ترامب يهدد بمحاولة استعادة قناة بنما    هيئة المعلومات المالية تحقق في شبهات تبييض أموال بعقارات شمال المغرب    المغرب يخطط لإطلاق منتجات غذائية مبتكرة تحتوي على مستخلصات القنب الهندي: الشوكولاتة والدقيق والقهوة قريبًا في الأسواق    تشييع جثمان الفنان محمد الخلفي بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء    فريق الجيش يفوز على حسنية أكادير    شرطة بني مكادة توقف مروج مخدرات بحوزته 308 أقراص مهلوسة وكوكايين    دياز يساهم في تخطي الريال لإشبيلية    فرنسا تسحب التمور الجزائرية من أسواقها بسبب احتوائها على مواد كيميائية مسرطنة    المغرب يوجه رسالة حاسمة لأطرف ليبية موالية للعالم الآخر.. موقفنا صارم ضد المشاريع الإقليمية المشبوهة    المغرب يحقق قفزة نوعية في تصنيف جودة الطرق.. ويرتقي للمرتبة 16 عالميًا    حفيظ عبد الصادق: لاعبو الرجاء غاضبين بسبب سوء النتائج – فيديو-    وزارة الثقافة والتواصل والشباب تكشف عن حصيلة المعرض الدولي لكتاب الطفل    فاس.. تتويج الفيلم القصير "الأيام الرمادية" بالجائزة الكبرى لمهرجان أيام فاس للتواصل السينمائي    التقدم والاشتراكية يطالب الحكومة بالكشف عن مَبالغُ الدعم المباشر لتفادي انتظاراتٍ تنتهي بخيْباتِ الأمل    مسلمون ومسيحيون ويهود يلتئمون بالدر البيضاء للاحتفاء بقيم السلام والتعايش المشترك    الرجاء يطوي صفحة سابينتو والعامري يقفز من سفينة المغرب التطواني    العداء سفيان ‬البقالي ينافس في إسبانيا    جلالة الملك يستقبل الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني    بلينكن يشيد أمام مجلس الأمن بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    وقفة أمام البرلمان تحذر من تغلغل الصهاينة في المنظومة الصحية وتطالب بإسقاط التطبيع    الولايات المتحدة تعزز شراكتها العسكرية مع المغرب في صفقة بقيمة 170 مليون دولار!    الجزائر تسعى إلى عرقلة المصالحة الليبية بعد نجاح مشاورات بوزنيقة    انخفاض طفيف في أسعار الغازوال واستقرار البنزين بالمغرب    رسالة تهنئة من الملك محمد السادس إلى رئيس المجلس الرئاسي الليبي بمناسبة يوم الاستقلال: تأكيد على عمق العلاقات الأخوية بين المغرب وليبيا    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    رحيل الفنان محمد الخلفي بعد حياة فنية حافلة بالعطاء والغبن    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك    لقاء بطنجة يستضيف الكاتب والناقد المسرحي رضوان احدادو    بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    أكادير: لقاء تحسيسي حول ترشيد استهلاك المياه لفائدة التلاميذ    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التضحية والمجموعة الوطنية: مسرح الصحراء

الفصل ما قبل الأخير من كتاب «التحدي» يبدأ بعلاقة الحسن الثاني مع المحاولة الانقلالية الأولى التي نفذها واحد من أقرب خدامه، الجنرال مدبوح. وبعد أن أثار الظروف التي أحاطت بفشل المحاولة الانقلالية الثانية، كتب الحسن الثاني يقول(...ص 173)
المحاولتان الانقلابيتان لسنتي 1971 و1972 أثرتا عميقا في الحسن الثاني الذي أكد بقناعة أن الله حماه وبعد الهجوم على طائرة البوينغ الملكية، ذكر بأنها «وحدها يد حامية انقذته» لأن بعض الدول بدأت تتسلى بإعطاء الحاسوب مختلف اثار رصاص الرشاشات التي تلقيناها وأعتقد أن الحواسيب أجابت حظ واحد من مليار» وأصبح هو شخصيا مقتنعا بامتلاك البركة وأنه الشريف (سليل النبي) بامتياز. وكان يقول للمحيطين به:»(....) اعتقد أن المعجزات انتهت مع وفاة النبي«« فالحسن الثاني الذي كان قريبا من الموت مرتين يعتقد أنه أصبح مفوضا بمهمة إلاهية والشخص الخاص أصبح فجأة مؤمنا قويا ولم يعد يفارقه القرآن, يقرأ باستمرار القرآن الذي أصبح كتميمة حقيقية, يسجل الآيات التي لا يفهمها, ويحب أن يقيم مقارنات مع الثوراة والانجيل.
هذا التحول البسيكولوجي في حياة الحسن الثاني يعطي مفاتيح لتفسير المسيرة الخضراء، فالمحاولتان الانقلابيتان (1971 و1972) اقنعتاه بأنه لن يستطيع البقاء طويلا على العرش ما لم يخلق أسطورته الخاصة، لأن هذا الجيش الذي صنعه والذي أعتقد أنه أكبر سند له خانه مرتين، والبركة التي انقذته من الموت مرتين جعلته يعتقد أن له مهمة إلاهية فوق الأرض, لقد عاش المنفى مع محمد الخامس من 1953 إلى 1955 وكان يعرف كل القيمة التي حظي بها والده من المعركة ضد المستعمر، وكان عليه أن يلهب مرة أخرى الشعور الوطني للمغاربة ويخلق شروط التحام روحي بينه وبين الشعب. وطيلة فترة الإعداد للمسيرة كان محيطه قلقا عليه، أغلق على نفسه عدة أيام وهو يصلي دون توقف من أجل نجاح العملية كما كان يفعل والده في المنفى، وإذا كانت المسيرة الخضراء أكبر عمل سياسي في حكم الحسن الثاني، فإنه في نفس الوقت العمل الذي كانت شحنته الدينية الأقوى وأيضا العمل الذي استعمل فيه لأول مرة صفته كأمير للمؤمنين خارج الصراع الايديولوجي ضد اليسار ودائرة التربية والدروس الرمضانية ويعلن مخاطبا الجيش:
»»نحن أمير المؤمنين والقائد الأعلى للقوات المسلحة الملكية، قررنا منح ترخيص نعفي بموجبه جميع أفراد قواتنا المسلحة من الصيام...»(خطاب 7 شتنبر 1975)
ومخاطبا الشعب قائلا:
«بصفتنا قائداو أمير المؤمنين والمسؤول عن سياستك, نريد أن نعطيك بعض التوجيهات.
شعبي العزيز،
أولا بمجرد ما تجتاز الحدود عليك أن تصلي متجها إلى القبلة شكرا لله عز وجل, عليك أن تؤدي صلواتك لابسا أحذيتك، لأنك في وضعية جهاد...»خطاب 5 نونبر 1975)
لم يسبق أن كان الحسن الثاني أمير المؤمنين ,مثلما يضع نفسه قائدا للجهاد ويجعل من المسيرة الخضراء ,لون الإسلام, واجبا دينيا, كان يحس بأنه في الدفاع عن التراب يمكن للمغاربة أن يلتحموا معه, وبمشاركتهم في الجهاد، فإنهم يصنعون مجدهم, لأن من شاركوا في المسيرة سيضحون من أجل الجماعة، ولكن التضحية من أجل الجماعة يعني التضحية من أجل قائدها, كما ضحى المغاربة إراديا بحياتهم من أجل محمد الخامس بعد نفيه في غشت 1953، هذا البعد التضحوي يظهر بوضوح عندما يقرر الحسن الثاني عدد المشاركين في المسيرة.
لو أردنا، ما كان 350 ألف مغربي فقط من يسيرون ولكن مليونان, ثلاثة ملايين... لماذا نفذها 350 ألف متطوع؟ الأمر بسيط : 350 ألف هو عدد الاشخاص الذين يولدون كل سنة، فكرت أنه مسموح لي الدفع بالحصاد الذي وهبنا الله من أجل استعادة أرض إلى الوطن لم ننساها أبدا.
ومن أجل إلهاب الإحساس الوطني الديني للمغاربة ودفعهم للتضحية بحياتهم يتحدث عن الأمجاد البطولية للكفاح من أجل الاستقلال وينتظر من الشعب أن يكون مستعدا للتضحية من أجل ندائه، ويذكي الحسن الثاني روح المنافسة بين الأجيال حتى يخلق نوعا من «الرحلة»نحو التضحية.
مازلنا نتذكر أحداث 1931و1937 و1944 و1954... عشنا تجاوزات الفرنسيين سنة 1947 بالدار البيضاء والمؤامرة الدامية التي نصبت للنقابيين في دجنبر 1952... وفي كل هذه المظاهرات كنا ننزل إلى الشوارع... وبعضنا ودعوا عائلاتهم.
ولكن إذا أبدى هذا الجيل أحاسيس أقل وطنية من الجيل الذي سبقه والذي عرفناه، فإننا نحذرها جديا من خطر أن يفقد المغرب خلال أقل من خمس سنوات من قيمته ووزنه واعتباره (خطاب 16 أكتوبر 1975)
نجاح الإخراج يبقى أهم من نتيجة العملية (بعد أكثر من 30 سنة لازال النزاع قائما حسب القانون الدولي)، خصص الحسن الثاني للعملية عدة أيام وليالي من العمل, كان حريصا على أن تتم المسيرة وفق مخططاته, فالتضحية تقتضي »طقوسا, أي شكليات: والطقس فعال إذا ما نفذ بدقة«« و»العملية الدينية إشارة أو كلمة تؤطر بشكل مباشر أشياء أو أحداث وتوفر من خلال فعالياتها للمضحي, أو الذي يتم الفعل من أجله, الأشياء المستهدفة إذا ما كان الطقس المناسب معروفا بدقة وينفذ في الوقت المناسب«.
وكتضحية رمزية, تسمح المسيرة الخضراء بتفادي إراقة الدماء التي كان يخشاها كثيرا الحسن الثاني. ومثل إبراهيم عليه السلام الذي قرر التضحية بابنه، طلب الحسن الثاني من الشعب المغربي التضحية بالأطفال الذين ينجبهم كل سنة ولكن بما أن ابن ابراهيم تحول إلى كبش, كان الحسن الثاني يأمل بألا تراق أية قطرة دم، كان يخشى أكثر من أي شئ آخر انزلاقا ألى العنف كان سيؤدي إلى انتشارللأسلحة ويجعل الوضع خارج السيطرة في وقت لم يكن يثق في جيشه، أطلق جهادا بدون سلاح يزيد من شحنة التضحية.
»»إذا التقيت اسبانيا مدنيا أو عسكريا بادله السلام وادعه إلى خيمتك وقاسمه طعامهك، فليست لنا أية عداوة مع الاسبانيين ولا نحس بأية ضغينة تجاههم.. نرفض أية إراقة للدماء, على العكس، مسيرتنا سلمية, حيي كل اسباني تصادفه, وإذا غامر وأطلق عليك النار واصل مسيرتك مسلحا بإيمانك الذي لا يتزعزع « (خطاب 5 نونبر 1975)
الحسن الثاني يفضل الحل الدبلوماسي على المستوى الدولي, وخلال مؤتمر صحفي بعد شهرين من المسيرة الخضراء يقدم نفسه كوسيط:
»»... إذا كان بمقدونا أن نصل إلى نفس النتيجة بتوفير أرواح بشرية وبالخصوص توفير صداقة اسبانية مغربية للمنطقة، لأوربا، لافريقيا وللحضارة، نكون قد أسدينا نحن المغرب واسبانيا، خدمة كبرى للجميع« (ذاكرة ملك ص 190 )
وبقبول التضحية بأرواحهم من أجل الصحراء, يعطي المغاربة المسلحين بالقرآن والعلم الوطني، أكبر دليل على حبهم لقائدهم.
»»أقول لكم بكل صراحة أنني أعرف جيدا، أفهم جيدا أحاسيس الشعب المغربي, حتى أشعل النار في البارود، لأنه في هذه الحالة لا يتعلق الأمر بتحاليل رجل السياسة وليست تكنهات, لا, إنه فحص يومي لنبض شعبي من خلال لمس نبضي، لأنه في هذا المجال كلنا رجل واحد, سيكون من الخطورة بمكانو بل ربما بشكل لا رجعة فيه إذا ما أضرمت النار في البارود، لأنه سيعني أن 16 مليون سيذهبون إلى المجزرة فرحين بالذهاب إليها واثقين من النصر« (ذاكرة ملك ص 258)
وبينما يطلب الحسن الثاني من المغاربة أن يكونوا مسالمين مع المسيحيين, يتخذ نبرة عدائية عندما يتحدث عن مسلمين في جبهة البوليساريو» »إذا حصل شعبي العزيز أن تعرض معتدون آخرون غير الاسبانيين لمسيرتك، فاعلم أن جيشك الباسل مستعد للدفاع عنك««
هذه التضحية المطلوبة من المغاربة ليست قرارا سياسيا مثل باقي القرارات، إنه فعل أسطوري مملى تقريبا من الله، ومثل محمد الخامس الذي كان محميا خلال نفيه يوم 20 غشت 1953 يحظى الحسن الثاني كذلك بمباركة الله الذي تجلت رغبته ذات 20 غشت.
»»يوم 20 غشت كنت سألقي الخطاب السنوي لذكرى رحيلنا إلى المنفى, قبل يوم كنت أتساءل: ماذا يمكن أن أحكي؟ في المساء أديت صلاتي ونمت وفجأة وفي عز الليل، استيقضت بفكرة اخترقت رأسي. تأملت: رأيت كيف أن آلاف الناس يتظاهرون في كل المدن الكبرى من أجل الصحراء، إذن لماذا لا ننظم تجمعا سلميا ضخما يأخذ شكل مسيرة؟ في هذه اللحظة، أحسست أننى تخلصت من حمل ثقيل« (ذاكرة ملك ص 190)
مثل النبي الذي كانت توحي إليه في عز الأحلام اليقظة آيات القرآن التي تقول له الموقف الواجب اتباعه من أجل حماية جماعة المسلمين ودحر الأعداء، كان الحسن الثاني يتخذ الاختيارات الحاسمة لمستقبل المغاربة، لأنه ملهم من العالم الآخر, ومن خلال لعبة المقارنات
كان الحسن الثاني في وضع النبي في المدينة, فخلال السنة السادسة للهجرة رأى محمد (صلعم) في منامه أنه يؤدي العمرة في مكة، وقرر عندما استيقظ تنظيم رحلة تتجه من المدينة إلى مكة. وبينما خشيت بعض القبائل من الهزيمة ورفضت الإنضمام إلى المسيرة التي كانت تبدو دموية، حقق النبي في النهاية نصرا من خلال توقيع المكيين معه صلح الحديبية التي سمحت له بالدخول إلى المدينة للقيام كل سنة بعمرة لمدة ثلاثة أيام. ومن أجل طمأنة النبي في اختياره في الوقت الذي تسلل الشك لأتباعه، أنزل الله سورة «»الفتح»« في ليلة، وبالتالي فالمسيرة الخضراء إعادة انتاج لما قام به النبي في مستوى أول, لأنها على صورة مسيرة النبي الى مكة، مسيرة سلمية وجهاد بدون أسلحة. وقائد الأمة »»وجد»« هذه السياسة في القرآن.
»»اليوم، وعشية يوم الجمعة المبارك، وبعد ثمانية أيام على خطابنا الذي أعلنا فيه المسيرة الخضراء، فإننا ننوي مرة أخرى استلهام سياستنا من تعاليم القرآن، وقد أراد القدر أن تكون هذه الدروس متضمنة في سورة واحدة، سورة الفتح، التي ألهمت مسيرتنا««
ويرجع الحسن الثاني إلى سورة الفتح في مستوى ثاني, يخاطب هذه المرة »المكيين« الذين هم في هذه الحالة الصحراويين.
«إن الله عز وجل، لم يقتصر على جمع النبي بسكان مكة، بل ألهم ناس مكة وأنصار المدينة حتى ينسوا خلافات الماضي ويتداركوا الوقت الضائع، علمهم معنى التحمل و التسامح والمساعدة المتبادلة والأخوة. لأن الأمة الإسلامية كانت على موعد مع بزوغ مجتمع جديد فيه خير للعالم العربي والإسلامي»
والحسن الثاني لم يقل للصحراويين أن الدولة المغربية ستأخذ في الحسبان من مطالبهم الهوياتية أو أنهم سيتمتعون بكامل حقهم في المواطنة, بل كان ينتظر منهم أن يخضعوا لسلطته مقابل أن يعفو عن أخطائهم الماضية». كان يريد أن يراهم, كما تقول السورة, خاضعين متضرعين يطلبون رحمة الله. بالنسبة للحسن الثاني ليست المواطنة هي التي تصنع الرابط الاجتماعي والسياسي المغربي، بل البيعة التي قدمها المغاربة ومرة أخرى، ومن أجل إقامة مقارنة بينه وبين النبي، يستعمل سورة الفتح في مستوى ثالث.
«وكأمير للمؤمنين وملك ترتبطون معه بعقد البيعة، نتلو عليكم الآيات القرآنية التالية» »إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله:
يد الله فوق أيديهم...
رعايانا الأوفياء في الصحراء
كما تلاحظون، علاقتنا ترتكز على أسس ليست هي الأسس التي يخلقها التاريخ صدفة. على العكس، إنها روابط تجد مصدرها في ما هو أغلى واقدس فينا: ايماننا بالله وبرسوله وبرسالته المقدسة.
والسور التي يذكرها الحسن الثاني في خطابه تحيل على بيعة الرضوان التي طلبها النبي من أنصاره في الوقت الذي كان في خضم التفاوض مع المكيين، والتي أثارت خلالها إشاعة نبأ مقتل عثمان الشك في صفوف المسلمين. والذين أدوا القسم كانوا يقسمون بأنهم لن يفروا وبالخضوع لرغبته، ومن تم نفهم أن أداء البيعة للحسن الثاني، التي تحيل صراحة على صفته كأمير للمؤمنين، تعني مبايعة النبي وهي في النهاية مبايعة لله.
وفي سياق ظروف المسيرة الخضراء، فإن مبايعة الملك، الضرورية لاستعادة وحدة البلاد، هي فعل وحي له عواقب قانونية وسياسية حاسمة. وبالتالي هناك انسجام بين هذا التصور وهذه الممارسة للحكم وبين الحجج القانونية للمغرب على المستؤى الدولي، ويعتبر الحسن الثاني الحكم الذي أصدرته »محكمة العدل الدولية أكدته، لكونها اعترفت بوجود روابط قانونية وروابط بيعة بين الصحراويين والمملكة المغربية« (خطاب 16 أكتوبر 1975) والدليل على مغربية الصحراء يكمن في روابط البيعة بين الشعب والملك، لأنها روابط روحية تفترض »تناغما تاما» بين الطرفين.وهي تنتمي للقانون الإسلامي، قانون مقدس, قانون الله الذي يسمو على القانون الدولي العام الذي انتجه الناس وتاريخهم، وتفسيره للقانون الإسلامي يمكنه من إعادة صياغة الرابط السياسي والاجتماعي وإعادة تعريف الهوية المغربية.
»»البيعة في القانون الإسلامي، وإن اتخذت أشكالا مختلفة، لم تكن دائما بيعة تربط فقط الفرد بالملك، الفرد بأمير الؤمنين، بل ما يمثله هذا الفرد، والجماعات والقبائل والجهات التي ينتمون إليها (...) وبالتالي أصبح لزاما وحتما بالنسبة إلينا، بل إنه واجب ديني. وعلماؤنا هنا لتأكيد ذلك - بصفتنا أمير للمؤمنين، مرتبين بعقد البيعة، أن نفي بمسؤولياتنا والإلتحاق بشعبنا في الصحراء.
والحسن الثاني، الذي تتمتع صورته كرجل له بركاته, بالمصداقية لدى املغاربة بعد المحاولتين الإنقلابيتين - يذكر بذلك، على نهج شيخ صوفي بأن الله، مقابل هذه البيعة الممنوحة له، يقوم بصلواته، لأنه هو الوسيط بين الله ورعاياه.
»»تصرفك يشكل مصدر افتخار حقيقي بالنسبة لمن اختاره الله لقيادتك، ولا يمكنه إلا أن يحمد العلي القدير ويطلب منه العون من أجل القيام بواجبات مهمته تجاهك« «(خطاب 5 نونبر 1975)
بالمسيرة الخضراء استعاد الحسن الثاني هيبته، وأصبح يتوفر على أكبر قضية في حكمه. وحتى 1975 لم يكن المغاربة يحتفلون سوى بحدث وادح كبير هو »ثورة الملك والشعب» التي تخلد لذكرى نفي محمد الخامس يوم 20 غشت 1953. أما بعد 75 أصبح للحسن الثاني «حدثه» »كان يحتفل بذكراه احتفالا ضخما.
والحسن الثاني ومحمد الخامس قضيا حوالي 15 سنة ليصبحا ملكان لشعبهما وينجحا في محور» »تيه»» السنوات الأولى لحكمهما.
المسألة اللوجستيكية.
ما كان لمثل هذه التجربة الأسطورية أن تحقق دون عقلانية بالمعنى الفيبيري (نسبة Moxweber) للكلمة. فالتحضير الدقيق للمسيرة سمح للدولة بإظهار قدراتها اللوجستيكية.
والمخزن الراسخ في القدم له تجربة كبيرة في مجال «»تكنولوجيا الرعي»« كان يتعين جمع ونقل وإيواء وإطعام وتنظيم آلاف الرجال والنساء.
وهب الأغذية حتى يكون ممكنا هبة الحياة »و»راعي الناس»» يرعى قطيعه ، ينظمه وعليه أن يلبي يوميا حاجياته من الماء والغذاء والعمال الذين يشكلون الكيان الاستراتيجي للمخزن, اجتمعوا في الرباط للإعداد للحدث. ويروي إثنان من خدام الدولة دورهم في العملية بالطريقة التالية:
«كان مطلوبا من العمال.. أن يقوموا بجرد للمؤن والمعدات المتوفرة على مستوى قيادة كل واحد والتي بإمكانها خدمة المسيرة. وهذا الجرد.. هم:
- المواد الاستهلاكية الموجودة في المتاجر وفي مصانع الانتاج مثل الدقيق والزيت والسكر والثمور والمعلبات والشمع وعود الثقاب وقنينات الغاز والصابون إلخ.
- وسائل النقل: الحافلات والشاحنات
- وسائل الإيواء والتجهيز, الخيام والأغطية
وتم نقل 700 رجل سلطة الذين يشكلون دائرة التأطير المدني الثانية الى مدرسة في بنجرير قرب مراكش لتلقي تكوين سريع يتمحور حول المواطنة والوطنية وتنظيم وتأطير الجماهير،وقد تم هذا التكوين في سرية تامة.
وتم تشكيل لجان مختلطة (الاختيار والتموين والتجهيز والإيواء والنقل) وتجميع »المشاركين المسجلين في المسيرة في مكان معين قبل التوجه إلي الصحراء« وفي هذا الصدد كانت مهمتهم تتمثل في:»
- إعداد بنيات الاستقبال والعناية في مقرات العمالات والأقاليم.
- تنظيم المتطوعين في وحدات صغيرة ستبقي مجتمعة طيلة مدة المسيرة،و هذا من شأنه أن يرسخ الانضباط وتسهيل الاتصالات وتبليغ التعليمات والتوجيهات - وسيكون الأمر بمثابة زعماء مجموعات .
- السهر على الحالة الصحية للمتطوعين.
- توزيع المتطوعين والتجهيزات على الشاحنات وقطارات النقل عند نقط الإلتقاء.
وفي الصحراء شمل التأطير مركزا مركزيا للقيادة ومراكز قيادة مخيمات مكلفة ب:
- التموين (تزويد الخيام بالمؤن والمياه...)
- الصحة والنظافة والرعاية الاجتماعية
- العتاد والبنزين والصيانة و النقل
- الصحافة، الإعلام ومراكز الاتصالات....
وهكذا تم نصب قرى من الخيام تمتد على مدى البصر في تناغم وإنسجام دقيق، وتم شراء وتخزين المواد من طرف الإدارة المركزية من خلال لجنة وطنية كانت كل القطاعات الوزارية ممثلة فيها.
وكل هذا الإعداد اللوجستيكي يرتكز على علم إداري ومحاسباتي. وتطور قوة الإدارة يتطلب »دراية ملموسة، دقيقة ومضبوطة«.
والدولة المغربية وضعت في المعدل قائدا واحد وثلاثة أعوان لكل 1000 متطوع، وطبيبا و6 ممرضين لكل 5000 متطوع. وهكذا كان تأطير متطوعي إٍقليم الرباط - سلا البالغ عددهم 10 آلاف على الشكل التالي:
8 قياد، 20 شيخا ومقدما
طبيبان (2) و12 ممرضا
62 مساعدة ثاني
اجتماعية
20 مرشدا دينيا
63 موظفا وإطارا في الوزارات
إضافة إلى 2100 عربة نقل المسافرين والبضائع و6000 شاحنة وحافلة خاصة تم تسخيرها .113 قطارا نقلت 30% من المتطوعين و127800 طنا من البضائع وطيلة الأيام الأولى للمسيرة تم استهلاك 23 ألف طن من الماء و17 ألف طن من المؤن.
وبالنسبة لمخيمي طانطان وطرفاية وفرت الإدارة 10 آلاف خيمة و430 ألف آنية مطبخ و350 ألف بطانية.
إلا أنه سيكون تنقيصا أن نرى في المسيرة الخضراء فقط العبقرية الاستراتيجية للحسن الثاني أو تجسيدا فعليا
لخبرة الدولة. بل تشمل أبعادا أخرى تتجاوز تعزيز السلطة. لأنها واحدة من «»أماكن ذاكرة»« أمة.
التضحية من أجل الجماعة
ولكي تكون المسيرة تعبيرا عن الجماعة, كان لابد لكل اقليم في المملكة أن يكون ممثلا من خلال عدد من المتطوعين, وكل إقليم يدفع مساهمته للجماعة, والأرقام (يتضمنها كتاب »المسيرة الخضراء، ملحمة شعب يوحد بلاده بقيادة ملكه) تترجم استعداد المغاربة للتضحية. وكان من الممكن ان تترجم إحصاء الوطنيين الذين لن يعودوا أبدا. والكثير ممن ذهبوا الى الصحراء كانوا يستعدون للسفر الاخير. التضحية بالنفس لكي تحيا الجماعة, هذه هي قصة البشر منذ ان بدأوا تدوين ذاكرة الاحداث الكبرى.
التضحية بالنفس من أجل حياة الآخرين. هذا فعل عظيم, تعبير عن روح شعب. كل واحد يتجاوز انانيته، يضع تشبثه بالحياة المادية وهدوء الحياة الاسرية على المحك ليهب ذاته للكائن, الجماعة الأسمى. فعل ملموس، فعل مادي، اظهرت المسيرة الخضراء ان الامة لا يمكن ان تكون فقط جماعة متخيلة واذا كانت الامة تمتلئ فإنها ترتكز ايضا على مشاعر دينية وتعبيرات ملموسة والاتصال مع الارض من ضمن هذه التعبيرات.
وتضحية المسيرة الخضراء تخضع لمبدأ مزدوج الوحدة والاختلاف الذي هو أساس كل هوية. والجماعة في حد ذاتها تتمثل في الوحدة من خلال الاختلافات الداخلية مع ابراز وتأكيد تلك التي تميزها عن باقي الجماعات.
المسيرة الخضراء تمكن الجماعة من خلق وحدتها حول قائدها وتجاوز التوترات التي تخترقها. واليسار المغربي الذي عارض دائما الحسن الثاني. كان في طليعة المطلب الترابي. وقبل هذا اليسار أن يكون قائد هذه المعركة هو الملك. ويعترف بسلطته الكاملة من أجل الدفاع عن المصلحة العليا للامة. ومن جانبهم كان ضباط الجيش المكلفين بأكبر المهام - الدفاع عن التراب الوطني - اقل استعدادا لتجديد المحاولات الانقلابية مثل محاولة اوفقير سنة 1972
ومبدأ الوحدة لا يكون فعالا الا لأنه لا ينفصل عن مبدأ الاختلاف بالمقارنة مع الجماعات الاخرى. والمسيرة الخضراء فرصة ليتكلم القائد عن الآخر. وتحديد التصرف الواجب تجاهه.
فالاسبان الذين احتلوا ارض المغاربة وهم مسيحيون يجب معاملتهم كاصدقاء بالمقابل. سنكون اشداء تجاه من خرجوا عن الجماعة (البوليساريو) ونقوم بحرب متواصلة ضد من يدعمونهم (الجزائريون) وجماعات المسلمين الاخرى وايضا كل الدول غير المسلمة «»اخوان واصدقاء«« المغرب مدعوون للحفل.
منطق التمييز هذا يقدم انسجاما مع الهوية المغربية التي تبقي الملكية حارسها. والمسيرة الخضراء بهذا المعنى، تشكل احتفالا هوياتيا يرتكز على التذكير. واعلان وحدة الجماعة يتمثل في استعادة الزمن, وبإبراز بيعة القبائل الصحراوية لاجداده كأهم دليل على مغربية هذه الاقاليم. يستعمل الحسن الثاني حجة تاريخية لها وزنها. والمؤرخون والفقهاء يبرزون الوثائق التاريخية التي تحمل الطابع الشريف وكذا مراسلات مولاي سليمان او الحسن الاول لزعماء القبائل. وفي الكتاب الذي يؤرخ للمسيرة الخضراء (المسيرة الخضراء، ملحمة شعب يوحد بلاده بقيادة ملكه (1984) ) نجد في الصفحات الاولى, بعد الوثائق الرسمية والمخطوطات، صورة تظهر محمد الخامس - الملك الذي حرر المغرب من الاستعمار. يقدم لابنه شيئا صغيرا يبدو انه حجاب. ونقرأ في تعليق الصورة»وصية الاب لابنه» وتلي الصورة الكلمات التي قالها لابنه الحسن الشاب عند تنصيبه كولي للعهلد. وهذا الاخير ادى القسم بالحرص على مصلحة المغرب والدفاع عن ترابه كما فعل اسلافه من قبله.
وهكذا تتم الاستعانة بالاسطورة المؤسسة للملكية المغربية شبيهة باسطورة روميليس وريميس, او اسطورة نيغارة في اندونيسيا, من حيث اناس جاؤوا من بلاد اخرى هم مصدر الحياة, أسسوا الجماعة وركزوها حتي تستمر. ويقال إن الحسن الثاني جاء من الحجاز الى تافيلالت حتى تستفيد هذه المنطقة من المغرب -والتي لم تكن محاصيلها من الثمر جيدة - من بركته. وبالمسيرة الخضراء، يقوم الحسن الثاني بنفس الافعال التي قام بها الملوك الكبار في المغرب والذين أسسوا مدنه الاسطورية ودافعوا عن ترابه على شاكله ادريس الاول مؤسس مدينة فاس. والماضي القريب الذي اخذ شكلا وطنيا صريحا والماضي البعيد يستعملان لاعادة بناء الجماعة، جماعة المسلمين وايضا جماعة الرجال. وانتماء الانسان للجماعة فطرة، لانه يسمح له ببلوغ انسانيته الكاملة. وفعل ابراهيم عليه السلام الذي يستعيده الحسن الثاني هو تضحية تحيط الناس بدائرة من الطهارة التي تحميهم. فهو محمي من اي تهديد جديد للعرش لانه يقدم الشعب فداء من أجل اعادة بناء المدينة. بالمقابل يحمي الحسن الثاني المغاربة من الغزاة ومن الشر, يحرص على مصالحهم، انه الشريف بامتياز.
وخلافا لما قيل باستمرار. فالسلالة الشريفة او نظرية الخلافة ليست مبادئ تفسيرية لشرعية الملكية العلوية ولا حتى لاستمراريتها. بل ليس لها في الحقيقة سوى قيمة تأكيدية. ومن اللافت ان الحسن الثاني كان يرغب في نشر كتابه الاول التحدي - الذي يعطي فيه شجرة انسابه - بعد المسيرة الخضراء وانقلابات 1971 و 1972 السلالة الشريفة ونظرية الخلافة ليست لها قيمة في حد ذاتها ما لم يصمد الملك امام امتحانات رهيبة، ولم يسجل في الذاكرة الجماعية عملا كبيرا يؤكد للجميع ان الشعب مستعد للتضحية من اجل ملكه. والحسن الثاني كان يملك سلطة مطلقة في نهاية سنوات 1960 لم تكن هناك لا حياة برلمانية. ولا تواجد أحزاب سياسية في الحكومة. وراهن بكل شيء من خلال المسيرة الخضراء ولم يقل شيئا آخر عندما تحدث، بعد 18 سنة، عن احتمال فشل مبادرته.
«كنت سأستقيل، هذا قرار فكرت فيه مليا - كان يستحيل علي ان أترك موتى. بالقران والعلم المغربي فقط في الساحة. كان العالم كله سيصيح بأنها مغامرة. وكما نقول بالدارجة المغربية» لن يكون لي وجه» كنت سأفقد كرامتي «ذاكرة ملك ص 203)
وإذا كان منطقيا أن نشك في احتمال انسحاب الحسن الثاني من السلطة, فإن هذا القول يظهر مستوى الصورة التي يعطيها لشخصه بعد 1975 وهي الصورة التي ترتبط في جزء كبير منها بنجاح المسيرة. ومع مرور الوقت تبدو كنوع من طقوس الطهارة. لقد طهر نفسه من كل الأخطاء، بإرسال المغاربة للتضحية في هذا الحج الى الصحراء. والتضحية تسمح للشخص المضحي بالخروج من حالة الخطيئة لانه حسب مارسيل موسى» المخطئ مثل المجرم هو شخص مقدس, اذا ضحى، فالتضحية تهدف، او على الاقل من اهدافها، هو التخلص من عاره...»
الحسن الثاني لم يذهب الى الحرب. والمفروض ان يكون في المقدمة, ظل في الصفوف الخلفية. فهو متواجد من خلال الصور التي يحملها المتطوعون في الصحراء. وهؤلاء المتطوعون يحمون المغاربة الذين بقوا في بيوتهم. وقائد الامة يحرص الدار في الوقت الذي سارت نساء (%10 من المتطوعين) ورجال للدفاع عن الوطن و»اذا كان المضحي يعطي شيئا من ذاته. فإنه لا يعطي كل شيء، بل يتحفظ بحذر, لأنه اذا أعطى فمن أجل ان يحصل على شيء»
والمشاركون في المسيرة هم في نفس الوقت مضحون - كلهم متطوعون متحمسون مستعدون للتضحية بحياتهم - وضحايا، مستعدون لذلك استجابة لنداء قائدهم والجماعة الوطنية بخضوعها لرغبة قائدها. تكون في حالة انتشاء. وبذلك يتطهر الرجال من الذنب الاجتماعي كنتيجة للخطأ ويعودون الى الجماعة.
ويمكن للحسن الثاني ان يدعي توفره على بركة, لأنه جعل الجماعة التي نفذت المسيرة الخضراء تستيفد منها دون اراقة دماء. فالجهاد هو تضحية من أجل الدفاع عن الارض، الوحيد الذي يسمح باستمرار حياة الجماعة. والجهاد هو الموت من أجل الوطن واستمرار الحياة.
وفي النهاية نحن بصدد الاحتفال بالعلاقة بين الشعب والملك التي تخضع لمنطق العطاء والعطاء المقابل، ولأن الملك مستعد لاعطاء حياته من أجل شعبه, فإن هذا الاخير يقدم حياته من أجل ملكه. وانقلابات 1971 و 1972 يقدمها الحسن الثاني ك»مخاطر مهنة» و يعتبر ان الشعب المغربي يستحق ان يكون ملكه مستعد لتقديم حياته من أجله, مثلما لم يتردد محمد الخامس في تقديم حياته من خلال مواجهة الفرنسيين. بالمقابل. يضحي الشعب - مثل الرجال الذين انخرطوا في جيش التحرير - عفويا سنة 1953 من اجل ملكهم. وفي حالة المسيرة الخضراء فإن الحسن الثاني هو الذي طلب من شعبه التضحية من أجله.
في سنة 1953 كما في سنة 1975 ضحى الشعب من أجل ملكه اكثر من التضحية لنفسه. لأن الملك ليس فقط من الامة, بل هو ايضا ضروري لحياة الجماعة التي ستكون يتيمة بدونه.
منطق العطاء والعطاء المقابل هذا بين ملك المغرب والشعب علامة مميزة في القرن 20 ,فهو يرسخ دخول الجماهير في لعبة سياسية كانت محصورة حتى الآن في بعض النخب، ووسائل التواصل الحديثة. الاذاعة والتلفزة سمحت للملك بمخاطبة الشعب مباشرة, بل والحوار معه. بينما في القرن 19 كانت المظلة هي التي تسمح بتمييز السلطان. الاسطورة بدون وجه. وبالتالي اصبح الملك فاعلا مألوفا متواجد في كل البيوت ومتأكدون من لقائه كل مساء امام شاشة التلفزة. اصبح حميميا من خلال الصورة المعلقة على جدران كل المباني العامة، وصوته المألوف.
هذه الالفة وهذا التواجد جعلت العلاقة المباشرة ممكنة، بدون وسطاء بين الملك والشعب الى درجة ان المغاربة اصبحوا يعتقدون ان الحياة بدونه غير ممكنة. وبذلك يقطع الملك الطريق على النخب التي كانت تحاول تنحيته من السلطة أو حصره في دور رمزي فقط.
اليسار انضم وراء الملك وشارك في المسيرة، وعمل على المستوى الدولي كمحامي لقضية مغربية الصحراء، بينما ظل لفترة طويلة يرفض شرعية الحسن الثاني. واعترف فعليا باهمية روابط البيعة التاريخية للملك من طرف جزء من السكان.
مع العمل على تعويض الرعية بالمواطنة. قادة اليسار الأقل انتهازية تخلوا عن استراتيجية القطيعة وانخرطوا في استراتيجية المشاركة، وهذا التحول الحاسم جاء في الوقت الذي كانت الشحنة الدينية لسلطة الحسن الثاني في أوجها. هذا التناقض يمكن تفسيره جزئياً بكون اليسار المغربي لم يكن أبداً معادياً للدين وعبر عدة مرات عن وفائه للتعاليم النيرة للإسلام.
حل الحزب الشيوعي المغربي لأسباب دينية
والحدث البارز الأول الذي دفع أحزاب اليسار إلى التعبير صراحة عن موقفها في المجال الديني هو قرار حكومة عبد الله ابراهيم تحت ضغط ذكي من القصر بتوقيف الحزب الشيوعي المغربي وحجز جرائده (الجماهير وحياة شعب) في شتنبر 1959. وتمت محاكمة الحزب الشيوعي المغربي بتهمة »معارضة الشكل الملكي للدولة« والمؤسسات الدينية«.
وفي دفاعه، أكد الحزب الشيوعي المغربي أنه أقرب إلى »التعاليم الإسلامية من خصومه »بفعل« العدالة الاقتصادية والاجتماعية« التي يريد إرساءها واستشهد الحزب الشيوعي في دفاعه بقول النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) الذي يعتبر أن المسلم الحقيقي هو من يريد لجاره ما يريده لنفسه، وذكر بأن الحزب الشيوعي المغربي خلال الحماية دافع عن »حرية ممارسة الشعائر الدينية« ودافع عن الحركة من أجل إغلاق المتاجر يوم الجمعة واحتجاجه على تدنيس مسجد مولاي ادريس بفاس من طرف قوات القمع سنة 1954.
ودفاع الحزب الشيوعي لا يتمثل فقط في الدفع بدلائل عن احترامه للحريات الدينية وللإسلام، ولكن أيضاً بإبراز أن المجتمعات الاسلامية بما فيها المجتمع المغربي بدأت تتأقلم مع معايير العلمانية للحياة العصرية، والتي لا تتعارض مع الإسلام...
وبينما ربح الحزب الشيوعي المغربي الدعوى في الحكم الابتدائي، تم حله بحكم استئنافي بدعوى وجود خلط للدين وللنظام السياسي بالمغرب.
ولدعم قرارها، أحالت محكمة الاستئناف وكانت لاتزال تتكون من قضاة فرنسيين ليس فقط على قانون، ولكن على خطاب ألقاه محمد الخامس سنة 1959: »إن المذاهب المادية لا تتلاءم مع إيماننا، فقيمنا الأخلاقية وبنيتنا الاجتماعية لا مكان لها عندنا، لأن الإسلام، بفضل روح العدالة والتسامح يكفينا. وحديث الحزب الشيوعي المغربي عن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان مرفوض، لأنه يهدد النظام العام الداخلي، وبالتالي، فإن أهداف هذا الحزب »تهدد البنيات التقليدية للدولة«.
وانطلاقاً من سنة 1960، دخل الحزب الشيوعي المغربي في السرية. وفي سنة 1962، رفض زعماؤه علي يعتة، عبد السلام بورقية، عبد الله العياشي، الهادي مسواك وعبد العزيز بلال، رفضوا الدستور »الممنوح« من طرف الحسن الثاني، ودعوا إلى مقاطعة الاستفتاء وطالبوا بانتخاب مجلس تأسيسي منتخب بالاقتراع العام يكون مكلفاً بإعداد الدستور. وتم منع جريدة »المكافح« في نونبر 1964 بعد حجزه عدة مرات. وفي سنة 1968، أصبح الحزب الشيوعي المغربي هو حزب التحرير والاشتراكية يعمل على إرساء »مجتمع اشتراكي مطابق للواقع الوطني للبلاد«. والإرث العقلاني للفكر العربي والتعاليم التحررية للإسلام«، ورغم هذه الإحالة على الدين الإسلامي في قوانينه تم منعه مجدداً في شتنبر 1969 وتوبع قادته بتهمة »إعادة بناء الحزب الشيوعي المغربي المنحل«. وفي سنة 1974، أسس القادة السابقون للحزب الشيوعي المغربي، حزب التقدم والاشتراكية. وبالنظر إلى موازين القوة بين الملكية واليسار، قرر حزب التقدم والاشتراكية والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، (وريث الاتحاد الوطني للقوات الشعبية) المشاركة في الانتخابات البلدية لسنة 1976 والتشريعية لسنة 1977 واختاروا طريق التوافق السياسي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.