Smart phones use & the phenomenon of violence in educational institutions طرقت الباب ولم تنتظر حتى يؤذن لها لتطل علينا ونحن كالعادة متلملمين حول مائدة الغذاء الدائرية الشكل والقديمة اللون والمظهر، ودفعت بوجهها المكفهر والمتجهم فوق أعناقنا لتسلم على كل واحد منا وهي تضع يدها على رؤوسنا وكأنها تتحسس من منا سيتجاوب مع مشكلتها. ورغم حجم وثقل المشكلة، فإن ذلك لم يمنعها من أن تدفعني جانباً كي تتسلل بيني وبين من هو بجنبي كي تضع لها مكاناً وموطئ قدم حول مائدة الطعام لأنها تعرف أن ذلك من أصولنا وعاداتنا وعلامة راسخة لكرم الضيافة في بلدنا! مدت يدها إلى الطعام بعد البسملة وبصوت عالي لتنهش الخبز واللحم بطريقة تبدو عليها النرفزة والاضطراب. قرّبت لها أختي الخضر والبطاطس والزيتون، لكنها تغاضت عن ذلك لتحتسي شربة ماء عميقة وكأنها تريد أن تطفئ لهيب الغضب الذي يشتعل بداخل أحشائها. ورغم أن الكل يتساءل عن سبب غضبها دون أن يتفوه بسؤال مباشر، بل ظلت عيونهم تحملق في وجهها وطريقتها في الأكل، وتنظر إلى السيدة الجارة العجوز المتواجدة معنا كضيفتنا المعتادة خاصة في يوم السبت كهذا والمعروفة لدى العائلة كلها بجرأتها وعدم اكتراثها لطرح أي سؤال مباشر وبدون حرج. وبالفعل، تفوهت السيدة العجوز بسؤالها وهي تحاول ابتلاع قطعة بطاطس كبيرة دون مبالاة: "مالك غادية تطرطقي. آش عندك؟" يبدو أن السيدة لم تعر السؤال أي اهتمام وفضلت أن تجيب بعد الانتهاء من الأكل معبرة عن ذلك بحركة أصبعها الدائرية ويدها تمسك بطرف قطعة الخبز الأسمر الكبيرة، ولم تزد عن كلمتين وهي تحاول بلع المضغة الكبيرة وشفتيها مبتلتين وتلمعان بالمرق المطبوخ بزيت الزيتون الطبيعي من المعصرة وقالت بصوت مبحوح ناعم وعميق: "وخرشوف هذا !!!". طبعاً الكل يدري بأن لا علاقة لل"خرشوف" بسؤال السيدة، ولكن مادام الكل منهمك في الأكل وانتشال اللحم من العظام ولعق الأصابع من فرط لذة المرق تحت أصوات الرعد وزغاريد الضفادع في حديقة بيتنا الصغيرة الممزوجة بالجو الممطر وصوت زمهرير الرياح كالصفير من خلال الشقوق والثقب في النوافذ وكذلك أسلاك الكهرباء الخارجية المتشابكة، فلا بأس من الانتظار حتى ينتهي الجميع رغم أن لذة الطعام والجو العائلي المفعم بالمحبة الصادقة والأخوة والدفء يبدو أنه قلل من حدة غضبها ولو لهنيهة. تعالت أصواتنا وقد انتفخت بطوننا وأحسسنا بزيادة في الدفء ونحن نردد "الحمد لله" و"اللهم لك الحمد"، لتعلن أمي عن انتهاء الوجبة الشهية وحضور الفواكه والشاي بالنعناع معاً لأن البعض منا يفضل ذلك. رأيت السيدة وهي راجعة من الحنفية وتقوم بتنشيف يديها وفمها وعلى وشك أن ترمي بالفوطة على وجه أختي وهي تقول واقفة، ولون جلبابها البرتقالي يلمع: "أيوا شتو البرهوش ولدي؟" قلنا كلنا وبصوت واحد وكأننا تلاميذ نجباء في مدرسة! "ما لو عاود تاني؟ !!!" ردت مسرعة وهي تربط غطاء شعرها فوق رأسا وتتأكد من أن حلقتي أذنيها الطويلتين الذهبيتين متدليتين إلى الخارج وبشكل بارز ويتململان بقوة كالعادة كلما تكلمت، وهي تحرص دائماً على ارتدائهما ولا تسأم عن ذكر موضوعهما في كل جلسة لأنهما عربون المحبة التي تجمع بينها وبين زوجها "السي علال"، وكيف أنه ضحى ببيع دراجته النارية واشتراهما لها في مناسبة خطوبتها التي لن ينساها أبداً، وبقي يذهب إلى مقر عمله مشياً على الأقدام لسنين عديدة كتضحية منه لإسعادها، فقالت ردا على سؤالنا: "ما بقى يسمع ما يدنغ، والنهار كامل وهو مع هاد التلفون. آش غاديا ندير، وآش غاديا نعمل. عييت. ...قولوا لي؟". التفتت إلي أختي وهي مستغربة لأنها قبل وجبة الغذاء أثارت موضوع الهواتف الذكية وتأثيرها على المجتمع، وكيف أنها كانت جد معجبة بالطريقة التي تناول بها صديقي إبراهيم الموضوع والذي نشر بإحدى الجرائد. قلت للسيدة المضطربة: "هوني عليك، وسوف تشرح لك أختي الموضوع من أوله إلى آخره، وربما تنفعك بما جادت به قريحة صديقنا إبراهيم، فقد أعطى حلولا وتحليلا للموضوع وبطريقة فريدة من نوعها بالفعل". تركت الجميع يتجاذبون أطراف الحديث وينظرون في قضية ولد جارتنا المسكينة التي كان ولدها بالأمس القريب فتى خلوقاً وهادئا مثل الحمل الوديع، ليتغير فجأة إلى ولد عاصي لأوامر أمه ولا يبالي بما تقول وهي تخشى أن يصبح من أولئك الذين يستخدمون العنف في المدارس. فقد أصبح ولدها متقاعساً عن حل الواجبات وركن إلى ذيل لائحة التلاميذ النجباء بعد أن كان ولداً ذكياً ونشيطاً وكان من الأوائل، فلم نعد نراه يلعب ويركض بالشارع كما كنا نراه، ولم يعد يسابق أقرانه بدراجته المعروفة بألوانها، بل لم يعد يوصل عجين الخبز إلى فرن الحومة نيابة عن أمه كما كنا نراه!!! وباختصار، فقد أصبح حسن هذا شخص ثاني وكأنه لا علاقة له بنا، سوى أنه يلوح بيده الصغيرة كلما لمحناه عند الباب وبعد غياب طويل! ترى ما سبب كل هذا الانزواء؟ وما سبب تقهقر حسن في دراسته؟ وما سبب عصيانه لأمه؟ ومن المسئول عن تدهور مساره الدراسي ووضعيته الغير طبيعية؟ إنه طفل بريء مثل باقي الأطفال، أليس كذلك؟ بلى، وهو كذلك. كل تلك الأسئلة وغيرها قررت أن أطرحها اليوم على صديقي إبراهيم ألذ ينتظرني اللحظة قرب المقهى المهجور... نزع إبراهيم قفازيه وهو يمسح بحذائه على الفرش الخشن عند باب المقهى الخافت الضوء، وهو ينظر إلي مبتسماً ومنتظراً وصولي، ليعانقني وبحرارة كعادته، إذ لا ينافق في محبته لي وقال مازحاً: " إيوا شي رفيسة واعرة هادي اللي عطلاتك!". قلت وأنا أبادله نفس الشعور والابتسامة: " لا والله ولكن خرشوف واعر بسلامتك!". أحسست أنني أثرت غريزة حب إبراهيم اتجاه الخرشوف ووعدني بأنه ذاهب للسوق الأسبوعي لأنه يعلم بأن الموسم هو موسم "الخرشوف والجلبانة". ذهبنا معاً إلى آخر المقهى الشبه مظلم قرب النافذة الصغيرة المطلة على الشارع والتي تجري على خدها قطرات المطر وكأنها دموع منهمرة تحكي عن أحزان دفينة توارت إلى زوايا هذا المقهى المهجور. سحبنا كرسيين وجلسنا حول الطاولة الخشبية الثقيلة وطلبنا براد شاي أخضر بالنعناع كعادتنا لنبدأ حديثنا حول موضوع الهواتف الذكية وعن قصة جارتنا مع ولدها الوحيد. دفع إلي إبراهيم بالجريدة التي تحمل مقاله المطول حول هذا الموضوع، وقال: "خذ بعض الوقت كي تتصفحه قبل أن نتناوله ثانية". وفي حقيقة الأمر، قد شذني العنوان الكبير المثير للجدل: "الآثار السلبية للهواتف الذكية على الأطفال"، وكذلك العناوين الجانبية. ودعوني ألخص لكم ما ورد عن إبراهيم في هذا الصدد وبشكل مقتضب: يقول أخونا إبراهيم، وبإيجاز، "لا يمكن التغاضي عن هذه الظاهرة التي استفحلت في كل المجتمعات، بل لا يمكن لأحد أن ينكر بأن الهواتف الذكية لم تعد من الكماليات، بل أصبحت شبه ضرورة لأنها تلعب دورا كبيرا في الحياة اليومية للأفراد والجماعات، فقد أصبحت وسيلة للتواصل الاجتماعي والترفيه واقتحام عالم الألعاب الخيالية والمعرفة، ونتيجة لذلك، ونتيجة لرخص سعر بعضها أيضاً وكثرة "الماركات" المُقلدة،فقد أصبحت تلك الأجهزة تنتشر بين الكبار والشيوخ وحتى الأطفال والمراهقين وبشكل لافت للنظر. وقد أشارت دراسات في مجال آليات التواصل بأن هناك تزايد في المدة التي يمضيها المستخدمون لتلك الأجهزة على اختلاف أعمارهم. ولا شك أن ذلك يدق ناقوس الخطر من الآثار السلبية التي قد تترتب على هذا الاستخدام، وتبعاً لذلك، فقد ظهر باحثون وجمعيات مدنية تنادي بتقنين ذلك الاستخدام، ومُطالِبة بالتدخل السريع للحد من ظاهرة استخدام تلك الأجهزة بين صغار السن نظراً للتدني الملحوظ في سلوكياتهم ونتائجهم وتحصيلهم في المدارس. الآثار السلبية للهواتف الذكبة على مردودية التلاميذ والطلاب: إنه من المخيف حقاًّ أن نرى ونلمس بأن التأثير السلبي للهواتف الذكية قد تجاوز المجال السلوكي للأطفال سواء في البيت أو الشارع ليصل إلى درجة العنف وينعكس سلباً على مردوديتهم وتحصيلهم المعرفي وتصرفاتهم داخل المدارس والمؤسسات التربوية والتعليمية. وكما يقول أحد الباحثين، فإن دراسات مختلفة تفيد بأن نسبة عالية من الأطفال يمتلكون أجهزة ذكية مستقلون عن آبائهم حيث ذكرت مؤسسة دوكمو اليابانية المتخصصة بهذا النوع من الدراسات أنها أجرت دراسة على خمس دول وكانت نتيجتها أن 70% من الأطفال تتراوح أعمارهم بين 8 و18 عاما ممن شملتهم الدراسة يمتلكون هواتف نقالة مستقلة عن ذويهم"(عن محمد سلطان الشهري بتصرف).ولا شك أن هذا يبعث في نفوس آباء وأولياء أمور التلاميذ والطلاب والمربون القلق أو الخوف خاصة وأنهم يرون ويعيشون معانات مع أبنائهم وبناتهم وهم يحاولون إعادتهم إلى الصواب. وهكذا نلاحظ أن جمعيات كثيرة ومنها جمعيات آباء وأولياء التلاميذ تطالب وتأكد على أنه ينبغي أن يكون هناك خطوات جادة في احتواء هذه الظاهرة الخطيرة التي تفشت في المجتمع وتكاد تودي بمستقبل صغارنا. وقد ورد في أحد البحوث أيضاً بأن الخبير التربوي في مجال الأطفال والمراهقين د. يزن عبده يقول بأن للاستخدام المفرط للهواتف الذكية آثارا سلبية على نواحٍ أربع في نمو الأبناء وهي كالتالي: آثار سلبية على نمو الأطفال الجسدي، آثار سلبية على نموهم الذهني والانفعالي (العاطفي)، وآثار سلبية على نموهم الاجتماعي. وبين الباحث بأن الاعتناء بالنمو التفكيري التخيُّلي عند الطفل في سن الخامسة أو المراحل الأولى وحتى قبل دخوله المدرسة هي في غاية الأهمية كونه يُعتبر "المرحلة الثانية بعد التفكير الحسي ومرحلة تسبق وصول الطفل الى التفكير التجريدي"، كما أن الاستخدام المفرط لجميع الأجهزة الحديثة وكيفما كانت (سواء الهواتف أو اللعب الالكترونية أو أي آلات أخرى) والذي يستغرق وقتاً يزيد على ساعة إلى ساعة ونصف الساعة يوميا يُضعف من قدرة الطفل الإنمائية في الجانب الذهني، ربما لأن تلك الأجهزة توفر له الخيال وبالتالي تُشَكل الصور الذهنية بطريقة آلية بغض النظر عن رغبة الطفل (انتهى كلامه). هذا وقد أشارت أبحاث ودراسات كثيرة بأن للهواتف الذكية والأجهزة الالكترونية الأخرى آثار سلبية على مستوى التحصيل المعرفي وقدرة الاستيعاب لدى الأطفال، بل إن هنالك إشارات واضحة بأن الاستخدام المفرط للقواميس الالكترونية والهواتف الذكية في إيجاد المعلومة وتوفير الحلول (Ready-Made Answers)، لا تساعد الأطفال على تخزين المعلومة، ناهيك عن استخدام العقل في حل الأسئلة والإشكاليات المعرفية المطروحة. ومن الدراسات ما ذهبت إلى أبعد من ذلك لتربط بين الإفراط في استخدام تلك الأجهزة وانحراف السلوك لدى التلاميذ والطلاب سواء في البيت أو الشارع أو حتى داخل حجرات الدرس في المدارس. وربما ما نشاهده اليوم من تطاول على المربين وعلى المعلمين والأساتذة ومن تعنيف الطلاب لهؤلاء ما هو إلا نتيجة لظاهرة العنف الذي ربما ولَّدته تلك الأجهزة في نفوس التلاميذ والطلاب، وكذلك ظاهرة العصيان والتمرد على الوالدين وباقي أفراد الأسرة. هل هنالك علاقة بين الهواتف الذكية وظاهرة العنف في المؤسسات التعليمية؟: ذلك عنوان جانبي يحبس الأنفاس في حقيقة الأمر، أولا لأن ظاهرة العنف في المدارس أو المؤسسات التربوية والتعليمية شيء دخيل على مجتمعنا ولم تعهد الأجيال السابقة. فبالأمس القريب كان المعلم محط احترام ويغبطه الجميع على مكانه المرموقة داخل المجتمع، أما اليوم فهو يتذيل السلم الإداري فيما يخص الرواتب. وتبعاً لذلك فقد أصبح يواجه كتباناً من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، وأصعب من ذلك كله فهو يواجه اليوم جيلاً من التلاميذ والطلاب فقد بعضهم خصلة الاحترام وتدنت أخلاقه وأصبحت الصور والرسائل التي يستقبلها من خلال هاتفه الذكي سبباً في استصغاره للذنب والجريمة، بل أججت شعوره باليأس وزادت من غضبه لأنه يريد الحصول على المال لدخول عالم الموضة والموبقات ولو في سن مبكر!!! وبما أن ذلك ليس بيسير، فما يجد أمامه إلا هذا المخلوق التعيس الذي كُتب له أن يكون معلمه ومربيه. فكيف سيربي قوماً فقدوا مبادئ الأخلاق الفضيلة وجنحوا إلى عالم الخيال والشر والأفلام الساقطة!!! والمتتبع للأحداث سيقف مشدوهاً لما آلت إليه الأوضاع ويجزم بأن تمة علاقة بين تلك الهواتف الذكية وتصرفات هذا الجيل. وفي نفس الوقت أن في المجتمع أناس خيرون ربوا أبنائهم وبناتهم على الأخلاق الفضيلة والسلوك السوي والمثابرة، وهؤلاء هم من نفتخر بهم لأنهم يمثلون الأغلبية في البوادي والحضر وقد حققوا نجاحاً باهراً لأنهم لم يسقطوا في فخ التكنولوجيا وإغراءات الهواتف الذكية. الآثار السلبية للهواتف الذكية على الكبار داخل الأسرة والمجتمع: لماذا نلوم الصغار على الإفراط في استخدام الهواتف الذكية وغيرها إذا كنا نحن الكبار لازلنا عاجزين عن الابتعاد عنها؟ !!!. ألا ينطبق علينا قول الشاعر: إذا كان رب البيت بالدف ضارباً..... فشيمة أهل البيت كلهم الرقص ألم تتغير سمات كثيرة من عاداتنا بفعل الهواتف الذكية؟ ألم نركن إلى السكوت وقلة الحديث حتى مع الضيف نظراً لانشغالنا عنه بهواتفنا؟ ألم أقل لكم سابقاً في إحدى مقالاتي بأننا بتصرفنا هذا أصبحنا نغير ركناً من أركان تقاليدنا الأسرية الاجتماعية! ألا نلاحظ اليوم بمجرد أن ندخل بيتاً ما بأن الكل منعزلٌ في عالمه الخاص به، بل قد نلاحظ بأن كلّ واحدٍ من أفراد الأسرة قد اختار زاويته المفضّلة في البيت كي لا يتحدّث إليه أي شخص آخر ولا يقاطعه! الكل ينقر في هاتفه الذكي وعيناه تكاد تسقط على خديه دون تحريك رأسه إلا للضرورة كالديك أو الدجاجة التي تنقر وتحثّ التراب بحثاً عن ضالّتها. إنه عالم اللامبالاة وعالم الهواتف الذكية والتكنولوجيا الساحرة. وهكذا أصبحت الهواتف الذكية تشكل جزءاً من حياتنا بل استحوذت على جزء كبير من وقتنا منتشرة في شوارعنا ومدننا وقرانا وأعالي جبالنا وفي كل زاوية من بيوتنا. وتبعاً لهذا الانتشار، يشهد العالم اليوم تطوراً في قطاع الاتصالات فلا يمرُّ يوم إلا ونقرأ أو نسمع عن اختراع جديد أو تطبيقات جديدة أو تطوير في أجهزة الاتصالات، حتى أصبحت تعتبر اليوم لدى الكثيرين عاملاً مهماً في حياتهم اليومية (أو بالأحرى جزءاً منها)؛ فالبعض مثلاً يستخدمها في تنظيم أعماله لما تحتويه من تطور تكنولوجي يتيح للمرء تنفيذ وإنهاء الكثير من أعماله تلك في وقت وجيز وأسرع بينما هي بالنسبة للبعض الآخر وسيلة اتصال وحيدة لمحيطه الشخصي والقادرة على إشباع رغبته الدفينة عن طريق "الدردشة" ومعرفة أو "تلقف" أخبار وتحركات أناسٍ آخرين (إما من باب الرضا وإشباع النفس أو باب الغيرة أو الحسد)، دون عناء ودون حاجةٍ للقاء شخصي. ومن الملاحظ أن تلك الأجهزة والهواتف الذكية هي وليدة مسارٍ متسلسل من التقدم التكنولوجي للهاتف الذي كانت مهمته بالأساس الربط بين الناس والتواصل لتقريب المسافات، وربما لم يخطر ببال كُلٍّ من المخترع اليكسندر غراهام بيل والمخترع إليشا غراي اللذان قاما باختراع الهاتف في القرن التاسع عشر في عام 1876 م، يوماً بأنه سوف يكون بإمكانهما في يوم ما أن يريا عبر شاشة صغيرة لهاتف محمول الشخص الذي يكلمانه من خلال اختراعهما الأول ذاك الذي سيتحول إلى جهاز هاتف صغير يمكن حمله والتنقل به، بل سيكون بإمكانهما التحرك برفقته من مكان إلى آخر بعيداً عن مكان الهاتف الثابت، ولن يبقيا حبيسَي أسلاك هاتفهما العتيق الذي يحتجزهما ويجبرهما على البقاء جنب تلك الآلة العجيبة في زاوية معينة من البيت. فلماذا جنحت تلك الأجهزة أو بالأحرى الهواتف الذكية وحادت اليوم عن مسارها الأصلي ومهمتها الأساسية ألا وهي التواصل من أجل التواصل لا غير؟ ولماذا أصبح لاستخدام تلك التكنولوجيا آثارٌ سلبية على سلوك الفرد وذاكرته وعواطفه وعقله؟ خلاصة: تنحنح إبراهيم قليلاً لكي يشير إلي أن الوقت يداهمنا وأنني لم أحكي له قصة جارتنا مع ابنها بعد، وقد لاحظت بأننا قد قمنا بشرب أربعة أكواب من الشاي دون أن نبالي! وكما قلت سابقاً فإبراهيم مولوع بالشاي بالنعناع ولا تفوته قطرة من البراد إذا ما تم تحضيره بإتقان. وبالصدفة رنّ هاتفي لأستقبل مكالمة أختي التي أفادت بأن جارتنا رجعت إلى صوابها وتفهمت الوضع إذ عليها (كما قالت أختي) أن تغير من سلوكها وتجد طرقاً بديلة كي تبعد ابنها عن هاتفه ويركز على دراسته وواجباته المدرسية دون مضيعة للوقت وأكدت لها بأن العائلة سوف تساعدها في تحقيق ذلك. لم يقتنع صديقي إبراهيم بما نقلته من كلام عن جارتنا فتململ ليبدأ الكلام هو نفسه وقد أحمرت وجنتاه عيناه بعد إحساسه بالدفء ومن شدة الغضب أيضاً ودفع إلي بكأس آخر من الشاي وأردف قائلاً: "ليست المشكلة في الهواتف ولا حتى في الأطفال بقدر ما هي في المسئولين أنفسهم وفينا نحن الآباء وأولياء الأمور. فلا أحد ينكر أن للهواتف مزايا كثيرة تخدم المجتمع، لكن من الذي أطلق لاستخدامها العنان؟ ومن الذي أباح استخدامها حتى في المدارس؟ لماذا مَنعت بعض المؤسسات التعليمية في بريطانيا استخدام الهواتف مجرد أن تطأ قدمي الطلاب باب المدرسة أو المؤسسة التعليمية، ولاحظت الفرق الشاسع في مردودية التحصيل لدى الأطفال بعد سن وتطبيق ذلك القانون وبحزم؟ لماذا لا نحدو حدوها ونمنع استخدام التلاميذ والطلاب للهواتف داخل مؤسساتنا التربوية والتعليمية؟ ألم يصل العلماء والباحثين إلى قناعة بأن البحث عن الأجوبة الجاهزة وشرح المفردات من خلال الأجهزة الالكترونية والهواتف الذكية قد أدى إلى إضعاف قدرة التلاميذ والطلاب الاستيعابية، وكذلك قدرتهم في استخدام العقل والاعتماد على النفس في إيجاد المعلومة وتخزينها ثم الرجوع إليها والقدرة على استحضارها وإرجاعها في أي وقت. أليس هذا الموضوع حري بالبحث والدراسة من طرف وزارة التربية والتعليم؟ أليست الهواتف الذكية من أسباب العنف في المدارس اليوم؟ فماذا ننتظر بعد ما رأيناه من تعنيف للمربين والمعلمين؟ لماذا لا نستعين بخبرائنا في الداخل والخارج للخروج بقطاع التعليم من هذا المأزق والنفق الذي لا يُعلم منتهاه؟. قررت أن أوقف صديقي عن الكلام لأن الحديث معه ذو شجون وشيق، وقررنا أن نعود للموضوع من جديد مرة أخرى في وقت لاحق لأن الوقت قد حان كي نشق طريقنا وسط هذا الازدحام المهول للبشر والسيارات ليصادفنا أول شخص عند باب المقهى وهو يخطو بخطوات جنونية ويلوح بيده في السماء ويشير بها إلى الهاتف ثارة أخرى ويصرخ في هاتفه بصوت يجلب أنظار كل المارة ...!!!. التفت إلي إبراهيم مبتسما وقال بصوت تغلب عليه حشرجة وتتخلله نبرة حزن عميق "أكعاون ربي"... والله ولي التوفيق،،، *خبير دولي في مجال التربية والتعليم، مستشار [email protected]