لا تخفى أهمية الشباب في الحياة السياسية، باعتبارهم من الناحية الديمغرافية يمثلون أكثر من ثلث المجتمع المغربي، ونظرا لتوفرهم على منسوب من المعرفة والوعي يؤهلهم لكي يكونوا أقدر على فهم مختلف التموجات التي يمور بها الحقل السياسي. ومن جهة ثانية، أقدر على التأثير في صناعة القرار السياسي، لكونهم فاعلين محوريين في الوصل بين السياسية والمجتمع، خصوصا بعدما شهدنا حالات من الانفصال بين هذين المستويين. وثالثا لكون هذه الفئة تكون متحللة –نسبيا- من القيود الاجتماعية التي تكون مفروضة على بقية الفئات الاجتماعية. مما يؤهلها أكثر من غيرها لتكون أكثر دينامية في الحياة السياسية. لكن بالرغم من كل الحيثيات السابقة، فإن فئة الشباب فقدت الثقة في العمل السياسي منذ مدة لا تقل عن 30 سنة، بمعنى أن أجيال التسعينيات من القرن الماضي، وجيلي الألفية الثالية، لم يعد لهم من اهتمام بالعمل الساسي/ الحزبي تحديدا. بمعنى الانخراط في التنظيمات السياسية وتنشيط مجالها. ويمكن إرجاع ذلك لعدة أسباب: منها ما هو ثقافي/ فكري قيمي ومنها ما هو حزبي /سياسي عام ومنها ما هو سوسيوتاريخي. فإذا ما تحدثنا عن المكون الأول، فهو يعود إلى تراجع الثقافة السياسية عند الاجيال المتلاحقة من الشباب، بين جيل السبيعنيات والثمانينيات من القرن الماضي عن جيل التسعينيات. وذلك مرده إلى تراجع الدور الريادي الذي كانت تقوم به المدرسة المغربية في ذلك العصر، من حيث درجة تسييس أطرها وأساتذتها، والذين كانوا يشكلون القوى المغذية لتثقيف الشباب وتأهيليهم للحياة السياسية، بما يعينه ذلك من بناء شخصية مستقلة ومسؤولة ومناضلة في الآن نفسه. وقد كانت تلك المرحلة لا يمكن التمييز فيها بين الثانوية والجامعة، على اعتبار أن ما يقع في الجامعة يجد صداه في الثانويات المغربية. وبارتباط مع هذا المكون، كان المستوى الثقافي / القيمي جد مؤثر في ضخ دماء جديدة من الشباب في العمل السياسي، من حيث وجود جو عام ثقافي وفكري (مرتبط بمواد الفلسفة والاجتماعيات السوسيولوجيا) في المؤسسة التعليمية او المعاهد الجامعية، أو بوجود خلفية فكرية تعانق الكتاب والصحيفة والمناشير. وبخصوص المكون الثاني، التنظيمي/ السياسي، ونقصد به البنية الحزبية السياسية والتنظيمية، فهي عرفت هي الأخرى بعض التراجع، من حيث التأطير السياسي والفكري العام للشباب. وفقدان الثقة في زعمائها التاريخيين بسبب مواقفهم من السلطة الحاكمة أو كما نقول في السوسيولوجيا "المخزن". وقد كان لذلك تأثير في عدم إغراء العديد من الشباب للانخراط في هذه التنظيمات، أضف إلى ذلك تعثر المسار الديمقراطي داخل هذه التنظيمات وعدم الوفاء بأخلاقيات العمل السياسي مما ولد شبه "جحود" عند الشباب. لان هذه الفئة جد حساسة في المجتمع، ومثقلة باليوتوبيات وكل تصرف أو اختلال إلا ويؤدي نتائج جد دراماتيكية على العمل السياسي. فعلى سبيل المثال هناك من التنظيمات التي لم تغير رؤسائها طيلة فترات متلاحقة في الزمن، وحرمان فئة الشباب م الوصول فعلى سبيل المثال هناك من التنظيمات التي لم تغير رؤسائها طيلة فترات متلاحقة في الزمن، وحرمان فئة الشباب من الوصول إلى مواقع القرار والمسؤولية. فالعديد من الاحزاب يسيرها شيوخ طاعنون في السن. كل ذلك ادى إلى نفور من العمل السياسي من المشاركة في الحياة السياسية الحزبية. في حين يبقى المكون الثالث، والخاص بالسياسي العام، وهو المتمثل في ما عرفه المغرب من طلاق بين السياسية والمجتمع بحكم الصراع بين الاحزاب الوطنية التقدمية وبين الملك في مرحلة (الحسن الثاني) وقد كان ذلك مؤثرا من حيث بناء (هابيتوس) يزدري العمل السياسي ويعتبره خروجا عن "القانون وعن الاجماع" وعن "الشرعية" وكون العمل السياسي يعني "الثورة" والسجن" و"الاعتقال" . وقد كان ذلك مخطط له من طرف المخزن الذي حاول ان يشوه صورة العمل السياسي في مخيال ووجدان الشباب. كل ذلك أثر في ظاهرة العزوف السياسي عند عموم المغاربة وبشكل خاص عند فئة الشباب المغربي. وهو ما يمكن أن نصفه بموت الساسية. لكن ما التحولات التي حصلت في العقد الاخير والتي جعلت الشباب يتسيس –دون ان يعني ذلك الانتماء إلى العمل الحزبي التنظيمي-؟ في الحقيقة يصعب الحديث عن انشغالات الشباب بنوع من الإطلاقية، لكن المؤكد ان علاقة الشباب بالعمل السياسي ستعرف تحولا عميقا بدء من مرحلة ما سمي "بالربيع العربي" والتي بينت كيف ان الشباب العربي والمغربي تحديدا، والذي استفاد من عدة مكاسب كارتفاع منسوب الوعي والمعرفة عنده وأيضا بتوفر أجواء الحرية (مقارنة مع مرحلة الثمانينيات) وأيضا تملكه لجزء من السلطة عبر وسائط الشبكات الاجتاعية، وميلاد ما سماه أحد الباحثين (آلان تورين) بميلاد الفرد. كل ذلك أدى إلى عودة الشباب للفعل السياسي العام، (ليس بمعناه الحزبي الانتمائي) بقدرما يمثل ارتفاعا في منسوب التسييس والاهتمام بالقضايا العامة والتنموية، ومقارنة وضعه باوضاع شعوب ومجتمعات اخرى، فيجعله ذلك ينتفض ويثور ويحتج، وفي أدنى المستويات يطالب بالتغيير. فكيف يمكن فهم سر هذا التحول؟ شكل عالم الانترنيت، ثورة حقيقية في كل المجتمعات، أحدث تغيرات عميقة في كل شرائح المجتمع ، لكن بصفة خاصة لدى فئة الشباب المتعلم والحضري ، لأن استعمال هذه الأدوات لا زال مقتصرا على الفئات المتعلمة، وبشكل جزئي على بقية الفئات .إلا أن أهم شيء يمكن تسجيله في هذا المسار الذي واكب عملية ذيوع الإنترنيت وسط شرائح كبيرة من المجتمع، هو تملكها لجزء من السلطة التي كانت محتكرة في يد نخبة مهيمنة، والتي كانت تستفرد بالسلطة والثروة والمعرفة والقيم. لكن مع هذا التحول استطاع الفرد العادي والبسيط أن يكون له صوت يسمع ومنبر يتكلم من خلاله وجمهور يتواصل معه. بمعنى آخر لقد تم تجاوز الأحزاب الكلاسيكية في مجموعة من الآليات. ومن خلال هذه الآلية( امتلاك جزء من السلطة)، وبحكم توفر شروط موضوعية، كالموجه الديمقراطية التي عمت كل بقاع الأرض، بدأت التكنولوجيا، ومنها النيت، يوظف من قبل الشباب ليس في "الشاط" كما كنا نعتقد، بل حتى في القضايا السياسية والحقوقية والمصيرية للمجتمع. وقد تنامى مع هذه التحولات، ارتفاع منسوب الوعي السياسي لدى شريحة الشباب. فشباب اليوم لم يعودوا مجرد أرقام، بل أصبحوا ذوات فاعلة. و معنى ذلك أن الشباب أصبحوا مؤثرين في صيرورة القرار، إذ انتقلت مطالبهم من مجرد توفير بعض المطالب المادية، إلى مطالب وتطلعات ذات أبعاد سياسية وهوياتية ووجودية حتى. فرغم تراجع الثقة في الأحزاب الكلاسيكية، لكن مع ظهور الأحزاب ذات المرجعية الدينية (كحزب العدالة والتنمية في المغرب)، أنعش فئة الشباب وأغراها بالعمل السياسي والحزبي، حيث أصبحت هذه الفئة (الشابة) فاعلا "قويا" وطرفا صعبا في المعادلة الحزبية والسياسية. وذلك بالنظر لما تمتلكه من قدرة على اختراق للشبكات الاجتماعية. والتي أصبحت تلعب دورا محوريا في عملية التغيير. و لهذا سنشهد حضورا قويا لهذا الفاعل في الحملات الانتخابية بشكل كبير، ومن يستطيع توظيف هذا الفاعل المؤثر والنافذ –لا محالة- سيحقق نتائج على أرض الواقع. ولهذا فنحن لا نشك في اشتداد التنافس بين الأحزاب السياسية، على استمالة هذا الفاعل إلى جانبها. لكن هناك تحدي مستقبلي يتطلب أن تعيه الشبيبة المغربية، هو أنها في حراكها السياسي سواء الحزبي بمعناه الضيق أو السياسي بمعناه العام، هو أن تتملك رؤية نافذة للأوضاع وللمسلكيات وحيثيات الحكم بالمغرب. بمعنى، أن المسألة لا تتوقف عند الانخراط في صف هذا الحزب أو ذاك، أو المشاركة في الحملة الانتخابية وكفى، بل المطلوب هو تدعيم المسار الديمقراطي والقطع مع كافة أشكال التحكم والهيمنة، وبناء وطن يتمتع فيه الجميع بالحقوق وأداء الواجبات بشكل متساو وفيه إنصاف وعدالة واستحقاق. إنه الرهان الصعب الذي لا زال بعيد المنال في مغرب القرن 21، لاننا نلاحظ كيف تجري الأمور، وأن هناك وجهين لمغرب واحد. مغرب ديمقراطي وآخر تحكمي هيمني يريد العودة بنا إلى زمن المخزن.