سلطت الزيارة الملكية الأخيرة لكل من رواندا وتنزانيا الضوء من جديد على الدبلوماسية الاقتصادية ومحوريتها في تعزيز وجود المملكة بأقطار كانت غائبة عنها إلى الأمس القريب. المصطلح الفتي في قاموس الدبلوماسية المغربية لاقى اهتماماً ملكياً متزايداً تمثل في حرص المؤسسة الملكية على إضفاء الطابع الاقتصادي والاستثماري على كل زيارة تقود الجالس على العرش خارج البلاد. وقد أكدت الزيارات الملكية الأخيرة لكل من الهند في أكتوبر من السنة الماضية وبعدها روسيا فدول مجلس التعاون الخليجي والصين ثم دول غرب إفريقيا أن الدبلوماسية الاقتصادية تتصدرُ الأجندة الملكية، ومن ذلك أنها ترتبط ارتباطا وثيقا بالدبلوماسية الملكية الراسمة لأهم سياسات وتوجهات البلاد على المستوى الخارجي. وبما أن السياسة الخارجية لمعظم دول العالم باتت ترتكز بالأساس على قوتها وتأثيرها الاقتصاديين، فقد أصبح حَرياً بالمغرب نهج دبلوماسية تتناسب ووضعه الإقليمي الاستثنائي في منطقة مشتعلة بالأزمات والفوضى، دبلوماسية تبوئه مكانة يستطيع من خلالها فرض سياسته والدفاع عن مصالحه وعلى رأسها قضية الصحراء المغربية بالاستغلال الأنسب للرأسمال الاقتصادي الذي يتمثل في المجموعات المغربية العمومية وشبه العمومية والخاصة العاملة في ميادين وقطاعات حيوية مختلفة والتي في مقدورها تشكيل 'جماعات ضغط' كلما تعلق الأمر بالسياسات الخارجية لدول إفريقيا على الخصوص تجاه المغرب. الدبلوماسية الاقتصادية المغربية ببصمة ملكية كلما حطت الطائرة الملكية في دولة ما، في زيارة كانت رسمية أو زيارة عمل، إلا وحملت على متنها العشرات من أهم رجال الأعمال ومُسيرات ومُسيري كبريات الشركات والمقاولات المغربية لعقد الشراكات وإبرام الصفقات في أسواق واعدة. ولعل اختيار ملك البلاد زيارة دول بعينها دون أخرى يَنمُ عن تبصر ودراية بالنقط التي يسعى المغرب إلى تسجيلها اقتصاديا وسياسيا وإستراتيجياً. ويقوم مفهوم الدبلوماسية الاقتصادية على الاستغلال الأمثل لأدوات السياسة الخارجية للدولة لإنعاش المصالح الاقتصادية بما يخدم تطور الاقتصاد الوطني ويعزز النفوذ الاقتصادي الخارجي، وهي تروم بالأساس خدمة المصالح القومية للدولة. ولا تكتمل الدبلوماسية الاقتصادية دون وجود إطار فعال للشراكة المؤسساتية والجهود المتضافرة من لدن الفاعلين في كل من القطاعين العام والخاص حتى تتأتى ثمار الأهداف المسطرة. وقد ركز الملك محمد السادس في الرسالة التي وجهها إلى ندوة 'سفراء صاحب الجلالة' المنعقدة بالرباط بتاريخ 30 غشت 2013 على ضرورة تفعيل الدبلوماسية الاقتصادية في العمل الدبلوماسي حين قال: "(...) يجب على حكومتنا إعطاء الأولوية لدبلوماسية اقتصادية مقدامة قادرة على تعبئة الطاقات بغية تطوير الشراكات وجلب الاستثمارات وتعزيز جاذبية البلاد وكسب مواقع جديدة وتنمية المبادلات الخارجية. كما ندعوها للتنسيق والتشاور مع مختلف الفاعلين الاقتصاديين في القطاعين العام والخاص للتعريف بالمؤهلات الاقتصادية التي تزخر بها بلادنا وخاصة في القطاعات الإنتاجية الواعدة بهدف المساهمة في تنميتها ولإرساء تعاون مؤسسي بين القطاعات الوزارية التي لها نشاط دولي في المجال الاقتصادي. وإننا نعتبر سفراءنا بمثابة جنود يجب أن يسخروا كل جهودهم لخدمة القضايا الاقتصادية لبلادهم." هكذا، إذن، يرتدي سفراء المملكة قبعة رجال الأعمال في ظل إرادة ملكية وهم ينتقلون من ممارسة الفعل الدبلوماسي التقليدي إلى تنسيق التعاون والشراكات بين الفاعلين الاقتصاديين في بلادنا ونظرائهم في دول العالم المختلفة. لقد باتت الدبلوماسية الاقتصادية اليوم في صميم عمل الدبلوماسيين المغاربة، إذ يتحتم عليهم النزول إلى أرض الميدان للتعرف على النسيج السياسي والاقتصادي في الدولة، حيث يمثلون بلادهم. كما أن من واجبهم التعريف بمقدرات البلاد ومجالات استثماراتها المختلفة. السير على خطى التجارب الناجحة في ظل المناخ الاقتصادي العالمي الذي يَسمُ العلاقات الدولية اليوم، يتحتم على المغرب أن ينهج سياسة مواكبة وبعيدة المدى وفق إطار زمني محدد لتحقيق الأهداف المبتغاة. ولا ضيرَ في أن تنهلَ المملكة من تجارب دول بعينها في مجال الدبلوماسية الاقتصادية مادام ذلك لا يتعارض ومبادئها. ولعل التجربة الفرنسية هي أحسن مثال بحكم حضورها الاقتصادي القوي والمتين بأسسه بإفريقيا، ولا بأس أن نُعرجَ هنا بإيجاز على النموذج الفرنسي حتى يتسنى للقارئ الكريم مقاربة التجربة المغربية لنظيرتها الفرنسية؛ ففي سنة 2013 فطنت وزارة الشؤون الخارجية والتنمية الدولية الفرنسية إلى ضرورة مأسسة الدبلوماسية الاقتصادية وتأطيرها، فأحدثت مديرية المقاولات والاقتصاد العالمي وإنعاش السياحة في الفاتح من مارس من السنة نفسها وهي المديرية التي شكلت منذ إحداثها الخيط الرابط بين الخارجية الفرنسية وبين كبريات الشركات والمقاولات الصغرى والمتوسطة في كل الاتفاقيات والشراكات ذات الطابع الاقتصادي والاستثماري، فهي تؤَمن التتبع القطاعي لنشاطات المقاولات الفرنسية في الخارج. كما أنها تدعمُ المبعوثين الخاصين للدبلوماسية الاقتصادية وتدعم كذلك التنمية الدولية للمقاولات الفرنسية الفاعلة في ربوع المعمور. المميز في الدبلوماسية الاقتصادية التي ينهجها "الكي دورساي" هو عدم اقتصارها على الفاعلين الاقتصاديين فحسب؛ بل هي تسهر على تعبئة المصالح العلمية والتقنية كما أنها تدعم المراكز الثقافية الفرنسية المنتشرة عبر ربوع العالم لنشر رسائلها وبث سياسياتها. ولا تجدُ الخارجية الفرنسية حرجاً في الإشارة بالخط العريض على موقعها الإلكتروني الرسمي إلى أن دبلوماسيتها الاقتصادية ترمي إلى حماية مصالح فرنسا ومقاولاتها واستثمار التغلغل الاقتصادي سياسياً بما يخدم الصورة العامة لباريس في مختلف المحافل الدولية. تحديد الأهداف الإستراتيجية وخدمة القضايا الوطنية الأكيد أن المغرب مطالب اليوم أكثر من أي وقت مضى بالبرهنة على حضوره الدبلوماسي والخارجي، ولن يتأتى ذلك إلا من خلال دبلوماسية اقتصادية محددة المعالم تتقاطع والسياسة الخارجية التي تتبعها المملكة. فعالم اليوم لا يعترف بالخطابات الرنانة أو الكلمات المحركة للمشاعر ولا بشعارات التسامح والتعايش بقدر ما يعترف بالخزان الاقتصادي والاستثماري للدول وإمكاناتها البشرية وبنياتها التحتية. والأمر ذاته ينطبق على القوى العالمية الكبرى في مقاربتها للنزاعات الإقليمية ومطالب الدول بأحقيتها على أراض متنازع عليها، حيثُ تُرجحُ في الغالب كفة الدول الواعدة اقتصادياً والحاضرة دوليا ببصماتها الاستثمارية في كل مناقشات مجلس الأمن وباقي الهيئات المكونة للأمم المتحدة. وبناء عليه، وجب على المغرب أن يجعل من أولويات دبلوماسيته الاقتصادية كسب المزيد من التأييد لمغربية الصحراء ولمقترح الحكم الذاتي. ولأن ملف الوحدة الترابية له حساسية خاصة على مستوى القارة السمراء بادر الملكُ محمد السادس إلى شحذ كل الفاعلين في المملكة لتعزيز الشراكات وتمتين العلاقات مع دول إفريقية عديدة. وهكذا، طرقَ عاهل البلادِ شخصياً أبواب دول إفريقية عديدة، فدخلها ونسج معها شراكات تنوعت بين القطاعات المالية والطاقية وقطاعات الاتصالات والفلاحة ونجحَ في تغيير مواقفها من قضية الوحدة الترابية للمغرب وهاتف قادة دول إفريقية أخرى، فغدت مواقفهم أكثر ليناً لصالح الرؤية المغربية للنزاع المفتعل. ولا شك في أن طموح المغرب غدا أكبر في ريادة اقتصادية بالقارة السمراء وهو ما جاء في الرسالة الملكية التاريخية إلى القمة ال27 للاتحاد الإفريقي في يوليوز الماضي حين عبر قالها الملك صراحة: "(..) وإن الانخراط المكثف للفاعلين الاقتصاديين المغاربة، وحضورهم القوي في مجالات الأبناك والتأمين والنقل الجوي والاتصالات والسكن، يجعل من المغرب، في الوقت الحالي، أول مستثمر إفريقي في إفريقيا الغربية. وهو أيضا ثاني مستثمر في إفريقيا كلها. ولكن ليس لوقت طويل، لأنه عبر عن إرادته القوية في أن يكون الأول". هكذا، يخطو المغرب خطوات واثقة لفرض حضوره في مناخ جيوستراتجي لا يعترف إلا بإمكانات الدول وقيمتها المضافة للاقتصاد العالمي. ولعلَ التعيينات الشاملة الأخيرة لسفراء صاحب الجلالة أبانت عن اهتمام المؤسسة الملكية بأمريكا اللاتينية ومنطقة الكاريبي وتوجه نحو تنويع شراكات المغرب لتتعدى حدوده الإقليمية والقارية. كما عززت المبادرات الملكية المشجعة للمقاولات المغربية الشابة من أهمية الدبلوماسية الاقتصادية في نسختها المغربية. *مترجم وكاتب باحث