ولي العهد الأمير الحسن يستقبل الرئيس الصيني بالدار البيضاء الذي يقوم بزيارة قصيرة للمغرب    المغرب يدعو إلى هامش أكبر من الاستقلالية المادية لمجلس حقوق الإنسان    تحطم طائرة تدريب يودي بحياة ضابطين بالقوات الجوية الملكية    متابعة موظفين وسماسرة ومسيري شركات في حالة سراح في قضية التلاعب في تعشير السيارات    هل يؤثر قرار اعتقال نتنياهو في مسار المفاوضات؟    عشر سنوات سجنا وغرامة 20 مليون سنتيما... عقوبات قصوى ضد كل من مس بتراث المغرب        رسميا: الشروع في اعتماد 'بطاقة الملاعب'    أبناء "ملايرية" مشهورين يتورطون في اغتصاب مواطنة فرنسية واختطاف صديقها في الدار البيضاء    الحكومة توقف رسوم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام    الصحراء: الممكن من المستحيل في فتح قنصلية الصين..        المغرب التطواني يقاطع الإجتماعات التنظيمية مستنكرا حرمانه من مساندة جماهيره    أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    الحزب الحاكم في البرازيل يؤكد أن المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء يرتكز على مبادئ الحوار والقانون الدولي ومصالح السكان    تعيينات بمناصب عليا بمجلس الحكومة    مجلس الحكومة يصادق على مشروع مرسوم بوقف استيفاء رسم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام الأليفة    "بتكوين" تقترب من 100 ألف دولار مواصلة قفزاتها بعد فوز ترامب    الرباط : ندوة حول « المرأة المغربية الصحراوية» و» الكتابة النسائية بالمغرب»    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية    القوات المسلحة الملكية تفتح تحقيقًا في تحطم طائرة ببنسليمان    استطلاع: 39% من الأطفال في المغرب يواجهون صعوبة التمدرس بالقرى    "الدستورية" تصرح بشغور مقاعد برلمانية    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن        رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جامعي مغربي يرصد تناقضات "خُدام الدولة" و"خُدام الوطن"

هيمنت مؤخرا كلمتا "خدام الدولة" على الخطاب الصحفي المغربي والخطاب الشبكي التفاعلي. وبغض النظر عن الشروط الموضوعية المنتجة لهذا الخطاب (بعبارة أخرى خلفياته)، وبغض النظر عن الإخراج المشهدي للخبر/الأخبار التي مثلت الدعامة الأساسية لخطاب "خدام الدولة"، ففي نظري لا يعدو أن يكون الأمر مجرد ظهور موسمي لمسألة ذات عمق جوهري، وهي مسألة الدولة والمواطن في علاقتهما المتنافرة والتي لم تستقر بعد.
من المفروض في نظام ديمقراطي أن تكون العلاقة دولة- مواطن علاقة تماهٍ وليس علاقة تنافر. علاقة تماهٍ لأن المواطن لا يمكن أن يحقق ذاته بدون دولة تحميه، والدولة لا يمكن أن تحقق ذاتها بدون مواطن يدخل مع الدولة في اعتراف مزدوج: الواحد يعترف بالآخر والواحد يحتاج إلى الآخر. هذا ما أسميه علاقة التماهي.
غير أن في المغرب للدولة مفهوم آخر. ففي نظام شبه ديمقراطي (أو شبه لا ديمقراطي، "كيف كيف") تميل الدولة إلى أن تكون دولة البعض على حساب البعض، أو بعبارة أخرى، دولة الأقلية على حساب الأغلبية. وبمعنى آخر، دولة في خدمة الأقلية على حساب الأغلبية. من هذا المنظور تكون الدولة المغربية غير بعيدة عن التعريف البدائي (الأصلي) للدولة في اللغة العربية؛ حيث تعني بالضبط الاستيلاء والغلبة.
"خدام الدولة"
في نظام شبه ديمقراطي، تتحول الدولة إلى أداة لخدمة الأقلية النافذة، سواء كان أصل هذه الأقلية من الأعيان بالولادة أو الأعيان الجدد الوافدين من نظام حزبي يسمح بالارتقاء إلى لقب الأعيان (يستوي في ذلك الليبرالي بالإسلامي والشيوعي بالاشتراكي)، أو من أولئك الذين نالوا لقب الأعيان نتيجة مغامرات لا شرعية (تهريب، نهب، مخدرات...) أو من أولئك الذين يتم اختيارهم بعناية لشغل مقاعد المجالس الإدارية للوكالات والمجالس الوطنية الاستشارية، أو أولئك الذين تم استدراجهم بعد أن تألق "نجمهم" خارج الوطن كخبراء أو فنانين أو معارضين، مع ملاحظة أن كثيراَ من هؤلاء الأعيان يدخلون ضمن خانة "المحميين الجدد"(1). وعندما تتحول الدولة إلى أداة، يتحقق التماهي الذي أشرت إليه في بداية هذا الكلام، لكنه تماه ناقص لأنه يهم الأقلية فقط. التماهي هنا يتشكل في إطار منفعة متبادلة: فخدام الدولة يشكلون في الوقت نفسه دولة الخدام (بدل دولة المواطنين في الأنظمة الديمقراطية).
دولة الخدام هي نقيض لدولة المواطنين. دولة المواطنين يستفيد من منافعها العامة كل المواطنين، بينما دولة الخدام يستفيد من منافعها العامة جزء فقط من المواطنين (هذا إن كانوا يعتبرون أنفسهم مواطنين).
دولة الخدام هي خاصية محلية لنظام شبه تقليدي (أو شبه عصري، "كيف كيف"). فمنذ أن كان الملوك في الماضي يحركون "حركاتهم" لتأديب القبائل بهدف الاستيلاء على مقدراتها وبسط الغلبة عليها، مرورا بتوزيع أراضي المعمرين والأراضي الجماعية والسلالية على الأعيان المحليين، وصولاً إلى خلق مناصب عليا لا حاجة للمجتمع إليها فقط لإرضاء "خدام الدولة"، وتقديم تعويضات مالية سخية لأعضاء غرف برلمانية تشتغل في حدها الأدنى (أحيانا يتم التصويت على قوانين مصيرية بأغلبية 3 أو 4 برلمانيين من أصل 350)، وتفويت امتيازات استغلال المعادن ورخص وسائل النقل ورخص الصيد، وتفويت أراض فلاحية منتجة وعقارات حضرية غالية على بعض "خدام الدولة" أو على بعض شركات خدام الدولة بثمن رمزي، أو توظيف أبناء "خدام الدولة" في مناصب عليا بدون مراعاة التنافس الديمقراطي... كل ذلك يشكل الحلقات نفسها لمنطق الريع الذي يشكل البنيان الأساسي لمنظومة الدولة شبه التقليدية/شبه العصرية.
نتيجة انحصار تماهي الدولة مع البعض دون الكل، وقع اختلاف وخلط في مفهوم الدولة، خصوصاَ ضمن الدائرة الضيقة للمنتفعين من خدام الدولة: فهناك من يتحدث عن الحكومة مقابل الدولة ناسياَ أو متناسياَ أن الحكومة جزء من الدولة؛ وهناك من يستنجد بالدولة مع العلم أنه متواجد داخل الدولة (مثال: استنجاد رئيس الحكومة بالدولة إثر قوله "عيطو على الدولة" بدلاً من "عيطو على الأمن"). ومن طرائف تعريف الدولة ما قاله أحد السياسيين أثناء مشاركته في ندوة (وهو بالمناسبة هوموبوليتيكوس انتقل من الحركة الشعبية إلى الاتحاد الاشتراكي إلى حزب الأحرار كما ينتقل الرحل بحثاَ عن العشب المفيد)؛ حيث قال: "الدولة هي الملك ووزير الداخلية والولاة والعمال"، وبذلك يكون قد رمى بالبرلمان والقضاء والحكومة والمجلس الدستوري خارج دائرة الدولة وكأنها مجرد إدارات.
خدام الوطن
مقابل "خدام الدولة" الذين يمثلون كاسطة (2) مرتبطة بالنظام شبه الديمقراطي، هناك فئة أخرى من الخدام الحقيقيين الذين يمثلون صمام أمان للدولة والمجتمع معاَ: هذه الفئة، خلافاَ للأولى، تتسم باتساع قاعدتها واعتمادها على نفسها من خلال رأسمالها (الرمزي بالأساس) المتمثل في الكفاءة والفعالية من جهة، وفي يقظة الضمير والدفاع عن المبادئ والقيم الجماعية. إنهم ببساطة ما يمكن أن نصطلح عليهم بجنود الخفاء.
ضمن هذه القاعدة العريضة من المجتمع، هناك من يتموقع في الطليعة وهناك من يتموقع في الخلفية. هؤلاء هم الحماة الحقيقيون للوطن والمجتمع والدولة. إنهم بالرغم من كونهم جنود خفاء، فمهامهم العظيمة وإنجازاتهم مرئية للعيان: إنهم الجنود والمدرسون المربون وأساتذة الجامعات وقوات الأمن والوقاية المدنية وأطباء وممرضو القطاع العمومي والقضاة النزهاء وتقنيو الإدارات والجماعات المحلية والعاملون المتطوعون في منظمات المجتمع المدني. جميع هؤلاء، بالرغم من الاجهازات المتكررة على مكتسباتهم المادية والمعنوية وبالرغم من تضررهم من تردي مستوى المعيشة ومن تراجع قيم المعاش بعد التقاعد... جميعهم يتواجدون في خندق واحد: خندق الدفاع عن الوطن والمواطنين، مهما كلفهم ذلك من ثمن.
- الجنود: هم أصلاَ أولاد الشعب؛ إذ لا يلج هذه المهنة، عموماَ، سوى من انقطعت بهم سبل الترقية الاجتماعية من أبناء الفلاحين الفقراء وسكان هوامش المدن. إنهم حماة الوطن وعيونه التي لا تنام. تضحياتهم لا توازيها تضحيات أخرى وهم مستعدون دوماَ، وفي جميع الظروف، لحماية الدولة والوطن، يتقاضى الجزء العريض منهم؛ أي من هم في أسفل الهرم، أجوراَ تتراوح بين 235 و412 دولاراَ أمريكيا (1135 دولارا للجندي الإسباني و1950 دولارا للجندي الأمريكي العادي). كثير من عائلاتهم تسكن في أحياء الصفيح في هوامش المدن أو بالقرب من الثكنات. وعندما يتقاعدون، يحصلون على معاش في حدود 1500 درهم شهرياً. وتوجد حالات لأرامل جنود تتقاضى معاشاَ شهرياَ من 20 درهم.
- المدرسون المربون وأساتذة الجامعات: هؤلاء هم صلب النظام التربوي الذي لا تقوم دولة عصرية إلا على أساسه، بل إن النظام التربوي هو كالقضاء، مكون أساسي من مكونات تعريف الدولة. إضافة إلى الشروط الصعبة والمجحفة جداَ والتي يشتغل فيها هؤلاء، خصوصاَ في البوادي والمناطق النائية (الحارة أو الباردة أو الصعبة الولوج)، فهم يعتمدون في تحقيق مسارهم المهني على أجور لا تتلاءم مع القدرة الشرائية التي تتباعد باستمرار عن تكلفة المعيشة المرتفعة على الدوام، ناهيك عن مخاطر العمل.
- قوات الأمن والوقاية المدنية: تماماَ مثل الجنود، يعتبر دور قوات الأمن والوقاية المدنية مكملاَ لدور الجنود. فإن كان الجنود مكلفين بالأمن الخارجي أساساَ (حراسة الحدود)، فقوات الأمن والوقاية المدنية تتكلف بالأمن الداخلي، هذا الأمن الذي أصبحت مخاطره في ازدياد لافت نتيجة لانتشار الجريمة والمخاطر البيئية المختلفة. يومياَ لا تعرض قوات الأمن نفسها للسعات الشمس المفرطة فقط، بل لمخاطر حقيقية تداهمها باستمرار أثناء مزاولتها لمهامها، إضافة إلى معاناة النظرة الدونية الضيقة لكثير من المواطنين الذين يحكمون على فساد هذه الفئة انطلاقاَ من تجارب متفردة (حوتة كتنخنز شواري).
- أطباء وممرضو القطاع العمومي: هؤلاء، مثلهم مثل المدرسين المربين وأساتذة الجامعات، باعتبارهم واجهة للدولة أمام انتظارات المواطنين في ما يتعلق بالعلاج والوقاية الصحية، يعيشون في الغالب معاناة مزدوجة: معاناة العمل في ظروف صعبة (العمل في مناطق نائية أو في ظل الافتقار إلى وسائل العمل الطبية) ومعاناة تعرضهم اليومي لطلبات واحتجاجات وإحراج المواطنين من حيث كونهم الواجهة الرئيسية للصحة العمومية، ناهيك عن هزالة أجورهم، خصوصاَ إذا قارناها بأجور أطباء القطاع الخاص.
- القضاة النزهاء: يعتبر القضاء من الدعامات الرئيسية للدولة الحديثة، ولا تستقيم دولة بدون قضاء نزيه وفعال ومنتج. وبغض النظر عما تسوقه الصحافة من فساد في الجسم القضائي، فإن المغرب يتوفر على جيش من القضاة النزهاء الذين يحمون مصالح الأفراد والجماعات إحقاقاً للعدالة وإعمالاً للقانون. القضاة النزهاء، تماما مثل الجنود وقوات الأمن والوقاية المدنية، يسهرون بثبات ورباطة جأش على تماسك المجتمع والدولة من خلال الاحتكام إلى القانون.
- تقنيو الإدارات والجماعات المحلية: هم عموماَ جيش من الموظفين والمتصرفين الذين يسهرون على خدمة المواطنين، كل حسب اختصاصاته. وبالرغم من تشويه سمعتهم من طرف ثلة قليلة من الفاسدين والموظفين الأشباح المحميين، فإن غالبيتهم تعتبر بمثابة الشرايين التي تتدفق فيها دماء الدولة والمجتمع معاَ. إنهم "خدام" الدولة الذين يعملون بتفان ويعانون في صمت.
- العاملون المتطوعون في منظمات المجتمع المدني: يوجد حالياَ في المغرب أزيد من 100.000 جمعية مسجلة، وككل قطاع، هناك تنظيمات فاسدة وأخرى سليمة. على رأس منظمات المجتمع السليمة نجد مئات، بل آلاف العاملين المتطوعين (الذين يشتغلون بدون مقابل عدا الإيمان بجدوى تطوعهم) الذين يعملون على تغيير واقع بئيس يرون أن بالإمكان الرقي به إلى ما هو أحسن (في مجال الإعاقة كما في مجال محاربة الفقر والعوز، أو في مجال التنمية الاجتماعية وتنمية القدرات الذاتية للمواطنين الذين يوجدون في وضعية الضعف والهشاشة، أو في مجال التربية على المواطنة وحقوق الإنسان). هؤلاء العاملون المتطوعون هم أيضاَ يساهمون في بناء الدولة وخدمتها، باعتبار أن تقوية قدرات المجتمع المدني وتنظيمه الذاتي تساهم في تقوية أسس الدولة وفي تقوية مشروعيتها في علاقتها مع المجتمع.
هؤلاء الذين أسميهم "خدام الوطن" بالتعارض مع "خدام الدولة" لا يقلون أهمية من حيث مستوى التضحيات ومن حيث الدفاع عن الدولة والوطن معاَ. هم لا يستغلون الفرص لينقضوا على الملك العمومي والمال العمومي، ولا يستغلون مناصبهم ووضعياتهم وكفاءاتهم للاغتناء على حساب "امتيازات الدولة، سواء كانت هذه "عميقة" أم "غير عميقة". كل ما يقوم به هؤلاء، كل حسب منصبه ووضعيته وكفاءته، هو تقديم خدمات تعتبر واجباَ ضمن التوزيع الاجتماعي للعمل: واجب يفرضه الضمير المهني كما تفرضه علاقات التعاون والتضامن الضرورية لبناء المجتمع والدولة معاَ.
هؤلاء يمكن أن يتفهموا كيف أن "المحميين الجدد"، ولصوص الدولة والمجتمع معا، الناهبون للرمال والمعادن والثروات البرية والبحرية، وأباطرة المخدرات، وشبكات الإجرام... هؤلاء يمكن أن يتفهموا الاغتناء الفاحش لهذه "الماركة" من البشر لكنهم لا يمكن أن يتفهموا كيف لزعماء أحزاب سياسية أو موظفي الدولة السامين أو بعض رؤساء المجالس الاستشارية... أن يستعملوا الدولة للوصول إلى النتيجة نفسها: الاغتناء الفاحش بدون وجه حق. وبالطبع، هناك من "خدام الدولة" بعض الاستثناءات التي تكتفي بأجورها وتعمل وفق ضمير مهني عال، بل إن هناك بعض العمال القدامى لا يملكون حالياً إلا شقة عادية كأي مواطن.
في نظر "خدام الوطن"، الفئة الأولى منحرفة واغتناؤها غير مشروع، وبالتالي فدولة القانون لا شك ستضع أيديها عليها وعلى ثرواتها مهما طال الزمن، لكن الفئة الثانية هي مبدئياَ غير منحرفة، لأنها تمثل بالضبط القوة الرادعة للانحراف، فلا يمكن الجمع بين محاربة الانحراف والانحراف معاَ.
بعض المغاربة يستسلمون بسرعة لواقع الفساد، وباستسلامهم يبررون هذا الواقع. نراهم تارة يعممون الفساد على الكل (كقولهم: الجميع لصوص إلا من لم يجد منفذاَ لذلك) أو تراهم يشجعون على أخذ الحق باستعمال أسلوب الفاسدين نفسه (كقولهم: خذ حقك كما يفعل الجميع).
تعميم الأحكام مضر للغاية "بخدّام الوطن" ومفيد للغاية "لخدّام الدولة". إن لخدام الوطن وظيفة ورسالة: وظيفة جوهرها العمل والإنتاج لتحقيق توازن المجتمع، ورسالتهم هي بالأساس رسالة تربوية: بالضمير المهني والتعاون والتضامن نبني الدولة والوطن معاَ.
لتفكيك التناقض بين "خدام الدولة" و"خدام الوطن" سأستعرض بعجالة قصة طريفة، وهي قصة لا تخلو من "ذاتية" لكني أدعو القارئ إلى تجاوز ما هو ذاتي لفهم الإشكال.
عندما استقرت قناعتي على العمل من داخل وضمن المجتمع المدني كان ذلك اختياراَ استراتيجياَ بالنسبة لي، لذا حرمتُ على نفسي "العمل السياسي" لأنني دائماَ من وجهة نظر إستراتيجية، كنت أرى مؤقتاَ، أنه عمل غير منتج من الناحية الاجتماعيةَ، في ظل الظروف التي يشتغل فيها السياسي المغربي. كنت أعرف أن هذا الرهان متعدد المخاطر ويحتاج إلى تضحيات وأداء ثمن هذه التضحيات.
خلال 18 سنة قُدتُ (من القيادة) بقناعة وشجاعة وإصرار وثبات وإنكار للذات وتضحيات قل نظيرها، في ظل ظروف جد محبطة، وبالموازاة مع عملي الأكاديمي كأستاذ جامعي الذي أديتُه الجدية نفسها والتفاني ذاته، تجربة جمعوية رائدة كانت نتائجها مدهشة في رقعة كبيرة من جغرافية الريف تمتد من الناظور الى الحسيمة:
- بناء وتجهيز وتأطير40 مدرسة ابتدائية مندمجة حسب مواصفات راقية يستفيد منها 4000 طفل سنويا
- بناء وتجهيز داخلية للبنات تستفيد منها 100 تلميذة قروية سنوياَ
- دعم تجهيزات وزارة الصحة بعيادتين متنقلتين مجهزتين بأرقى التكنولوجيات الطبية خاصتين بصحة الأم والطفل (فكرة تطبق لأول مرة في المغرب)
- دعم تجهيزات وزارة الصحة بحافلتين للتحسيس الصحي والسكاني (واحدة للناظور وأخرى للحسيمة)
- دعم وزارة الصحة ب 8 سيارات إسعاف مجهزة تجهيزا طبياَ كاملا (5 للناظور و3 للحسيمة)
- تأهيل وتجهيز قسم الإنعاش بالمستشفى الإقليمي بالناظور
- بناء وتجهيز وتأطير 7 مراكز لتأهيل المرأة حرفيا ومدنيا وحقوقياً تستفيد منها 2000 امرأة سنوياَ
- المساهمة في بناء مركز سوسيوتربوي يستفيد منه شباب جماعة حضرية تعداد سكانها ستون ألف نسمة
- تنظيم وتأطير معرض وطني سنوي لمنتجات التعاونيات النسائية تستفيد منه عشرات التعاونيات
- تأهيل وتجهيز وتأطير مركز لمهن البناء يستفيد منه 100 شاب عاطل سنويا
- تأسيس وبناء وتجهيز وتأطير 7 تعاونيات فلاحية ونسائية وخدماتية يستفيد منها أزيد من 500 متعاون
- بناء نظام للري التقليدي يستفيد منه حوالي 100 فلاح
- تشييد سد تلي لدعم تدفق المياه الجوفية
- بناء نظام محلي لتزويد 2000 قروي من الماء الصالح للشرب
- المساهمة الفعالة، ماديا وتنظيميا، في دعم متضرري زلزال الحسيمة
- المساهمة الفعالة، ماديا وتنظيميا، في دعم متضرري موجات البرد في الأطلس المتوسط
- تنظيم عشرات اللقاءات التكوينية والتحسيسية في مجالات تهم المرأة والشباب العاطل وحقوق الإنسان والحقوق اللغوية والثقافية
- تنظيم حملات دورية للتبرع بالدم
- تنظيم ندوات علمية بشكل دوري وعلى مدار السنة
- وغير ذلك كثير...
مع الإشارة إلى أن اثنين من هذه المشاريع تم تدشينها من طرف الملك، كما أعاد تدشين مشروع ثالث (العيادة المتنقلة).
هذا العمل مكّننا، كمجتمع مدني، من المساهمة في الحد من البطالة الشبابية من خلال توظيف عشرات الشابات والشباب في مختلف مشاريع الجمعية وصل عددهم الإجمالي إلى أزيد من 150، كما مكّننا من تشغيل عدد من المقاولات الصغرى (دون احتساب فرص العمل التي خلقتها)، إضافة إلى ضخ عشرات الملايين من الدراهم بالعملة الصعبة في خزينة الدولة.
هذه الإنجازات الجبارة هي صنيعة "خدام الوطن". ونحن، عندما اخترنا العمل في هذه الواجهة، لم نكن ننتظر مقابلا لذلك: لا مقابلا مادياَ ولا تكريماَ معنوياَ ولا أصواتاَ في الانتخابات. الفرق بيننا وبين "خدام الدولة" واضح: نحن نعطي للوطن (وللدولة)، و"خدام الدولة" يأخذون من الوطن (ومن الدولة). خدام الدولة يستفيدون من الدولة، وخدام الوطن يستفيد منهم المجتمع والدولة. هذا هو الفرق.
من مفارقات قيادتي لهذه التجربة الرائدة بقناعة وشجاعة وإنكار للذات (أكررها بكل اعتزاز وفخر)، أنني خسرت ترقية أكاديمية إلى الأبد (نتيجة لعدم تقديم ملف ترقيتي في الوقت المناسب عندما كنتُ منهمكاً، في الوقت ذاته، في قيادة العمل الاجتماعي وتأطير طلبتي) قدرها 7000 درهم شهرياَ. ومن غرائب الصدف أن عائلتي (وأنا ضمنها) كانت ضحية نزع ملكية جدي بثمن رمزي (حوالي 4000 متر مربع) لبناء مدرسة ابتدائية، ونزع القطعة الوحيدة التي كانت متبقية لنا (والتي كنتً أنوي بناء دار فيها تأويني في تقاعدي لأنني لا أملك داراً حتى الآن) وهي قطعة تعود إلى أمي (420 مترا مربعا) أضيفت إلى ملكيات أخرى لبناء مسجد جديد مجاور لمسجدين (الواحد على بعد 50 مترا والآخر على بعد 150 مترا)، دون أن نتلقى أي تعويض إلى حد الآن. للإشارة فإن المسجد الجديد من اقتراح وتنفيذ خدم من "خدام الدولة". هنا يمكن بسهولة ملاحظة كيف أن "خدام الدولة" يستفيدون من ملكيات عمومية بثمن رمزي، وكيف تقوم دولة الخدام بنزع الملكيات الخاصة لخدام الوطن بثمن رمزي أيضا. يا للمفارقة!
من مفارقات هذه التجربة الذاتية أيضاَ أن المدرسة التي بُنيت على أرض جدي كانت في الأصل تسمى "مجموعة مدارس سيدي ورياش" (نسبة إلى جدي الأكبر)، وعندما تم بناء المدرسة الجديدة، تحول اسمها إلى مدرسة الإمام الغزالي. نحن هنا أمام اغتصابين: اغتصاب الأرض واغتصاب الاسم.
من المفارقات أيضاَ أن صديقتي في الطفولة، تلك التي كانت تشاركني المقعد المدرسي في "مدرسة سيدي ورياش"، لم تتعرض لنزع ملكية بثمن رمزي مثلي، بل بالعكس، استفادت من 2000 متر مربع في الرباط لمجرد أنها زوجة لأحد "خدام الدولة"!
هذه القصة الطريفة ترددت كثيراَ في سردها مخافة أن تُقرأ قراءة خاطئة، لكني أردت أن أرسل رسالة من خلالها: من السهل في المغرب أن تكون من "خدام الدولة" نظراَ للإغراءات الكثيرة التي توفرها الدولة، لكن من الصعب أن تكون من "خدام الوطن" لأنك تختار منذ البداية طريقاَ مليئاَ بالمخاطر ويحتاج إلى تضحيات.
طريق خدام الدولة يمكن أن يُحوّل ابن فلاح مُعدم كان يعاني من سوء التغذية إلى أحد كبار الملاك وكبار أعيان البلد، كما يمكن أن يحول مهندساً بسيطاً أو مناضلا يسارياً من الطابور الخامس إلى أحد كبار الملاك وكبار أعيان البلد.
أما طريق "خدام الوطن" فهو طريق آخر، لا يمكن إدخاله في عمليات حسابية (أي عمليات الربح والخسارة) لأنه بكل بساطة طريق يحصن الدولة والوطن معاَ في اتجاه تقوية تماهي المواطن مع وطنه ومع دولته، تماهٍ لا يمكن أن يتم إلا عندما تكون الدولة متضامنة مع كل مواطنيها، وليس فقط مع جزء يسير من مستوطنيها.
الدولة لا يخدمها كبار الموظفين وكبار "رجالات الدولة" وكبار الفقهاء والعلماء والرواة فقط، ولكن يخدمها أيضاَ الجندي المجهول: الجنود والمدرسون المربون وأساتذة الجامعات وقوات الأمن والوقاية المدنية وأطباء وممرضو القطاع العمومي والقضاة النزهاء وتقنيو الإدارات والجماعات المحلية والعاملون المتطوعون في منظمات المجتمع المدني.
________________________________________
(1) أقصد بالمحميين الجدد تلك الطبقة من المغاربة التي تغتني على حساب المغاربة، وعندما يشتد عودها تتجنس بجنسيات أجنبية للدفاع عن مصالحها الجديدة.
(2) الكاسطة: أقرب كلمة بالعربية هي عبارة "الطائفة". ونظام الكاسطات هضم المعمول به في الهند، حيث الثروة والجاه يتوارثان، وحيث الفقر والبؤس يتوارث أيضاً.
* أستاذ جامعي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.