسُ في أعماقِ البَحرِ الأطلسيّ الذي اختلطت زرقته بحمرة لامعة ومتلاطمة، والنساءُ والأطفالُ يَرَونَها بعيونٍ مُوَدِّعَةٍ ومتفائلةٍ في آنٍ واحد على أملِ بُزوغِها مرّةً أخرى في الغد بعد أن داعبت أنامل النوم أجفان التعساء والسعداء سوية. نعم طَمَسَتِ المدينة معالِم قريتي بين متفائلٍ لصَفوِ العيشِ ونمطِ الحياةِ المُعَلّبِ الجديدِ بالمدينة، وبين مُتشّبثٍ بماضي القريةِ وتراثِها الذي تدحرج ليستقِرّ في عمقِ الذّكرياتِ والتاريخ. وبين تِلكما الفئتينِ بَدَتْ ملامح جيلٍ ممسوخٍ لا ينتمي لهؤلاء ولا لهؤلاء، جيلٍ قليل الحياء بدت آثارُ التخدير والتّكبيلِ من طرفِ الحضارةِ المعاصرة والحداثة على معصمه، وطريقة قص شعره المقززة، فنَبَذَ ملامحَ وآثارَ حياةِ الأجدادِ والتراثَ وراء ظهرِه ليرسم بوشم مقزز صورا وأحرف وعبارات على ذراعيه لتدلك ببساطة على بلادته وغبائه، مزق سراويله لتظهر ركبتيه وحتى جزءا من مؤخرته، ووضع حلقة في أذنه، وغير من نطق بعض أحرفه فارتخت "التاء" لديه محاولا تقليد التائهين في الغرب وهو ساخطٌ على وضعيته حيث لم يتقن الدراسة ولا بحث عن حرفة أو عمل يكتسب منها قوته ويعين أبواه اللذان ربياه صغيرا، ليصبح كالغراب الذي أراد أن يقلّد مِشيَةَ الحمامة."
تَنَهّدَ إبراهيمُ مرّةً أخرى، تنهيدةً كِدتُ أسمع، بل أرى أعماقها وتابع القول:
"لم تكن مدرستي سوى حُجرتينِ كبيرتينِ في أسفل هضبةٍ منخفضةٍ وَسط الحقول. وما أن تصعدَ الطرفَ الآخرَ من الهضبة حتى ترى المحيطَ الأطلسي بِزُرقَتِهِ الخلّابة وأمواجِهِ البيضاء العاتية، والبواخرَ الضّخمةَ تمخر الأمواج العباب في أعماقه. مدرسةٌ كانت تبدو في أعيننا ضخمةً وعالية (ربّما لعدم وجود مبانٍ شاهقةٍ حولها آنَذاك، أو ربّما لِصِغَرِ حجمنا نحن آنذاك). غَيرَ أنّنا جَميعاً لن ننسى جمال الهدوءِ السّائِدِ في جميعِ أرجاءِ القرية، جمال لطالما ينكسرُ فجأة إمّا بصِياحِ الدّيوك أوأصواتِ الطيورِ المختلفة (التي كنا نرى أصنافها المهاجرةَ مع كلّ فصل) أو أزيزِ النّحلِ على الأزهارِ العاليةِ المختلفة المترامية على أطراف طريقنا الملتوية، بَلْ وكنّا نشاهدُ حتى العصافير وهي تغذّي صغارها.
رجوعُنا إلى البيتِ عبر الطريقِ الملتوية الطويلة بين الحقول كان له وقعٌ خاصٌّ لأننا كنّا نشهدُ نموَّ الحقولِ والنباتاتِ والأغراس من أوّلِ يومٍ يرمي الفلاحون فيه البذور إلى حين نضج محاصيلها. زمنٌ لم يكن هؤلاء يعتمدون فيه على النّشرةِ الجَوّية ولا على المذياع لمعرفة أحوال الطقس، بل لهم حِسْبةٌ خاصّة يعرفون بها مفاصلَ الزّمنِ ودورانَ فصولِ السّنة فيستعدون لكلِّ فَصْلٍ بكلّ التفاصيل. زمنٌ كانت تَجودُ فيه السماءُ بأمطارِها بكلّ سخاءٍ لتجود الأرضُ بدورِها بكلّ ما حباها الله تعالى من خيراتٍ للإنسِ والطيرِ وكلِّ حشرة ودَابّة. زمنٌ كان الفَرْدُ فيه على نيّتِه وعلى فِطْرَتِهِ مرتبطاً بمَسجدِ القرية، يؤتي الفقيرَ والمحتاجَ مما آتاه الله كحقٍّ للسائلِ والمحروم، ولم يَمْنَعْهُ وَرَعُه من الاحتفالِ بموسمِ الحصادِ أو الصّيف وجمالية "التبوريدة" تحت طلقاتِ البنادقِ العتيقة وزغاريدِ النساءِ وزغاريدِ "براريدِ الشّاي" المُنَعنعِ أيضاً تحت أهازيج الفرق الفلكلورية الخلابة.
ونحن في طريقِنا إلى البيت، لم يكن يَمْنَعُنا الرّكضُ أحياناً من مناقشة ما جرى في الفصل أو مناقشة ما هو آتٍ، بل كثيراً ما كنّا نحفظ أشياءَ كثيرة ونسردها على بعضنا البعض. وبدون شكّ، فقد ساهم هدوءُ الطبيعةِ وجمالُها وألوانُها في خلقِ صفاءٍ ذهنيٍّ لا يشوبه رنين الهواتف النقّالة ولا الحاسوب الآلي. صفاءُ القلبِ والذهنِ هذا أنجَبَ جيلاً عرف معنى طعمِ الحياةِ والإتقانِ والتفنّنِ في حلِّ الواجباتِ والإبداعِ في التّعبيرِ بكلا اللّغتين العربيّة والفرنسيّة. جيل لم يعرف بيع البطاطس المقلية (Chips) أمام المدرسة ولا المعلبات أو المعجنات التي تلتوي معها الأمعاء. جيل تربى على خبز الشعير و"الزبدة البلدية" وكل شيء طبيعي وطازج.
تلكم مقتطفاتٌ وجيزة من صورٍ كثيرةٍ مزدحمةٍ في مخيّلتي لمدرستي الصّغيرةِ بحجرتيها الاثنتين، الكبيرةِ في عطائها وإبداعها وحُسْنِ تربيتها لنا. مدرسةٌ كان تعليم مكارِمِ الأخلاقِ فيها يعلو كلَّ أركانِها، مدرسةٌ كان المعلّمُ فيها هو المُرَبّي الحقيقي وهو صاحبُ الشّأنِ الذي لطالما وافقه الآباءُ حتى وإن عاقَبَنا. معلمٌ لم يكن يحمل معه عِبئَ الحياةِ إلى الفصل، ولا خيبةَ الأملِ ولا تعاسةَ الحياةِ التي قد تعجز ملامح وجهِهِ على إخفائها، بل لم يكن ليأتي إلى الفصل وهو يجرُّ أذيالَ تعقيداتِ وتبعاتِ الحياةِ المعاشية من ديونٍ وهمٍّ وتفكيرٍ في فاتورة الماءِ والكهرباء وثمنِ كِراءِ البيت الذي أصبحت الزيارات المخيفة لصاحبه تَقُضُّ مضْجَعَه، بل تُؤرِقُهُ لأنّ الأيامَ تجري بسرعة وكأنها تسابق خطاه، فما يُنهي الشّهرَ حتى تُطلّ عليه أواخرُ أيامِ الشّهرِ الآخر برأسها مُذكِرَةً إيّاه بدفعٍ الإيجار، بل إنّه أصبح يَهابُ قرعَ صاحبِ الملكِ للباب فتدفع دقّاتُهُ بقلبِهِ إلى حُنجُرَتِهِ إذْ لا حِيلَةَ له وهو منهمكٌ في التفكيرِ بحاجيّاتِ أسرته ومَطالبِ صِغارهِ المتأخرة. لم يكن معلّمنا من هذا الصّنف لأنّ الرّحمَةَ والرَّأفة كانتا تَسُودَانِ بين الناس فكان المحسنون من أهل القرية يفيضون عليه من كل خيرات ما يحصدونه عرفانا لما يقدمه من علم. بل إنّ "البركة" كانت في المالِ والوقتِ والبنينَ والبنات (كما كان جدي يتلوها على مسامعي دوماً وأنا ألعب وألهو بين يديه).
لم تفارِقِ الابتسامة مُحيّا معلّمنا يوماً - رغم أنني لا أقدر أن أجزُمَ بأنّ معلمي لم تكن لديه مشاكلُ على الإطلاق-، بل ربّما عِفّتُهُ ونَخوَتُهُ وحُسنُ خُلُقُهِ وإحساسُهُ بمسؤوليتِهِ اتجاهنا كانت تدفعُهُ إلى التّرفُّعِ عن تلك القضايا أو إخفاءِ تلك المِحَن، فجعلتْهُ يُتقِنُ كيفية إخفائِها علينا ويُعوِّضُها بفيضٍ من الحنانِ والمحبّةِ والبهجةِ والنّكتةِ الخَفيفة وهو يُداعبُنا قبل الشّروع في درسِ اليوم. حنانُهُ هذا كان يفرِضُ علينا احترامَهُ لدرجةِ الهروب من طريقِه مَخافَةَ أن نُلاقِيَه. قد يقول قائل:"كنتم تهربون من طريقه خوفاً من عقوبته." أقول نعم، لأنّ احترامنا له كان ممزوجاً بالخوف أيضاً، فلم يكن ليُفارِقنا يوماً ذلك الخوفُ مِنَ العُقوبة، التي لولاها لتساوى المعلّمُ مع الطّالب، ولَأصْبَحَتْ قِلّةُ الحَياءِ والتّهوّر سَيِّدا الميدان كما نرى اليوم داخل وخارج المدرسة، وَصَلَتْ إلى التّعالي على المدرِّس إلى درجةِ العُنفِ اللفظي والجسدي!!!.
نعم استقرّت قريتنا في أحشاءِ ذلك التّنينِ المخيف ونظراً لبراءَةِ أهلِ قريتنا وعفويّتِهِم الفِطريّة، لم نكن كُلّنا نعلم على أنه كانت هناك مؤشّراتٍ سَبَقت تلك "الوجبةَ الدّسِمَة". فكثيراً ما رأينا سياراتِ المهندسين على اختلاف أنواعها تَخْتَرِقُ قريتنا وملابِسُ من فيها غريبة، بل كنا نندهشُ من آلاتهم ولا نستطيعُ حتى الاقترابَ منهم مَخافَةَ أن يكونوا من رجالاتِ "المخزن". ولا أُخفيكم فإن للمخزن في قريتنا مهابةً عظيمة، إذ يستمتعُ أهلُهُ بسلطةٍ واحترام قد تصل إلى القدسيّة. ف"لمُقدّم" مثلاً يمكنه أن يَحُلّ مشكلةً ما في لمحِ البصر لدرجةِ أنني كنت أعتقدُ أنّ لديه عصا سحريّة. فالكلّ يهابُهُ ويَحترِمُهُ، بل ويخاف منه إذ لطالما سمعت أبي يقول: "والله لو جاه لمقدم وتشوف!." هذا الكلام عَزَّزَ لديّ اعتقادي بأن "لمقدم" خارجٌ عن إطارِ البشرية لدرجةِ أنني لم أكن أتصوّرُ أنّهُ مثلنا "يأكل الطعام ويمشي في الأسواق!" عندما رأيته يأكُلُ معَ جماعةٍ في أحدِ الأعراسِ، يا جماعة، لم أَكَدْ أصدِّق ما أرى!!!. ولا أخفيكم فقد كانت صدمَةً لي في ذلك اليوم نفسه لأنني لم أكن أظنُّ أنني سأصادف رؤية "لمقدم" و"طبيب القرية" بلباسه الأبيض المخيف. لم أكن أتصوّرُ بأنّ الطبيبَ هو أيضا يُجالس الناس لأنّ اسمه كان دائماً مقروناً عندي بشبحِ الموتِ، خاصّةً وأنّ صديقي عبد الرحيم تُوُفِّيَ بحرارةٍ زائدةٍ عندَهُ في مستوصفِ القرية. وقد ظلَّ شَبَحُ عبد الرحيم يَحُوم في القريةِ وفي المدرسة لشهور عدة إذْ تَرَكَ المُعلّمُ مقعدَه فارغاً في الفصل حتى آخرِ السنة، ولستُ أدري لماذا، لكِنّي كنت أَتَخيّلُ ملامِحَهُ كلّما التَفَتُّ إلى طاولتِه وكأنّه مَعَنا. كنت أتساءل بعقلي البريء لماذا لم يَقدِرْ أحدٌ من أهلِ قريتنا على قهر الموت! وعرفت بعد حين أنّ الله على كلّ شيءٍ قدير وأنّ بعدَ الموتِ حياةً في الجنّة ستجمعني بصديقِ طفولًتِي مرّةً أخرى.
بالإضافة إلى المهندسين كنّا أحياناً نرى طائِرةَ الهيليكوبتر تحومُ فوقَ قريتِنا ولم نكن نعلمُ أنّها ربما تقوم بتصويرِ مُخطّطاتِ البناءِ لصالحِ شَركاتٍ كُبرى. ومن المؤشّراتِ التي غفل عنها الكثير من أهل قريتي أنّ الحكومة تجاوزت قريتنا بكيلومترات لتضع الحَجَرَ الأساسَ لبناءِ حيٍّ صناعي، لم نكن ندري أن ذلك سيجعل من قريتنا لُقمَةً سائغة في فَمِ التّنين القادر -بأنيابِهِ الضّخمةِ المُخيفة- على سحقِ أضلُعِ كلِّ مُتمرّد. سمعت حينها شيخاً كبيراً في السِّنِ يقول لرفقائِه أمام الحانوت الصغير في القرية، ورأسُهُ كأنما يختبئُ بِجِلبابِهِ الصّوفيِّ الرَّمادِيّ اتّقَاءَ زمهرير الرِّياحِ الباردة:"أُكِلتُ يومَ أُكِلَ الثَّورُ الأبيض." لم يَفْهَمْهُ أحدٌ آنذاك، لكنهم وقفوا على الحقيقة عندما كَثُرَ مجيءُ السماسرة وهم يساومون أهلَ الأراضي بأثمنةٍ ظَلَّ يسيل لها لُعابُ من لم يَسمَعْ بتلك الأرقام من قبل، وسُرعان ما بيعت الأراضي وغَصَّ المكانُ بالمباني الشاهقة وانتشر البناءُ بسرعةٍ فائقةٍ غير معتادة وكأنّها هشيمُ نارٍ شّبَّتْ في اليابس. اغتنى من كان له ملكٌ كبير، وترشَّحَ أصحابُ الجاهِ للانتخابات ونجحوا (كالعادة) وبدونِ مُنَازع، وصعدَ أحدُهُم إلى البرلمان ليظَلَّ قابعاً به وكأنَّ على رأسه الطير، وصعدَ آخرٌ ليصبح رئيسَ الجماعةِ وغَيَّرَ من هِندامِه، لكنه لم يستطع إلى الآن أن يُغَيِّرَ من مِشيَتَه المعروفة لدى أهل القبيلة آنفاً، وسِيق بالذين لا حول ولا قوة لهم إلى شققٍ صغيرة لم يعتادوا على العيش فيها، وأصبحَ للكلمات النابية التي يسمعونها من النوافذ وَقْعٌ على قلوبهم إذ تخدِشُ رِداءَ الحياء الذي كانوا يرتدونه في القرية. لم يعد صوت الديك يوقِظُهُم في الصباح الباكر كالمعتاد بل أصبحت عبارات المتسوّلين تقرعُ مسامعهم عند تنفس الصباح:"وا من عدها خبيز كارم الله يرحم الوالدين!."
تغيَّرَت ملامح وشكل المدارس ولم نكن لنَتَصوَّرَ في يومٍ من الأيام بأنّ هناك صِنفين من المدارس في المدينة: مدارس حكومية، ومدارس خاصة. اندهش أبناءُ قريتنا وهم يَرَون تلك الفوارق الاجتماعية حتى في حقِّ التعليم. واندهشوا أيضاً لرؤية كَثْرَةِ التلاميذ في الفصل الواحد وكثرةِ المقررات والكتب والحقائب المدرسية الكبيرة التي قوَّسَت ظهر الصبيان في سِنٍّ مُبكِّر، وكثرةِ الباعةِ في الشارع أمام المدرسة يلغطون بأصوات عالية ويتبادلون كلماتٍ دنيئةَ أحياناً، بل يَسُبُّ بعضهم البعض إذا زاحمه أحد متناسين أن الأرزاق بيد الله، فيكثر بذلك اللغط الذي يخترق نوافذ المدارس (المهلهلة أحياناً) والضوضاءِ والصَّخَبِ المُصَاحَبِ بِقرعِ الطُّبول عند مرور موكب "فطورِعروسة" أو "ختانة" أحياناً تدفعُ بالمُدَرِّسِ أو المُدَرِّسةِ بأن تُطِلَّ برأسها من النافذة لتخرجَ من جوِّ التَّدريسِ إلى جوِّ الطَّربِ ولو للحظةٍ وجيزة ومعها الفضوليون من التلاميذ والتلميذات أيضاً!!!"
اضطُرِرْتُ أن أوقِفَ صديقي إبراهيم لأسأله عمَّا يجولُ بخاطرِهِ اتجاه هذا المستقبل المخيف للمدرسة العمومية فأجابني بكل صراحةٍ قائلاً:
"لقد سُلِبَتْ منَّا جمالية القرية فأتمنى ألا يُسْلَبَ منَّا حقُّ التَّعليم أو حقُّ التَّطبيب المجاني. فقد دافع أجدادنا عن استقلالِ هذا البلدِ وأجمعوا على أحقِّيةِ التعليمِ المجانيِّ للجميع، وعلى أن تبقى المدرسةُ العموميةُ المغربية رمزاً للفخرِ والعزَّة ووحدةِ الوطن.
فإِنِ استطاع هذا التِّنينُ المخيفُ أن يلتهم معالِمَ قريتِنا، فإنَّه لن يستطيع أن يلتهم صِدقَ هويَّتنا ووطنيَّتَنا وحُبَّنا لملِكِنا ولدينِنا وثقافتِنا. إنَّ ما نخشاه هو تغلغُلُ السماسرة والمتنطعين في شؤونِ التَّعليمِ ليصبح سلعةً للمضاربة كباقي السلع، سوقٌ يكون فيه البقاءُ للأقوى ولِ"صاحب الشكارة" لا العلم. طبقةٌ تدعو إلى انتشارِ المدارسِ الخاصَّة بمقرراتٍ مُهجَّنة الغرضُ منها طمسُ معالمِ الدِّين والهوية والاختلافِ اللغوي الغنيِّ لدى المغاربة. طبقةٌ لا يُهِمُّها سوى الرِّبحُ المفرط ولو على حسابِ الضعفاء. طبقةٌ لم تشارِكِ الفقراء لقمتهم ولا جمعهم ولا أفراحهم ولا أحزانهم إلا أيامَ الانتخابات كي تسلِبَ إرادتهم وتقتلَ فحولَتَهُم ببطء. طبقةٌ تكره المدرسة العمومية وتصوِّرها بأبشعِ الصُّور بينما تُنَمِّقُ صورةَ المدرسةِ الخاصَّة كما تُنمِّق جدرانَها وحدائِقَها الخلابة وأشكالَها الهندسيَّة الغريبة على المجتمع."
قلت لصديقي إبراهيم وأنا على وشك أن أودِّعَه ولم أدري أننا قد شَرِبنا كلَّ ما في البرَّادِ من شاي إلى آخر قطرة تحت زخات المطر:
يا أخي لا تحزن فإنَّ بعد كلِّ ضيقٍ فَرَجَا. ألم تعلم أنَّ لهذا الوطن ملكٌ عرف بشدَّةِ حُبِّهِ لهذه الطبقةِ الفقيرة من هذا الوطن؟ ألم تعلم أنَّ همَّهُ هو إعادةُ المجدِ للتعليمِ وللمدرسةِ العمومية أيضاً؟ سوف يظَّلُ الشرفاءُ من هذا الوطن يدافعون عن المدرسةِ العمومية حتى تستعيد مجدَها. مدرسةٌ يكون فيها التعليم مجانيَّاً لكلِّ أبناءِ الوطن وتجمع بين جدرانِ سُورِها وحُجُراتِها وساحَتِها أبناءَ وبناتِ هذا الوطن باختلافِ ألوانِهم وطبقاتِ آبائِهم واختلافِ رصيدِهِم اللُّغوي والتُّراثي والفنِّي والأدبي. مدرسةٌ حديثة تُساير العصرَبمُعدَّاتِها وأدواتِ التَّعليم فيها وبمناهجها ومحافِظةٌ في آنٍ واحدٍ على هندَسَتِها الإسلامية وموروثِها الثَّقافي واللغوي. مدرسة يتعلم فيها التلاميذ الفكر النقدي (Critical thinking) ويكون فيها المعلم مجرد مراقب (Monitor) أحيانا بدلا من محاضر (Lecturer) في كل الأوقات. مدرسةٌ تكون فيها الأخلاقُ الحسنة والتَّسامُحُ والتَّسابُقُ في الإحسانِ وفِعْلِ الخيرات والذَّودِ عن حوزة العقيدة والوطن هي الركائزُ الأساسيَّةُ لبناءِ جيلٍ مُسَلَّحٍ بالعلمِ النافعِ والمعرفةِ الحَقَّة، جيلٍ قادِرٍ على سَدِّ حاجيات سوق الشُّغلِ ومُتماشٍ مع متطلباتِ العصرِ الحديث من معرفةٍ بالتكنولوجيا وجميعِ أطيافِ العلومِ الأخرى، دون أَنْ يُنسِيَهُ ذلك الفخرَ بمدرسَتِه العمومية وتُراثِهِ الفنيِّ والشعبيِّ بجميعِ ألوانه، والاعتزاز أيضاً برصيدِهِ اللغوي المختلف الذي هو مَحَطُّ إعجابٍ لدى الكثيرِ من المراقبين اللغويين والتربويين. وأخيراً مدرسةٌ عموميةٌ حديثةٌ ومحافظة مبنِيَّةٌ على مُقارَبَةٍ تشارُكِيَّة تُساهِمُ فيها الجماعاتُ الحضارية والشَّركاتُ الكبرى والمُحسِنون ومُحِبُّو فِعلِ الخيرات للرَّفعِ من مستوى التَّعليمِ فيها، وتعيدُ الاعتبار للمُعَلِّمِ كي يُصبِحَ مَضْرَبَ المَثَلِ لِمكانتِهِ في المجتمع (ولنا في سنغافورة واليابان وماليزيا خيرُ مِثالٍ على ذلك). مدرسةٌ تَسْتَثمِرُ فيها الدَّولةُ من أجلِ بناءِ مجتمعٍ له أخلاقٌ سامية، مجتمعٌ ينبذُ المخدِّراتِ والسلوكَ المُنحَلَّ والمُنحَرِف. مدرسة تغذي مهارة التفاعل الثقافي (Inter-cultural Competence) لدى الأطفال وتعلمهم أهمية التعايش مع الثقافات الأخرى دون التخلي عن هويتهم وثقافتهم الأم. مدرسةٌ تظَّلُ راسِخَةً في مُخيِّلَةِ أبناءِ الشَّعبِ إلى الأبد كما رأينا مع صديقي إبراهيم.
استوقفني إبراهيم بسؤال غريب قائلا: "هل تتذكر بعضا من النصوص التي كنا نقرأها؟"
عرجت على سؤاله بسرعة لأعود إلى صلب الموضوع وقلت له بأنني لازلت أذكر مواضيع كثيرة وخاصة تلك التي كانت على شكل حكم ك"المكر السيئ لا يحيق إلا بأهله"، و"الدب المغرور بنفسه" أو "وافق شن طبقة"، أو "الفلاح والعفريت". غير أن مدننا الحديثة جعلت العفريت أو إن شئت العفاريت ولله الحمد تنسى الفلاح المسكين لتلاحق السياسيين والبرلمانيين والرأسماليين في أيامنا هذه لأن تلك الفئات تزاحمهم في مهامهم!!!
أعود يا صديقي وأقول، مدرسةٌ تكونُ واجهةُ سورِها مُزدهيةً بألوانِ الطبيعة وباطِنُها رحمة على تلاميذها الأبرياء. مدرسةٌ تجمعُ ساحَتُها بين الصَّبيِّ الفقيرِ والغني، وبين المتفوِّقِ في الدِّراسةِ وغَيْرِه، ساحةٌ تعطي الفرصَةَ للجميع كي يمرحوا بكل حرية وعفوية وطلاقة، بعيداً عن عصا الحارسِ العام أو المدير. مدرسة بمناهج قوية ومقررات تساير العصر وتعتز في نفس الوقت بفضل علماء المسلمين على الحضارات الأخرى من علوم واختراعات. مدرسةٌ جميلةٌ بجميع المقاييس، يقومُ الأطفالُ فيها بنظافةِ حُجُراتِها وساحَتِها والحفاظِ عليها كعملٍ جماعي. مدرسةٌ يَغْرُسُ في حديقَتِها وممرَّاتِها الأطفال هم بأنفُسٍهٍم الورودَ والأشجارَ والنباتاتِ ويعتنون بها لتغْرِسَ في نفوسِهم فكرةَ المحافظة على ممتلكاتِ الوطن، مدرسةٌ تُعَلَّقُ فيها ما تجودُ بِهِ قريحةُ الأطفالِ من لوحاتٍ إبداعية وبشكلٍ تنافسِيٍّ يُشجِّعُ على العطاءِ والفخرِ بموروثنا الثقافي والفني والإبداعي. مدرسةٌ يراعى فيها القُربُ ومقاييسُ السَّلامَةِ في البوادي والحضر. مدرسةٌ يُخَصِّصُ لها الإعلامُ إذاعةً خاصة تسمى "إذاعة المدارس" تنقل تلك الصورَ المُشرِقَةَ للإبداعِ الفني والأدبي والعلمي من جميعِ بِقاع المغرب، وتَفُكُّ العُزلَةَ عنِ القرى النائية وتنقل هموم التلاميذ الذين هم في القرى المَنسِيَّة، وتربِطُ أبناءَ المغرب بأقرانهم من أبناء الجالية المغربية بالخارج من أجل تعزيزِ أواصرِ المَحبَّةِ والأُخوَّةِ والتبادُلِ المَعرِفِيِّ عبرَ القارَّاتِ والخروجِ عن مفهومِ التقوقعِ الضيِّقِ وعدم الانفتاح على الغير. مدرسةٌ تُشَجِّعُ التبادلَ الثقافي من خلال البرامجِ والمخيَّماتِ الصيفية التي تسمح لأبناءِ القرى النائِيةِ بالانخراطِ وبشكلٍ مُشجِّعٍ وبلا كُلفةٍ على الآباءِ في برامج تنمي من أفكارِهِم، وما العيبُ إن تَمَّ ذلك في إطار تبادلٍ مع مدرسةٍ للجالية المغربية بالخارج وإعطاءِ الفرصة لأبناءِ الفقراء أيضاً للاطلاع على العالم الآخر. هل تَصَوَّرْتُم يوماً ما كيفَ ستكونُ نفسية ذلك التلميذِ المِسكِين وهو يَعودُ إلى رفقائه بمدرسته من مُخَيَّمِ في بَلدٍ آخر ولو لثلاثة أسابيع؟
عانقني صديقي إبراهيم للمرةِ الثالثة (على ما أظن) دون أن يَشْعُر نظراً لحديثنا المُطوَّلِ المُشوِّقِ وقلتُ له مرَّةً أخرى وأنا أشُدُّ على يَدِهِ التي بدأت تكسوها تجاعيدٌ صلبة لكثرةٍ مُلامَسَتِهِ عبر سنينَ غابرة لمواد كيماوية بالمختبر:
لا تَحزَنْ فإنَّ الفرجَ قريب، والتِّنين لن يزحف قُدُمَاً بعد الآن لأنَّ الهجرة من قرانا سوف تَقِلُّ بعدما ينعم سكانُّها بكلِّ ما يحتاجونه ويدركون أنَّ تنفس الهواءِ النقي قد أصبح بِضاعَةً نادرة في أزِقَّةِ مُدُنٍ مزدحمة أصبح هوائها يَزكُمُ أنوفَ المارَّة. وسننعُمُ بمنظومةٍ تعليمية تُضاهي تلك التي في الأمَمِ المتقدمة لأنه سينخرط في مشروع إصلاحها طاقات فكرية في الداخل والخارج، وهذا مشروع وطني ونحن مِنَّا وفينا شرفاءَ مخلصين ولهم إرادةٌ وعزيمةٌ لازال التاريخ يشهدُ لهم بها. لازال بلدُنا في طَوْرِ النُّموِّ والتطوير، وسيعودُ المجدُ للمدرسةِ العمومية كما كان من قبل، وستكون المدرسةُ العمومية فضاءً لا يجمع التلاميذَ بمختلفِ أطيافِهِم فقط، بل حتى الآباء أنفسهم والمحرومين من التعلم وجمعيات المجتمع المدني، وستفتح أبوابَها في نهايةِ الأسبوعِ والعُطَلِ وفي الفتراتِ المسائية لكلِّ الأنشطةِ التي تَرُومُ إلى خدمة المواطن والوطن في إطارٍ تطوعي وتشاركي وبِعُقودٍ مُلزِمَةٍ تضمن المحافظة على سلامة وحُرمةِ المدرسة بنيوياً وأخلاقياً. مدرسةٌ يتِمُّ فيها إشراكُ عُمدةِ المدينة والسياسي وشَيخِ القبيلة وإمامَ المسجِدِ ورَجُلَ الأمنِ وشرطيَّ المرورِ والعسكريِّ والدَّرَكِيِّ ورجلَ الإطفاءِ ليشارك المُعَلِّمَ في الدَّرسِ ويقومَ بالتوعِيَةِ المباشرة للتلاميذ ويقوم بدعوة التلاميذ لزيارةِ مخفرِ الشَّرطَةِ أو المقرِّ أو الثَكَنَةِ العَسكرِيَّةِ ليقفوا على حقيقةِ أنَّ هؤلاءِ جميعاً هم إخوانُهُم في الدين والوطن والمسؤولية ويُكِنُّونَ لهم المَحَبَّةَ الصَّادقة وأنهم ليسوا أُناساً نزلوا من السماءِ بكسوَتِهم تلك المُتميِّزة، بل هم جميعاً في خندق واحد وخِدمتِنا ويسهرونَ على توفيرِ السَّلامَةِ والرَّاحَةِ والأمنِ لنا جميعا وبدون استثناء. وبذلك يَتَشَبَّعُ أبنائُنا وبناتُنا بأننا كُلُّنا في خندقٍ واحِدٍ للدِّفاعِ عن مُكتَسَباتِ وطنِنا ومقدَّساتِه.
حملَقَ صديقي إبراهيم في عَينَيَّ ثانيةً وتَنَهَّدَ بِعُمقِ وطَأطَأ رأسَهُ مُزيلاً قبَّعتَهُ عن رأسه (على ما يبدو احتراماً لي) وَوَدَّعَني كالعادةِ بابتِسامَتِهِ البريئةِ التي تَحمِلُ أسراراً سَرمَدِيَّة وقال:
"أكيعاون ربي." ...،،،
والله ولي التوفيق،،،
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.