قبل أن أبدأ الموضوع، أود أن أعبر كم يحز في نفسي أن أرى رجلا من أبناء الشعب، عافر أوضاع الشعب، وانتصر على العوائق ليلامس النجاح بكل مقاييسه، بغض النظر عما وراء ستار نجاحه وعن كواليسه؛ صنع من إسمه إسما مقرونا بصحافة بلاد المغرب، ومن حياته حياة قدوة لمن يطمح في التألق، صنع تألقا بمشعل الهوية يضوي أملا في المستقبل، فإذا به يطفئه مع أول استثناء، ويعود إلى الوراء، من نقطة إما ستدخل به خانة السياسيين المحزبين بعيدا عن عموم من آمن به من الشعب؛ وإما ستقف به مفترقا دون درب. حتى البلاء اختيار. خطوة لم تكن في محلها. عن ماذا ستكتب بعد؟
***
مشكلة المتفاعل المغربي مع الأحداث الاجتماعية السياسية للبلد أنه يتفاعل بإحساس لا بعقل، وأنه يأخذ من كل خبر أو مقالة أو موضوع أو ڤيديو ما يستفزه أو ما يرضي فهمه للشيء ثم يلوذ بعيدا عما تبقى من مضمون ومحتوى. وهذه الإعاقة التواصلية بين الخبر أو الكاتب أو المقدم والمتلقي لا تزيد إلا تعصبا وتفرقة في الآراء والوجهات.
عندما نتحدث عن محاكمة رشيد نيني، تتفرق الوجهات حسب خلفية المتلقي، وكلٌ يحرك آراءه أينما قادته مشاعره، وقلما نسمع شرحا عقلانيا للوضع القائم، ما يحول الحدث إلى شعارات مستهلكة تمضغ دون منطق ولا إفادة. ولو نظرنا للرأي العام وردود فعل المجتمع حول القضية بعين عقل سنستخلص الوجهات الخمسة التالية:
وجهة أولى هي وجهة ذات طابع قرابة، تتضامن مع رشيد نيني الرجل، حيث عائلته وأصدقائه الذين يغضون الطرف عن كواليس ما يحدث وينتظرون من كل قارئ أو محب من قريب أو بعيد تضامنا مطلقا مع الصحافي الرجل في هاته المحنة. وهي وجة مفهومة من حيث الصلة المادية بالشخص.
وجهة ثانية وهي وجهة عملية، حيث العاملين معه في المؤسسة الإعلامية الذين يوجهون أفكارهم حسب توجه رئيس تحريرهم رغبة في الحفاظ على عمل وراتب، ويدافعون عن نفس مبادئه ويميلون لميولاته ويصيغون أفكارهم بنفس صياغة ما يراه مناسبا لجريدته حسب الظرفية والأحداث، لهم كامل الحق في الدفاع عنه باستماتة وجهد، ويدخل في نفس السياق من يتقاضى من محاميه أجر دفاعه. وهذا أيضا توجه مفهوم من ناحية العلاقة المادية.
وجهة ثالثة وهي وجهة حسية، حيث يتشكل لكل شخصية عامة تصدِّر أفكارا أو فنا أو مادة استهلاكية فكرية أو مادية جمهور من المعجبين المتابعين المهيئين للمساندة والدفاع عن مشاهيرهم دونما محاولة فهم واقعي لمجرى الأحداث. وفي حديثنا عن رشيد نيني، وعن أكبر جريدة عربية مغربية من حيث المبيعات والقراء، كان من المتوقع تواجد أعداد هائلة من المعجبين بالألفات على أبواب المحكمة الابتدائية بعين السبع عند كل ساعة محاكمة. والغريب في الأمر، أن عددا هائلا من معجبي الكاتب رشيد نيني والذين داوموا على قراءة جريدته وتابعوه عن كثب، امتنعوا عن المساندة الحقيقة للصحافي. فمنهم من لجأ إلى العالم الافتراضي ليترك كل يوم بعض التعليقات على صفحات الفايسبوك، ينتقد ويولول أوضاع القضاء المغربي، ومنهم من اكتفى بأقاويل المقاهي وتوقعات بين العائلة والأصدقاء، ومنهم من كان له رأي في الأمر، حيث تداولت أقاويل عن كون المحاكمة مسرحية زائفة بين نيني والدولة، يريدون عبرها إعادة ثقة القراء فيه ليخرج من السجن بوقا أكثر قوة لدهاليز المخزن! وهنا، يظهر أن النوع الساذج من المعجبين الذين يعتمد عليهم مشاهير العالم في محناتهم يغيب في الشخص المغربي، ربما لنباهته الزائدة.
ثم وجهة حسية مهنية، تتمثل في انضمام كل من له علاقة بعالم الصحافة والإعلام والنشر، ليواجه طعن الدولة في حرية التعبير بغض النظر عن حقيقة الأحداث وحيثيات القضية والشخص نفسه، فهي مؤازرة تفرضها المهنة وظروفها، وهو نوع من التوحد وكسب التعاطف إيمانا بمقولة: يوم لك ويوم عليك.
وجهة رابعة، وهي وجهة معادية. هذه الوجهة غالبا تتخذ من محنة الفرد فرصة للشماتة. وقد عهدنا هذا الأسلوب في رشيد نيني نفسه أمام زملائه الصحافيين والسياسيين وغيرهم، حيث لم يتوانى في كثير من الأحيان أن يمتهن عمل المغرق أو القاضي أو المحاسب بأسلوب كشف المستور وهتك الأعراض. غير أن وبخلاف المتوقع، عمد الكثير ممن عرفوا بخلافهم مع نيني وأسلوبه وسلعته إلى دعمه ومؤازرته، ولم يكن هذا بدافع الحب المفاجئ أو الشفقة أو الرحمة، إنما بدافع الخوف من أن يحين عليهم الدور. وغيرهم ممن أراحتهم محاكمة نيني، صرحوا بواضح العبارة تشجيعهم لمجرى القضاء وغمرت المواقع تعليقات تفيد أن رشيد نيني ليس فوق القانون.
وجة خامسة، يمكن أن أسميها وجهة بشعة، مكياڤيلية حقيرة، حيث المفيد والمستفيد، والغاية تبرر الوسيلة. وهنا، سأعيد نفس ما كنت شرحته في مقال سابق بعنوان "حتى لنيني وحبس"، تضامنا مع رشيد نيني، لكن بعبارات أخرى.
بعد أن استنفذ نيني كل عبارات السب والشتم في شباب بعينهم بأسمائهم وصفاتهم من حركة 20 فبراير، طريقة والحمد لله أفتخر أني لم أنهج إليها قط لانتقاد الحركة جملة ووصفها بما تستحقه من أوصاف، وبعد أن خصص مقالات كاملة كي يخوض في خصوصيات بعضهم ووصفهم بأحقر النعوت والأوصاف، جاء خطاب 9 مارس الذي أعلن فيه جلالة الملك إصلاحات شتى تماشيا مع تغيرات بلدان الجوار، ففهم رشيد نيني الوضع بصورة تونسية مصرية وتخوف من لقب المخزني البلطجي، الذي طالما صبر واصطبر عليه في ظروف مستقرة، وحول جريدته من جريدة مستقلة تنشر الرأي والرأي الآخر بموضوعية وحياد متفادية التأثير على جمهور من القراء ممن يضعون ثقتهم في استقلالية وجهتها، إلى بوق لطائفة لا تمثل إلا نفسها وأتباعها، مغتنما فرصة التحول السياسي في المغرب ليلقي عن كاهله ابتزاز 600 مليون. وبدأ في انتقاد الكل من أصغر مسؤول إلى أقرباء الملك حتى يصل إلى الملك فيقول عاش الملك. ولم يرقب في أحد إلا ولا ذمة رافعا راية شيعة اختلط فيها اليسار المتطرف بطائفة دينية أسمت نفسها 20 فبراير.
ولما بات نيني وجريدته بوقا لحركة انعزلت عن قواعد المجتمع تدعو المجتمع للانضمام إلى استثناءاتها، ما كان للدولة، غير تصريف مجرى القضاء في كل من كان له أمر مع نيني أمام القضاء لمنعه من التأثير في الرأي العام المغربي في هذه الظروف المضطربة ريثما تهدأ الأوضاع. وإذا بنا نشهد بأم أعيننا، من خرجوا أمسا يلقون نيني بالشعبوية والمخزنة الفكرية يتمخضون دفاعا عمن حول جريدته بوقا لمناصرة مطالبهم الانفصالية.
هل بهذا التحليل أكون غير مساندة لنيني، أبدا؛ ما هذا إلا تحليل لوضع قائم، وحتى إن عارضت وجهات النظر فإنني سأظل أسانده حسيا ومهنيا.