أجمع المسلمون على وصف كل من أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب -رضي الله عنهم- ب"الخلفاء الراشدين". ومن العلماء من يعدون الحسن بن علي -رضي الله عنهما- خامسَ هؤلاء الخلفاء الراشدين، ومنهم من يرون أن فترة الحسن لا تعتبر عمليا لشدة قصرها، وبذلك يجعلون عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه- خامسَ الخلفاء الراشدين. فأما تسميتهم "خلفاء"، فلأنهم خلفوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في منصب الإمامة والولاية العامة على المسلمين، ثم خلف بعضُهم بعضا في ذلك. وهي الخلافة المشار إليها في حديث الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي. وسيكون خلفاء فيكثرون..." الحديث. "وأما وصف الخلفاء الأربعة ومن جاء مثلهم وعلى نهجهم بصفة "الراشدين"، فالمعنى فيه واضح أتم وضوح، فخلافتهم وحكمهم قائمان على الرشد والاستقامة والهدى. فهم قد خلفوا رسولَ الله في منصبه ومنهجه. وقد ورد هذا الوصف "الخلفاء الراشدين" في قوله عليه الصلاة والسلام: "... فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ...". فهذا الحديث هو الأصل في إطلاق صفة "الخلفاء الراشدين"، مثلما أنه أصل في تقسيم الخلفاء والحكام إلى راشدين وغير راشدين، أو إلى راشدين وفاسدين. وقد تكررت التنبيهات النبوية على أن الخلفاء والأمراء الذين سيتولون على المسلمين، منهم الصالحون ومنهم الطالحون، ومنهم الراشدون ومنهم الفاسدون، ومنهم من يستحقون الطاعة ومنهم من لا يستحقونها. فمن ذلك: - في صحيح مسلم وغيره عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن عرف برئ، ومن أنكر سلم، ولكن من رضي وتابع. قالوا أفلا نقاتلهم قال: لا ما صلَّوْا". وفي رواية لأبي داود "فمن أنكر بلسانه فقد برئ، ومن كره بقلبه فقد سلم، ولكن من رضي وتابع". - وفي شعب البيهقي عن سعد بن تميم رضي الله عنه قال: "قيل: يا رسول الله ما للخليفة من بعدك؟ قال: "مِثْلُ الذي لي، إذا عدل في الحكم، وقَسط في البسط، ورحم ذا الرحم، فمن فعل غير ذلك فليس مني ولست منه" (صححه الألباني في الإرواء – حديث رقم 1241). فيؤخذ من هذا الحديث أن الخليفة يكون له من الطاعة والعون ومن الصلاحيات مثلُ الذي كان للنبي بصفته حاكما. فرسول الله صلى الله عليه وسلم لا نبي بعده وليس لأحد شيء من مقام النبوة. ولكنه بصفته إماما يكون له حتما خلفاء يقومون مقامه، ويكون لهم ما كان له بهذه الصفة، على أن يتأسوا بصفاته ونهجه في الحكم، ومن ذلك يذكر الحديثُ: - العدل في الحكم بين الناس في حقوقهم ومنازعاتهم، وإعطاء كل ذي حق حقه. - القسط في البسط، أي في بذل الأموال العامة للناس وصرفها في مصالحهم، دون تحيز أو محاباة. - الاتصاف بالشفقة والرحمة وحسن المعاملة لذوي الأرحام، فلا يكون ممن يتنكر ويستعلي على ذوي رحمه إذا علا شأنه وعظم منصبه. فمن لا يرحم ذوي رحمه لن يرحم غيرهم من باب أولى. فهذا هو صنف الولاة الراشدين السائرين على منهاج النبوة. ثم قال عليه السلام محذرا من الصنف الآخر ومتبرئا منه ومن أفعاله: "فمن فعل غير ذلك فليس مني ولست منه". السمات الفارقة بين الحكام الراشدين والحكام الفاسدين باستقراء نصوص الشرع وأحكامه واستنباطات العلماء وشهاداتهم، يمكننا استخلاصُ أهم السمات الفارقة بين حكم الراشدين وحكم الفاسدين، وذلك فيما يلي: 1- الحكام الذين يطلبون الحكم ويحرصون عليه، ويُحصلونه ويحصنونه بكل السبل الممكنة، ويعتبرونه مغنما ومكسبا وفوزا هم حكام فاسدون، بخلاف من يطلبهم الناس ويستنهضونهم ويرشحونهم لحكمهم والولاية عليهم، ويعتبرون الحكم أمانة وتوكيلا، فهم حكام راشدون. 2- من يتولون الحكم عن شورى واختيار ورضى من الناس حكام راشدون، ومن يتولونه على كره من الناس، بغصب أو قوة أو وراثة حكام فاسدون. 3- من يجعلون أمور الحكم والمصالح العامة شورى بينهم وبين شعوبهم، وشورى بينهم وبين أهل العلم والرأي والخبرة هم حكام راشدون، ومن يستبدون بتلك الأمور ويحصرون تدبيرها في أفرادهم وخواص أعوانهم وشركائهم حكام فاسدون. 4- من يُحصنون أنفسهم وحكمهم بالقوة والمنعة والأبهة والترغيب والترهيب حكام فاسدون، ومن يحصنون أنفسهم بالعدل والإحسان والحب والوفاء حكام راشدون. 5- من يقبلون نقدهم والاعتراض عليهم والنصح لهم، بل يطلبون ذلك ويرحبون به، حكام راشدون صالحون. ومن يرفضون ذلك ويمنعونه ويعاقبون عليه حكام فاسدون طالحون. 6- من يتصرفون في الأموال العامة وفق الحق والعدل والأمانة والوضوح، ووفق ما يخدم المصالح العامة، ويقبلون المراجعة والمحاسبة في ذلك، حكام راشدون، ومن يتصرفون فيها على مقتضى أمزجتهم وعلاقاتهم ومصالحهم الخاصة هم حكام فاسدون. ولكن من أهم المعايير التي اعتمدها الشرع وعلماء الشرع في التفريق بين الحكام الراشدين المهديين وغيرهم من المستبدين الفاسدين: معيار التدبير والتصرف في الأموال العامة. وهو المعيار الأخير ضمن ما تقدم ذكره من معايير. وهو بيت القصيد في هذه المقالة. وقد كان معيار النزاهة المالية واضحا ومعتمَدا عند الصحابة في تفريقهم بين نموذج الخلافة الراشدة الذي جاء به الإسلام ونموذج الحكم المُلوكي الكسروي والقيصري، الذي كان سائدا معظمَ أنحاء العالم. فعن سلمان أن عمر بن الخطاب قال له: أمَلِكٌ أنا أم خليفة؟ فقال له سلمان: إن أنت جبيتَ من أرض المسلمين درهما أو أقل أو أكثر، ثم وضعته في غير حقه، فأنت ملك غير خليفة. فاستعبر عمر (أي بكى). بمعنى: أن من أخذ مالا بغير وجه حق، أو أخذه بحق ولكنه صرفه في غير وجه حق، فهو واحد من الملوك المعهودين الفاسدين، وإن أخذه بحق وصرفه في حق، فهو من الخلفاء المهديين الراشدين. فالخلافة الراشدة ليست شعارا يقتنى ولا لقبا يُدَّعى، وإنما هي منهج وسلوك وعمل. وعن سفيان بن أبي العوجاء قال: قال عمر بن الخطاب: والله ما أدري أخليفة أنا أم ملِك؟ فإن كنتُ ملكا فهذا أمر عظيم (أي بالغ السوء والخطورة). قال قائل: يا أمير المؤمنين إنَّ بينهما فرقا، قال: ما هو؟ قال: الخليفة لا يأخذ إلا حقا، ولا يضعه إلا في حق، فأنت بحمد الله كذلك، والملك يعسف الناس فيأخذ من هذا ويعطي هذا. فسكت عمر. (انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد 3 / 306 - كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال - 12/567) وهذا المعيار من معايير الحكم الراشد قد أرست قواعدَه نصوص شرعية عديدة. - منها ما أخرجه البخاري عن خولة الأنصارية قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إن رجالا يتخوضون في مال الله بغير حق، فلهم النار يوم القيامة". قال ابن بطال في شرحه للحديث: "وفيه ردع للولاة والأمراء أن يأخذوا من مال الله شيئًا بغير حقه، ولا يمنعوه من أهله" - ومنها حديث الصحيحين عن أبى هريرة قال: قام فينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره ثم قال «لا ألفين أحدكم يجىء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء يقول يا رسول الله أغثني، فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجىء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة فيقول يا رسول الله أغثني، فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجىء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء يقول يا رسول الله أغثني، فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجىء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح فيقول يا رسول الله أغثني، فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجىء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق فيقول يا رسول الله أغثني، فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجىء يوم القيامة على رقبته صامت فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك». وقد كان عمر رضي الله عنه النموذجَ الأقوى في التطبيق الصارم لهذا المعيار. من ذلك ما أخرجه ابن زنجويه -في كتاب الأموال (2 / 331)- عن الأعمش، عن زيد بن وهب قال: أرسل عمر إلى عبد الرحمن بن عوف يستسلفه أربعمائة درهم، فقال عبد الرحمن: أتستسلفني وعندك بيت المال؟ ألا تأخذ منه ثم ترده؟ فقال عمر لابن عوف: أن يصيبني قدري (يقصد الوفاة)، فتقول أنت وأصحابك: اتركوا هذا لأمير المؤمنين، حتى يؤخذ من ميزاني يوم القيامة! ولكني أستسلفها منك لما أعلم من شحك، فإذا مت جئت فاستوفيتها من ميراثي. وفي موطأ الإمام مالك -وغيره- عن زيد بن أسلم عن أبيه أنه قال: خرج عبد الله وعبيد الله ابنا عمر بن الخطاب في جيش إلى العراق، فلما قفلا مرا على أبي موسى الأشعري -وهو أمير البصرة- فرحب بهما وسهل، ثم قال لو أَقْدِرُ لكما على أمر أنفعكما به لفعلت. ثم قال: بلى ها هنا مال من مال الله أريد ان أبعث به إلى أمير المؤمنين، فأسلفكماه فتبتاعان به متاعا من متاع العراق ثم تبيعانه بالمدينة، فتؤديان رأس المال إلى أمير المؤمنين ويكون الربح لكما فقالا وددنا ذلك ففعل وكتب إلى عمر بن الخطاب أن يأخذ منهما المال فلما قدما باعا فأربحا فلما دفعا ذلك إلى عمر قال أكل الجيش أسلفه مثل ما أسلفكما قالا لا فقال عمر بن الخطاب ابنا أمير المؤمنين فأسلفكما أديا المال وربحه فأما عبد الله فسكت وأما عبيد الله فقال ما ينبغي لك يا أمير المؤمنين هذا لو نقص هذا المال أو هلك لضمناه فقال عمر: أدياه. فسكت عبد الله وراجعه عبيد الله، فقال رجل من جلساء عمر: يا أمير المؤمنين لو جعلته قراضا، فقال عمر قد جعلته قراضا. فأخذ عمر رأس المال ونصف ربحه وأخذ عبد الله وعبيد الله ابنا عمر بن الخطاب نصف ربح المال. في ضوء ما سبق ننظر فيما أحدثه الملوك والحكام -في هذا الزمان وفي قديم الزمان- من وجوه التصرف في الأموال العامة. • فهناك الاغتناء الشخصي والعائلي للحكام وذويهم، من خلال الأخذ من المال العام، ومن خلال امتيازات وإعفاءات غير مشروعة لفائدة أعمالهم التجارية والصناعية والزراعية. ومثل هذا أو قريب منه يتاح للأعوان والمقربين والنافذين لدى الحكام وأقاربهم. • وهناك إعطاء المال العام لعلماء وأدباء وكُتَّاب وصحفيين وكذابين، ونحوهم من المؤيدين والمناصرين، لا لشيء إلا لخدمتهم وتأييدهم ومدحهم للحاكم وحزبه وسياسته. • وهناك الصرف السري للمال العام. وأعني به كل صرف لا يُكشف عنه وعن تفاصيله أمام الملأ، ولا يخضع للمراقبة والمحاسبة. وصرف المال لا يكون سريا إلا وفيه ما فيه. ولذلك فكل صرف سري فهو غير شرعي ولا يجوز، حتى يثبت العكس. وفي صحيح مسلم قال عليه الصلاة والسلام: "والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس". فمن يصرف من أموال الأمة ما يكره أن يطلع عليه الناس، فهو آثم متخوض في مال الله بغير حق. • ومن وجوه الصرف السري للأموال العامة: - الصرف السري على أعمال وأجهزة سرية، لا يدري الناس ماذا تعمل وكيف تعمل. - دفع مكافآت ورواتب سرية غير مقيدة في سجلات الموظفين المعروفين. - بذل نفقات سرية للضيافات والحفلات والمكافآت (تذاكر سفر، إقامات، هدايا...) - تمويلات سرية لأحزاب ومنظمات وأنشطة مشبوهة. - اتخاذ صناديق سود تكون تحت تصرف الحاكم بلا حسيب ولا رقيب، ويكفيها قبحا وصفها بالسود. - تقديم دعم مالي سري لدول وحكام أصدقاء وحلفاء، وليس للأمة ضرورة إلى ذلك. • هذا عن الإنفاق غير المشروع على أمور تكون مباحة مشروعة في أصلها أو في وجه من وجوهها. وأما حين يكون الإنفاق في غير محله ومن غير وجهه، ولكنه أيضا في أعمال هي من أصلها محرمات ومفاسد، فتلك ظلمات بعضها فوق بعض. ومن أمثلة ذلك: الإنفاقُ على أجهزة ظلامية تقتل الناس أو تعذبهم أو تظلمهم أو تخوفهم بأي وجه كان. وكذلك الإنفاق على ما فيه نشر للفساد والانحلال والرذيلة واللا دينية، كبعض المهرجانات وبعض الإنتاجات التلفزيونية والسينمائية والأنشطة الثقافية المضادة للأمة ولدينها وأخلاقها ومصالحها. فإن صرف أموال الشعوب على مثل هذه الأمور لهو من أظهر مظاهر الفساد في الحكم، بل هو إجرام سياسي مركَّب. عن الجزيرة.نت