: أن تكون أمازيغيا في الثمانينيات ( الجزأ الأول ) كنا أطفالا عندما علّمونا أن «البرابرة هم سكان المغرب الأقدمون»، وأنهم «جاؤوا إلى المغرب عن طريق الحبشة ومصر»، وكانوا «يسكنون المغاور والكهوف ويلبسون جلود الحيوانات»، كنا صغارا حين لقنتنا وزارة التربية الوطنية تاريخ المغرب المزور، ولم نكن نملك إلا أن نحتقر هؤلاء الوحوش النائمين في دفتر اللغة العربية وكتاب «الاجتماعيات». لم يقل لنا المعلّم من أين جاؤوا وأينهم الآن، ولم تساعدنا عقولنا الصغيرة كي نفهم أننا أحفادهم، وأن كثيرا ممن يعتقدون أنهم أبناء «العرب الفاتحين» هم في الأصل أمازيغ استعربوا. كان الأطفال الذين يتكلمون الأمازيغية في البيت يتخلون عن لسانهم في الشارع كي يندمجوا مع الآخرين. يفضلون التكلم بعربية مكسّرة، تؤنث المذكر وتذكّر المؤنث وتضيف إلى المعجم مفردات مضحكة، على الحديث بلسان الجد «يوغرطة»، كي لا يكونوا محط سخرية، ويتجنبوا نظرات الاحتقار التي تندّ عن رفاق الدرب والتلاميذ والمعلم والمدير وبناته... أتذكر الآن صديق طفولتي الأولى «أباغوس» دون أن أستطيع استحضار اسمه الحقيقي. لا أعرف لماذا سميناه «القرد»، يبدو أن أحدنا سمع عمته تناديه كذلك على سبيل التوبيخ، فأغراه رنين الكلمة دون أن يفهمها، أو ربما كنا نعرف جيدا معنى «أباغوس»، فصرنا نناديه بها إمعانا في الاحتقار، لا أتذكر بالضبط. كل ما أتذكره أن «أباغوس» نزل عند عمته من «قصر» بضواحي المدينة كي يدخل إلى المدرسة. عندما تسمعون كلمة «قصور» لا تصدقوا رنين الكلمة، «القصر» هناك ليس له من الأبهة إلا الاسم، مجرد أكواخ طينية بلا ضوء ولا كهرباء ولا مرحاض، لا أثر فيها لمؤسسات الدولة، لا مدرسة، لا مستشفى، لا إدارة ولا هم يحزنون. «أباغوس» أصبح بسرعة واحدا منّا، يقتسم معنا الفصل واللعب والمغامرات. لم يكن أخرسَ، لكنه لم يكن يتكلم تقريبا. كنا نجري في المروج ونسرق التفاح والزهور والمشمش، ونقتل الأفاعي والخنافس، نصطاد الطيور والسلاحف والضفادع، دون أن نسمع كلمة واحدة من «أباغوس»، لأنه لا يفهم ما نقوله ولا يعرف العربية بكل بساطة. حينما تبدر منه كلمة ما، نضحك عاليا من لكنته المكسّرة. هو أيضا لم يكن لقمة سائغة. حين نغيظه، يبتعد عنا مسافة محترمة ويشرع في رجمنا بوابل من الحجارة... الكل كان يشهد ببراعته في التصويب، حتى إننا أطلقنا على طريقته في الرشق: «ضربة السرّاح»، لأن «السراح» أكثر الناس مهارة في التصويب بالحجر. أتذكر الآن كم كان «أباغوس» عرضة للسخرية والأذى من طرف شياطين الزنقة، فقط لأنه لا يعرف العربية. أتذكر يوم ربطه حميد، الشرير الذي يكبرنا بأعوام وحماقات، وتركه يصارع الحبل وسط قهقهاتنا الآثمة. في المدرسة أيضا، لم يكن «أباغوس» يفهم ما تقوله المعلمة. كان ينزوي لوحده في آخر الصف كأي تلميذ مصاب بالجذري، لا أحد يريد الجلوس معه لأنه «كسول»، وعندما ينطق بكلمة يضج الفصل كله بالضحكات، حتى المعلمة كانت تهتز من فوق كرسيها الخشبي تحت تأثير القهقهات! .. رسب «أباغوس» في القسم التحضيري لأنه لم يكن يفهم العربية، وفي العام الموالي غادر المدرسة عائدا إلى قريته البعيدة. لم نره بعد ذلك أبدا، بيد أننا ظللنا ننكل بكل تلميذ يشبهه، كنا نشهر عبارات التحقير في وجه كل طفل يخذله لسانه: «شلح كلح»... هكذا بلا سبب. أن تكون أمازيغيا في عرف تلك السنوات معناه أنك هامشي وفقير وعندما تكبر ستصبح مثل هؤلاء الذين يجيئون إلى السوق الأسبوعي بجلابيب مليئة بالغبار ورزات رمادية وعيون لامعة، معناه أن تسكن في جيوب المدينة الفقيرة وفي أحيائها الحقيرة، أن تكون كسولا في المدرسة وتكرر السنة، معناه أن ينكل بك أستاذ العربية لأنك لا تنطق الكلمات كما يجب، وأن تغادر الفصل في سن مبكرة لكي تصبح مزارعا أو تعمل في البناء أو تسوق عربة يجرها حمار، أما إذا كنت محظوظا وأكملت الدراسة، فإنك تصير متفوقا في الرياضيات وتقطن في القسم الداخلي، ووقت الاستراحة تنزوي في ركن قصي باحثا عن شبيهك في اللسان لتتحدثا همسا أو تدندن أغنية حزينة لا يفهمها أحد. أن تكون أمازيغيا في تلك الأيام الجاحدة معناه أن تلبس حذاء مطاطيا تنبعث منه رائحة كريهة كان يسمى «صباط الدستور»، لأسباب سياسية بلا شك مرتبطة بخطة التقشف التي دخل فيها المغرب زمن «التقويم الهيكلي»، أن تكون أمازيغيا معناه أن تعيش بالخبز والشاي وأن تكون ملابسك مرقعة وتحمل برميلا وتذهب إلى السقاية كي تملأه بالماء، أن تكون أمازيغيا في خيالنا الطفولي المشوه معناه أن تدخّن في وقت مبكّر وتذهب عند المومسات وتشرب نبيذا رديئا كلما سمعت أن حفل عرس سيقام في المدينة، ومعناه أن تعشق رويشة وحادّة وعكي والبندير والشيخات... أن تكون أمازيغيا معناه ألا تتكلم إلا نادرا وبصوت خافت كي لا يحتقرك أحد، وأن تتنكر لأصلك وأجدادك ولسانك، لكي لا تصبح مسخرة بين التلاميذ، لأن دروس التاريخ المزور علّمتنا أنّ «الشلح كلح»... هكذا دون سبب! عندما وصلت إلى الجامعة، التقيت طلبة بلكنات متمايزة أتوا من جهات المغرب الأربع، بفضلهم اكتشفت أخيرا أنني أمازيغي، حتى لو كنت لا أعرف إلا «أمان» و«أكسوم» و«أغروم»... والتقيت طلبة متجهمين لا يتحدثون سوى بالأمازيغية أو بالفرنسية، يكرهون كل ما هو عربي ويحلمون بدولة «تامزغا» الكبرى. أضحكتني أحلامهم لكنني تفهمتها، وكنت وما زلت أتعاطف معهم... ربما كان صديقي «أباغوس» واحدا منهم «الجبل الأزرق»، هكذا كنا نسمي «جبل العياشي» الذي نفتخر في كل مناسبة بأنه ثاني أكبر قمة في الأطلس المتوسط. كانت مدينتنا -ومازالت- تنام هادئة تحت أقدامه كأميرة صامتة ومعذبة، لا أحد يعنيه مصيرها. كلما رأيناه مرسوما في أحد كتب «الجغرافيا» نحس بأننا دخلنا إلى «التاريخ». علاقة الإنسان بالمكان على قدر كبير من الغرابة: عندما تكون وسطه لا تكاد تنتبه إليه، وبمجرد ما تغادره تكتشف أن الأشجار وأعمدة الكهرباء والجبال والوديان والحيطان التي تركتها خلفك، كانت أفرادا من عائلتك، تفتقدهم وتشتاق إليهم وتحن إلى الأيام التي قضيتها رفقتهم. عائلة من أشجار وأعمدة يشتتها الزمن بلا رحمة. في النهاية، الأشجار والأعمدة والبنايات وكل شيء في الدرب يبقى مكانه إلا نحن، لأننا بلا جذور تطيّرنا الرياح في كل الاتجاهات، كما قالت النبتة الصحراوية ل«الأمير الصغير» عندما سألها: «أين الناس؟» في رائعة سانت إيكزوبيري. اعتبرت دائما أن «جبل العياشي» ملك الجبال، لأنه يضع تاجا أبيض على رأسه طوال العام، بسبب الثلوج التي تغطي هامته ولا تكاد تذوب حتى تسقط أخرى. بدأت أكتب الشعر في وقت مبكر فقط كي أرسم صورة تشبه منظر هذا الجبل، لكنني لم أصل يوما ولا أعتقد أنني سأصل. في كل القصائد التي قرأتها مازلت لم أعثر على صورة أجمل من مشهد الثلوج البيضاء فوق القمة الزرقاء، فيما المدينة ترفع دخانها إلى السماء، كأن البيوت الحزينة تدخن كي تنسى عزلتها القاسية. لا يمكن أن تمضي الشتاء في ميدلت بلا تدفئة، لأن الحرارة تنزل درجات تحت الصفر. المدينة تعودت أن تقدم القرابين للبرد كل عام. أطفال كثيرون يموتون هنا، دون أن ينتبه إلى ذلك أحد... «أنفكو» على مرمى بضعة كيلومترات. الدولة لم يعنها يوما مصير منطقة مرمية في البعيد. وضعتها بين أيدي «الشيح والريح»، وتركت سكانها البسطاء يعيشون خارج العصر، في كهوف مظلمة، تعذبهم الطبيعة الفظة بلا شفقة. صقيع في الشتاء وجفاف في الصيف. تذكرتهم الرباط مرة واحدة سنة 1973، وأرسلت إليهم فيالق من الجنود والشرطة والدرك كي ينكلوا بهم ويفرقوهم على المعتقلات السرية، دون ذنب. جريمتهم أن الفقيه البصري اختار مدينتهم كي يخوض مغامراته المكلفة لإسقاط النظام. الناس هنا يبدون سعداء رغم عزلتهم، لأنهم يتوقعون الأسوأ من «المخزن»، كل ما يريدونه من الدولة هو أن تتركهم يدبرون حالهم مع البرد والنسيان. الدولة لم يكن يهمّها مصيرنا في تلك المدينة المنسية وسط البرد، لم يكن الأطفال الوسخون الذين كنّاهم واردين في حساب وزارة الشبيبة والرياضة ولا وزارة التربية الوطنية، كي تخصص لهم فضاءات ترفيهية خارج أوقات الدرس، على غرار أطفال المدن المحظوظة. وزراء الحسن الثاني كانوا منهمكين في تطبيق سياسة «تكافؤ الفرص» على طريقتهم الخاصة لبناء مغرب «العدل والمساواة» الذي اكتشفنا حقيقته عندما كبرنا. لم تكن في المدينة جمعيات ولا مكتبات ولا مسارح ولا سينما ولا أندية... ومع ذلك، لم نكن نعرف شيئا اسمه الملل. «الحاجة أم الاختراع»، ونحن كنا نخترع ألعابنا التي لا تكلف عائلاتنا الفقيرة أي شيء، ماعدا السراويل التي تتمزق بسرعة وقناني الدواء الأحمر التي ندهن بها جروحنا في آخر النهار. العطل كنا نمضيها في الحقول التي تحيط بالمدينة، نبدد طاقاتنا في نتف الزهور وقطف التفاح والمشمش والخوخ واللوز، قبل أوان القطاف. الطيور والأفاعي والخنافس والضفادع والكلاب والقطط... كلها جربت شرورنا، كنا ننزل على الشجرة مثل سرب جراد ونتركها عارية إلا من الأغصان، حتى حقول اللفت لم تكن تسلم من غاراتنا التترية، وعندما يباغتنا «العساس» ونحن ننهب حقول عباد الله، نعطي أقدامنا الصغيرة للريح ونحن نتلذذ بطعم المغامرة. عندما كبرنا، أكمل بعضنا المشوار وصار لصا محترفا كما أرادت له الدولة. كنا نجد متعة بلا نظير في إبداع المقالب والسخرية من الآخرين. الأربعاء كان يوما استثنائيا لأنه موعد السوق الأسبوعي، وإحدى هواياتنا الوقوف في الطريق المؤدية إلى السوق لنشاهد القرويين الذين ينزلون من «القصور» البعيدة برزاتهم وجلابيبهم وهم يجرون بغالا وحميرا مدبورة. كنا نسخر من وجوههم المغبرة وعيونهم التي تلمع فرحا لأنهم «نزلوا إلى الفيلاج». كلما مر واحد منهم نبادره بالتحية، فقط كي نضحك من عربيته المكسرة، ومن الفرحة التي تشتعل على محياه بعدما يتأكد أن التحية موجهة إليه. كان يمشي وهو يلتفت وراءه كأنه يحاول أن يتذكر من أنت، لأنه يعتقد أنه يعرفك وأن ذاكرته هي التي خذلته. كان القرويون السذج يربطون دوابهم في ساحة أمام السوق، كل أربعاء نسطو على حمار ونقتاده إلى مكان بعيد، كي نلعب على ظهره رياضة «الحمورية»... نركب عليه بالتتابع ونضربه كي يجري ونحن نضحك ونتقافز مثل شياطين صغار، عندما ننتهي من اللعب نخلي سبيل الدابة وننصرف، لذلك لم يكن مفاجئا أن ترى حمارا يتجول حرا طليقا بلا «بردعة» في الشارع مع الآدميين... «حمار وبيخير»، شعار أبدعناه نحن في الثمانينيات، سنوات قبل أن يترك بعض الشباب المحظوظين شعورهم ويكتبوا العبارة على تيشورتات صيفية. كنا عندما نعود من المدرسة، نرمي محفظاتنا في أي ركن من البيت، نلتهم كسرة خبز على عجل ونخرج إلى الشارع مثل شياطين كي نلعب قبل أن ينتهي النهار، ولكل موسم ألعابه: الشتاء فصل «البيّ» و«غميض البيض» والتراشق بالثلج الذي لا يخلف موعده مع المدينة، والصيف فصل «الرولما» و«السنسلة» و«ركبو ركبو على خيولكم» و«البوليس والشفارة» و«التعاون الوطني»، وفي رمضان يأتي وقت «لمّاطر» و«لاستيك» ومفرقعات «الكلخ» و«الجيكس» الذي تشتريه أمهاتنا لغسل الأواني وينتهي، على أيدينا، نجوما مشتعلة في السماء... كرة القدم، طبعا، كنا نلعبها في كل وقت، نكتتب كي نشتري كرة مطاطية بثلاثة دراهم، نلعب بها في النهار ونتشاجر عليها في الليل، كل واحد يريد أن يحتفظ بها، في النهاية نمزقها إلى مربعات صغيرة، ونفرقها بالتساوي قبل أن ننصرف لننام. كنا نحب «لامارييّ» أيضا، لكننا نلعبها سرا كي لا يصفنا أحد الناقمين بالبنات، شتيمة الشتائم في تلك السنوات الخشنة. ألعابنا البدائية لم تكن تكلف أسرنا أي شيء، ماعدا السراويل والأحذية التي تتمزق بسرعة، وقناني «الدواء الأحمر» لدهن الجروح التي نرجع بها في آخر النهار، كأننا كنا في الحرب. الحرب التي كنا نشنها على الفتيات في رمضان. بعد كل فطور، نتحول إلى ميليشيات آداب تجوب أطراف المدينة، سلاحنا «جباد» من «لاستيك» وذخيرتنا قطع سلكية مسمومة، نصنعها من أسلاك الدفاتر. كنا نصوب «الجباد» في اتجاه سيقان الفتيات «اللواتي يلبسن تنورات قصيرة، الضربات لاسعة تجعل الساق تنزف. ننفذ عملياتنا ونهرب كأي إرهابيين صغار، نعود إلى الزنقة لاهثين ونأخذ دراجاتنا النارية كي نذهب إلى المقبرة. طبعا، لم تكن دراجاتنا من نوع سكوتر أو ياماها أو حتى 103، بل مجرد براميل زيت مقطوعة تخترقها عصا نمسكها من الجانبين، وداخل البرميل نشعل شمعة تضيء لنا الطريق نحو مغامرات مجنونة. في المقبرة أيضا، كنا نلعب إحدى أغرب الألعاب: لعبة «المملكة». كان ثمة منبر حجري في ساحة تمتد جنب القبور، تقام فيها صلوات الجنازة والأعياد تسمى «المصلى». تحت المنبر نضع كرسيا يجلس عليه ملك الزنقة وعلى رأسه تاج، كأنه على عرش حقيقي. أما قبعات «الكرطون» التي كتبنا عليها بالأحمر والأخضر: «الله، الوطن، الملك»، فكنا نلبسها نحن الرعية. الجميع كان يتأبط قصبة غليظة، نستعملها في التنكيل بكل من يتجرأ على الاقتراب من «المملكة» التي أعلناها من طرف واحد... دون علم الحسن الثاني! بخلاف ما كانت تتوهمه وزارة التربية الوطنية، كانت العربية هي اللغة الأجنبية الأولى بالنسبة إلى كثير من زملاء الفصل، وليس الفرنسية. ولأن الدولة لم تأخذ ذلك يوما على محمل الجد، فقد كنا نعود بعد عطلة الصيف كل عام، ونكتشف أننا فقدنا نصف القسم. زملاء كثيرون يقررون التخلي عن الدراسة بسبب المشكل اللغوي. وبشكل عام، أغلب التلاميذ كانوا يغادرون الدراسة في الابتدائي لأن لا شيء يشدهم إلى المدرسة: دروس معقدة، معلم فظ، مصاريف كثيرة،... بدل إهدار ميزانية العائلة في شراء المنقلة والمنشفة والبركار والأوراق المزدوجة، يفضل الآباء شراء فأس و«عتلة» و«برويطة»، وتعليم الأبناء كيف يخرجون الرزق من باطن الأرض. لا شيء كان يشجع على إكمال التعليم في تلك السنوات القاسية. في حجرات الدرس، كانت العربية والأمازيغية تتداخلان على نحو ساخر في بعض الأحيان. ذات يوم، كتب أستاذ العربية على السبورة السوداء: «محفوظات/في الصبابة لجميل بثينة»... وتثاءب الفصل بأكمله، لأننا سنقضي ساعتين ونحن نشرح ما يقوله هذا الأحمق لحبيبته «البعكاكة» بيتا بيتا. كانت للأستاذ طريقة خاصة في تدريس الشعر، يتوهم أنها تساهم في تحبيب المادة إلى التلاميذ، رغم أن الجميع يخرج من عنده وهو يلعن «سنسفيل» جدود طرفة بن العبد وعنترة بن شداد وكل الحمقى الذين كانوا يمضون وقتهم في وزن الكلام وتنميقه. الأستاذ يحب التدقيق ويريدك أن تشرح له القصيدة كلمة كلمة، وتستخرج له المغزى الذي ينام في كل بيت، في وقت كل ما كنا نريده نحن هو أن ننام -مثل المغزى- بعد أن فعل العدس والفاصولياء فعلتهما في البطون والرؤوس. كانت طريقة الأستاذ في طرح الأسئلة غريبة أيضا، تكون جالسا في أمان الله فينزل عليك السؤال مثل الباطل: «فلان الفلاني يقول لك الشاعر كذا وكذا... ماذا يقصد يا ترى؟». كان علينا أن نظل متيقظين طوال الحصة تحسبا لهجماته المباغتة، وكي لا نكون عرضة لسخريته اللاذعة التي تحولك إلى «ضحكة» وسط التلاميذ. في ذلك اليوم، كان النوم يغالبني كبقية الزملاء، لحسن الحظ أن زميلي لحو، الجالس بقربي، أيقظني بإحدى قفشاته: «دابا هاد جميل مزعوط والدرية ما بغاتش ليه... حنا مالنا؟ كون غير قرّانا ديك القصيدة ديال أنا مليت أنا مليت/ ركادي وحدي طول الليل»... وضعت يدي على فمي كي لا أنفجر ضاحكا وتكون العواقب وخيمة، وعدلت الجلسة بسرعة عندما أبصرت الأستاذ يحدق اتجاهنا. صاروخ الأستاذ مر قربي وسقط على لحو، الذي كان يشتغل تلميذا في النهار وعازف «بندير» في الليل، سأله الأستاذ بتحدٍّ: «لحو، يقول لك الشاعر «فما زادني الواشون إلا صبابة / ولا زادني الناهون إلا تماديا»، ماذا يقصد الشاعر ب«الواشون»؟ لحو واجه التحدي بالتحدي، وقف في مكانه رفع رأسه ورد واثقا من جوابه: «الواشون» هم الأطفال يا أستاذ، وانفجر القسم كله ضاحكا. (لأن «الواشون» فعلا هم الأطفال... لكن بالأمازيغية)... هكذا انتقم «لحو» من الأستاذ الممل ومن جميل وحبيبته المسمومة بثينة! لكل زنقة كذّابها، وسعيد كان الكذاب الرسمي لحينا في تلك الأيام البريئة. كنا نصغي لحكاياته الساحرة مبهورين رغم علمنا المسبق بأن ما يرويه مجرد أكاذيب. أكاذيب ليست كالأكاذيب، تستمد سحرها من طريقة السرد وقدرتها على الإدهاش، رغم أنها من ذلك النوع الذي يمكن أن يهدم السقف على رؤوس من يستمعون إليه، كما تقول جدتي، لكننا نجد متعة في تصديقه، تماما كما يحدث لك عندما تشاهد فيلما جميلا ولا تريد أن تتذكر أنه مجرد تمثيل، كي لا تضيع منك نشوة المشاهدة، وكي يحدث لك ما يسميه الإغريق ب«الكاتارسيس». كان لسعيد منافسون كثر في الأحياء المجاورة، في جعبتهم حكايات لا تقل طرافة واحدة تنسيك الأخرى، أحدهم قال لأولاد حيه ذات يوم إنه ذهب إلى باريس ورأى بيتهم من قمة «لاتور إيفيل»، وآخر ذهب شهرين إلى الصحراء في إطار تلك الخدمة العسكرية سيئة السمعة المعروفة ب«ليزابلي»، وعندما عاد أقنع الجميع بأنه أمضى تدريبا مطولا ضمن سلاح المظليين، وكان يقفز يوميا ب»الباراشوت» حتى صار القفز بالنسبة إليه مجرد لعبة. وحين لم يعترض أحد على كلامه، أطلق العنان «للمعقول»: في إحدى القفزات وبينما هو في السماء رأى نسرا يحمل بين مخالبه خروفا كبيرا، فأدار مظلته في اتجاه النسر ثم خلص الخروف من بين مخالبه. وقبل أن تصدر عن المستعمين تعليقات أو تشكيكات، ختم قصته بنبرة قاطعة: «صيمانة وحنا كنضربو فالقطبان!»... أذكر أيضا «عمي موحا» الذي شارك في الحرب العالمية الثانية في صفوف الحلفاء، كان كلما أبصر جماعة من الأطفال جلس كي يروي لهم كيف قهر «لاليماني» ببندقيته طوال أسبوعين من المعارك أباد فيها فيلقا كاملا من العدو، إلى أن وقفت عليه طائرة وأطل منها «هيكلير» بنفسه وقال له: «ماشي حشومة عليك آعمي موحا، ياك حنا كنضّاربو مع فرنصيص نتا آش درنا ليك؟»، وعندما سأله أحد الصبية ذات يوم: «علاه هيكلير كان كيعرف الشلحة آعمي موحا؟»، رد الجد بامتعاض: «انتوما كتبعو لهضرة حتى كتحماض!»... ثم انصرف غاضبا. سعيد كان يملك موهبة ساحرة في الكلام، يحوّل أشياء عادية إلى أساطير. بالنسبة إليه، الفدادين المجاورة لبيوتنا ليست حقول لفت وبطاطس، بل أدغالا حقيقية تسكن فيها حيوانات متوحشة. حقول جرداء ببضع أشجار، ترعى فيها قطعان كسولة من المواشي والحمير، تتحول في حكايات سعيد إلى أربعة أدغال، يجزم بأننا لا نعرف منها إلى حد الآن إلا الدغل الأول، الذي كان يصر على أن ينطقه بالفرنسية «la première jungle»، تأثرا ب«طارزان» بلا شك. هكذا كان يقسم حميد غابته المخيفة: في ال«première jungle» تعيش الحمير والمواشي التي يمكن للجميع أن يراها، في ال«deuxième jungle» تعيش حيوانات أخرى مثل القرود والنعامات والطواويس، في ال«troisième jungle» تعيش الذئاب والثعالب والفيلة والزرافات، وفي ال«quatrième jungle» يعيش الأسد والنمر والضبع... وعندما نحتج لأنه حشر الضبع مع السبع، «يخرّج عينيه» ويؤكد أن الضبع أخطر الحيوانات على الإطلاق، وقبل أن نستنكر يسبقنا دائما: الضبع يعرج عندما يمشي، أليس كذلك؟ نرد: بلى، رغم أننا لم نر ضبعا من قبل، «عرفتو علاش؟ يسأل المحتال كي يواصل حكايته: عندما يستفرد بك الضبع «كيتكرع عليك» وتنبعث رائحة غريبة من فمه، تجعلك تتبعه إلى مغارته، عندها يشرع في دغدغتك برجله العرجاء وأنت تقهقه... إلى أن تموت. في الحقيقة، حكايات سعيد هي التي كانت تقتل بالضحك، ونحن كنا الضباع بلا شك! .من ألّف «قراءتي»، الكراس الذي دخل إلى المدرسة العمومية مستهل الثمانينيات؟ لا أحد يعرف. بخلاف مؤلفي التلاوات السابقة، مثل بوكماخ (صاحب «إقرأ») وعبد السلام ياسين (الذي انتقل من تأليف التلاوة إلى «تأليف» قلوب مريديه في «العدل والإحسان») ومحمد شفيق (الذي تفرغ بدوره لتأليف الحركة الأمازيغية)، لم تكن تعثر على أي اسم في غلاف «قراءتي»، ما عدا وزارة التربية الوطنية. شخص مجهول جمع النصوص واختار ألا يوقع مؤلفه لاعتبارات يمكن تخمينها: ألا يؤاخذه أحد على النزعة «الحميرية» التي دسها بين دفتي كتاب تعلمت فيه أجيال من المغاربة. من أشهر هذه النصوص «رائعة» «كان لنا حمار»، وهو نص مكتوب بطريقة سوريالية، كل جملة في سطر: «كان لنا حمار// نربطه أمام الدار// باع أبي الحمار// لماذا باع أبي الحمار؟// لا أحد يعرف إلى حد الآن. كانت في قراءتي نصوص جميلة رغم كل شيء، مثل نص «الأمير السعيد»، المستلهم من إحدى القصص الإسكندنافية. المضحك أن بعض النصوص كانت تنتمي إلى الخيال العلمي، على الأقل بالنسبة إلينا نحن سكان المدن النائية، مثل قطعة كان عنوانها «الأضواء الثلاثة»، تتحدث عن إشارات المرور واحترام الضوء الأحمر، والحال أن في مدينتنا شارع وحيد لا تتوفر فيه حتى مصابيح البلدية، فبالأحرى أن تكون فيه أضواء ملونة تنظم السير؛ ثم أي سير؟ بضع سيارات ودراجات، وعشرات الحمير والآدميين. الناس في المدن الصغرى لا يمشون أبدا على الرصيف، كأن عندهم بدل الأحذية عجلات. «الخوافون» الذي يختارون المشي على الرصيف، يتعرضون لسخرية الآخرين، وفي المساء تجد المدينة كلها تمارس رياضة المشي وسط الطريق، كأنها خرجت في تظاهرة. الشارع الوحيد الذي يخترق المدينة اسمه «مولاي إدريس»، وليس «الحسن الثاني» أو «محمد الخامس» أو حتى «مولاي يوسف»... كأن الدولة لم تنتبه إلى المدينة منذ عهد الأدارسة. تتجول في ظلام دامس، وعندما تدخل إلى الفصل يقول لك المعلم: «موضوع درسنا اليوم هو الأضواء الثلاثة...»، ويريدنا أن نفهم نحن الذين لم نذهب يوما أبعد من «ال40» التي تحدد السرعة على مدخل المدينة، قرب علامة أخرى كتب عليها «آيت زدك»، في إشارة إلى اسم القبائل الأمازيغية التي تستوطن منطقة ميدلت بكاملها. قبائل آيت زدك اشتهرت، على الخصوص، بشراستها في مواجهة الاستعمار الفرنسي، وشاركت بكثافة في التمرد الذي دبره الفقيه البصري عام 1973 أو، على الأرجح، أدت فاتورة المغامرة التي قادها الجناح المغامر في «الاتحاد الوطني للقوات الشعبية»؛ لكنهم في مخيلتنا المشوشة، كانوا مجرد وحوش مرعبة تطاردنا أحيانا في النوم، بسبب كل الحكايات التي كان يختلقها عنهم سعيد، كذاب الزنقة المحترف. كان المحتال يأخذ معلومة من درس التاريخ المزور ويضيف إليها عشرة من عنده: آيت زدك، حسب سعيد، أشخاص قصيرو القامة كالأقزام يسكنون في الكهوف ويلبسون جلود الحيوانات ويأكلون البشر... عندما تعبر عن تشكيك في روايته، يخرج فيك عينيه قائلا: تأمل جيدا ما كتب على اليافطة المعلقة على مدخل المدينة: «آطانسيان آيت زدك»!