الحلقة الثانية "أمريكا المعرفة: لقاء مع تلميذة من التعليم الثانوي". كان اللقاء صيف 2016 في "القاعة المعشوقة" (1) في قسم الفلسفة من جامعة جورج تاون بالعاصمة الأمريكيةواشنطن، بعيد وجبة الغداء الخفيفة، تناول الكلمة البروفسور بول هيك، مؤسس برنامج سوراك والمشرف عليه، ليعرفنا بالضيف الجديد: أستاذة من التعليم الثانوي التأهيلي بصحبة تلميذة لها. لم يكن الأمر غريبا أن تحضر تلميذة في عِزّ العطلة الصيفية لجامعة تستقبل كل يوم وفود من تلامذة الثانوي للتعرف على فضاء الجامعة والاقتراب من البيئة الطلابية، لكن الممتع أن تحاضر في جامعة عريقة أمام أساتذة باحثين. وفد من التلاميذ وأولياء الأمور في زيارة علمية صيفية لجامعة جورج تاون-واشنطن العاصمة. لم يكن الأمر سهلا على تلميذتنا رغم رصيدها الوافر من الثقة بالذات، ورغم أن تلامذة أمريكا معتادون على العمل مع الكبار، إذ تسمح المنظومة التربوية والاقتصادية بالتحاق تلامذة الثانوي بالشركات والمؤسسات الاقتصادية للعمل خلال الفترة الصيفية، مما يمكّن من اكتساب تجربة في الحياة تعزز الثقة في الذات كما تساعد في التوجيه الدراسي وبناء مشروع شخصي ناجح إضافة لقدر من المال ييسر الاستمتاع بأجواء الصيف سفرا وتبَضُعا (Traveling and shopping) وهنا استحضرت جهد تلامذتنا أعضاء "نادي التواصل المهني" (2) لتقريب عموم التلاميذ لواقع الحياة العملية من خلال زياراته الميدانية للمؤسسات الاقتصادية كان آخرها زيارة لبورصة القيم بالدارالبضاء بتاريخ 15-1-2016 تخلتلها دورة تكوينية في "قواعد بناء مشروع التميز" التي أطرها فرع الجمعية الدولية "Arabe Excellence" وجدت تلميذتنا الأمريكية في حرص الحضور على التعرف على بيئة التعلم بالمدارس الثانوية ما شجعها على تجاوز عتبة الدهشة لتعبِّر بطلاقة عن الحياة المدرسية بثانوية تتميز عن باقي الثانويات العمومية باهتمام أكبر بالمواد الأدبية كالبلاغة والشعر وباقي الألوان الأدبية. وهنا كانت دهشت الحضور كيف يجتمع في أمريكا المعرفة بين البحث العلمي الدقيق والعميق وبين الأدب الذي يتحول في وعي تلامذتنا المغاربة إلى "عذاب"؟ كيف لا وهم يسمعون وأحيانا من أعلى مسؤول تعليمي "أن زمن الأدب ولى وأن الطلب على التكوينات التقنية والمهنية" ! وكأن براعة المحامي في مرافعته، وعذوبة الإعلامي في بيانه، وعمق السياسي في تحليله، ورقيّ الفنان في كلماته ولحنه لا معنى لها في سوق الشغل! نعم للتخصص العلمي الدقيق، نعم للتكوين المهني الناجح، ولا ثم لا لمن ينقصّ من الأدب وأهله. ويجعل التوجيه للشعب الأدبية اختيار من لا اختيار له. حسمت أمريكا المعرفة هذا الاشكال حين جعلت دراسة المواد الأدبية مدخلا للبحث العلمي، فمن فاته أن يشارك من سبَقه من العقلاء في تأملاتهم الكونية والإنسانية، ومن لم يقلقه سؤال المعنى والبحث عن الحكمة، ومن لم يسبح في الخيال الأدبي اللامحدود ويتشرب قيم الحياة التي تزخر بها تجارب الانسانية كيف يرجى منه أن يبدع ويخترع لأهل زمانه، ونظره قاصر وبصره حسير. يتدرب تلامذة الثانوي على البيان والمحاورة وفن السؤال من خلال حصص "للمناظرة" خصصت لها المؤسسات التعليمية مرافق خاصة؛ قاعات مجهزة تسمح بتحويل أجواء المناظرة إلى موسم للإقناع والإمتاع. بل إن البرنامج التعليمي يحرص على جعل الأنشطة المنزلية قائمة على إعداد أسئلة مركزية مرتبطة بالمحاور الدراسية المقررة، فالتلميذ، خاصة في المواد الأدبية، مطالب بالبحث عن الأسئلة المفتاح التي يطرحها فريقه في القسم على الفريق الآخر(يتم تقسيم تلامذة القسم الواحد إلى مجموعتين أو أكثر منذ بداية الموسم الدراسي) وبهذا يتم تنمية مهارة طرح السؤال التي تستدعي بدورها القدرة على الملاحظة الواعية والافتراض والتحليل والاستدلال وغيرها من القدرات الذهنية والوجدانية. ولايكتفي النظام التعليمي الأمريكي بالتحفيز على التعلم وتنمية القدرات الذهنية والوجدانية بل يحرص أيضا على تعزيز مهارات الحياة من خلال أنشطة الحياة المدرسية التي تحيي قيم العمل ضمن فريق، وتدبير الاختلاف، وتعمق الانفتاح الواعي على المجتمع. وليس غريبا أن تكون سوق الأندية التربوية رائجة مادام ثلث الزمن المدرسي أو أكثر مخصص للأنشطة التربوية والتعليمية. وتستمر الحياة المدرسية في التفتح إذ يواصل الطلاب في الانخراط في الحياة العامة عبر أنشطة رياضية تخرج أفضل الرياضيين، وأنشطة فكرية وسياسية تصنع وعيا عاليا بواقع الحياة، بل إن الجامعات تحتضن لقاءات علمية بين الساسة وصناع الرأي العام فتنخرط بذلك مؤسسات التعليم العالي فعليا في قلب المجتمع. لا تزاحم أنشطة التفتح فقرات البرنامج الدراسي، مادام زمن التعلم يمنح لها نصيبا وافرا، ومادامت آلية التقويم تعتمد على قياس القدرة على الاختيار الواعي، ومهارة اتخاذ الموقف المسؤول ولاتُقيم شأنا كبيرا للمعارف ولهذا يغيب في النظام التعليمي الأمريكي ما نطلق عليه "الامتحانات الإشهادية"(3) كما لا يتزاحم التلاميذ والطلبة على تخصصات دراسية معينة، إذ يحفظ المجتمع لأهل الأدب مكانتهم المرموقة؛ فهم مبدعو السناريوهات العجيبة، وكتاب الروايات الواسعة الانتشار، والقضاة والمحامون الذين ينطقون "بصوت الحق" وأهل الفن الذي يشَنّف الأسماع بأعذب الألحان، وصوت الإعلامي الذي يسارع لنقل الخبر وتحليله تنويرا للرأي، والساسة الذين يتصدون للشأن العام. سألت تلميذتنا ما هو المجال المهني الذي ترغبين في التوجّه إليه بعد الباكلوريا (هي الآن مقبلة على الباكلوريا) فتريثت في الإجابة وبابتسامة لطيفة قالت: "لم أحسم بعد في الأمر، ربما الطب أو العلوم الإنسانية، وإن كنت أميل لدراسة الأدب". لا يقلقها الأفق المهني لأن كل الطرق تؤدي للنجاح، سواء التخصص في العلوم التجريبية بكل فروعها أو الدراسات الأدبية بكل ألوانها. وابك على نفسك يا تلميذ الآداب في بلادي! يامن أقنعوك أنك نكرة في عالم المعرفة! ولأن بناء المعرفة خيار مجتمعي وليس مهمة المؤسسات التعليمية فحسب، فإن صناعة الوعي مشروع مجتمعي في المجتمع الأمريكي، وهذا ما سأجليه في الحلقة الثالثة تحت عنوان "أمريكا وصناعة الوعي: الحملة الانتخابية نموذجا". الهوامش: 1-البرنامج العلمي لهذه الدورة زاوج بين اللقاءات العلمية الميدانية وبين لحظات التكوين بجامعة جورج تاون وبالضبط قسم الأديان بقاعة خاصة أطلق عليها المشاركون لقب "القاعة المحبوبة" وعند اجتماع المشاركين بقاعة التكوين بقسم الفلسفة أطلقوا لقب "القاعة المعشوقة" عليها. وهي دعابة لا تخلو من إفادة. 2-نادي التواصل المهني، نادي تربوي أسس منذ سبع سنوات بمؤسسة عمومية للتعليم الثانوي بغرض التربية على الاختيار المهني الواعي والمسؤول، يُنشط النادي دورات تكوينية في آليات الاختيار بتعاون مع أطر التوجيه وذوي الاهتمام المشترك، كما يحرص على عرض نماذج النجاح المهني عبر تنظيم زيارات ميدانية. تم التنويه بتجربة نادي التواصل المهني في 11 و 12 أبريل 2016 عبر أثير الإذاعة الوطنية من خلال برنامج نافذة الصباح، ضمن محور "تعزيز الثقة بالذات" الذي استضاف المشرف العام على النادي. يعمل النادي حاليا على توسيع حضوره بالمؤسسات التعليمية في أفق إحداث "شبكة وطنية لأندية التواصل المهني". ويده ممدودة لمن يهمه الأمر. 3-نفت الأستاذة الضيفة وجود امتحانات على النمط المعتمد على اختبار المعارف الجزئية لأن آلية التقويم تتوجه لقياس درجة اكتساب مهارات الحياة. ولم يسمح الوقت لمزيد من التفصيل. ويمكن التوسع في الموضوع لاحقا. *أستاذ باحث في تواصل الأديانوالثقافات مؤسس مشروع "أندية التواصل المهني".