يسود الاعتقاد عند المثقفين عموما، بل حتى عند بعض الباحثين المتخصصين، بأن الحديث عن المسألة الأمازيغية إبان عهد الحماية إنما يعني أساسا الظهير البربري بتاريخ 16 مايو 1930. وهذا الاعتقاد خاطئ لا محالة؛ لأن ظهير 1930 لم يكن في الواقع إلا تتويجا ونتيجة حتمية لمسلسل بدأت الإيديولوجيا الكولونيالية في رسم حلقاته منذ أمد بعيد؛ وهو ما يسعى إلى تبيانه الدكتور الطيب بوتبقالت في السلسلة الرمضانية لهذه السنة. 30/9.. مؤامرات الحماية الأجنبية بناء على الأعراف والتقاليد الدبلوماسية الدولية، كان يوجد من الناحية القانونية نوع من الحماية القنصلية التي لا تمس بأي حال من الأحوال صميم السيادة الوطنية. ففي هذا الإطار العام، كانت تندرج عدة معاهدات أبرمها المغرب مع عدد من الدول الأوروبية، والتي تشير ضمنيا أو بصريح العبارة إلى مؤسسة الحماية القنصلية؛ ولكن في حدود معقولة وخاضعة للمراقبة القانونية من لدن الدولة المضيفة. ومثل هذه الترتيبات منصوص عليها في معاهدات كثيرة: المغرب-السويد (16 ماي 1763)، المغرب-فرنسا (28 ماي 1767)، المغرب-الدانمارك (25 يوليوز 1767)، المغرب-البرتغال (27 يونيو 1773)، المغرب-الولاياتالمتحدةالأمريكية (21 يونيو 1786)... وإذا كانت هذه المعاهدات تلتزم روحا ونصا باحترام الاتفاقات المبرمة في إطارها الدولي المتعارف عليه، فإن المعاهدات التي أبرمها المغرب بعد معركة إيسلي (1844) سجلت نقلة نوعية في تعامل الدول الأجنبية مع مسألة الحماية القنصلية متخذة إياها ذريعة لنشر نفوذها وكسب أكبر عدد ممكن من المحميين المغاربة وفقا لمصالحها. ويتعلق الأمر، خصوصا، بالمعاهدة المغربية الإنجليزية المبرمة بتاريخ 9 دجنبر 1856 (مادة 3)، والمعاهدة المغربية الإسبانية بتاريخ 20 غشت 1861 (المادتان 3 و47)، وكذلك الاتفاقية المغربية الفرنسية الموقعة بتاريخ 19 غشت 1863. وبسوء نية مبينة كانت نصوص تلك الاتفاقيات قابلة للتأويلات المطاطية من لدن الدول الأوروبية المعنية التي أصبحت بفعل هذا الواقع تبيع وتشتري المحميين المغاربة كنعاج أهم ما فيها أصوافها ولحومها ليس إلا.. غياب الشعور الوطني لدى المحميين نقولها بكل صراحة إن الحماية الأجنبية التي أسالت لعاب الكثيرين من المغاربة خلال القرن التاسع عشر بقيت وصمة عار على جبين هؤلاء مهما كانت الاعتبارات والأسباب والمسببات التي دفعتهم إلى الارتماء في أحضان الأجانب ضدا على بلادهم. حتى إن البعض منهم كان يتبجح بوجوده تحت حماية أجنبية ولا يجد غضاضة في الإساءة إلى عشيرته والانتقام لأتفه الأسباب من أبناء جلدته... ولم يكن المغاربة المحميون متنصلين من مغربيتهم بقدر ما كانوا يتسوقون بجنسيتهم المغربية مقابل امتيازات مادية تافهة، إنهم كانوا من حيث يدرون ومن حيث لا يدرون في حالة تآمر على الذات المغربية. وإذا لم يوجد أي تعريف قانوني للحماية القنصلية في غاية الوضوح، فإن الممارسة هي التي كانت تبين طبيعتها الحقيقية ومدلولها الفعلي. لقد اكتشف الأوروبيون في هذه الممارسة عملا مربحا وبتكاليف منعدمة تماما، وأدى تهافت المغاربة على هذا النشاط إلى ازدهار هذه الحركة التخريبية وانتشارها لتطال مختلف شرائح المجتمع المغربي. ومن جديد وجدت الدول الاستعمارية هشيما أجج نيران أطماعها وضاعف من تكالبها على البلاد؛ لكن صارعها التنافسي لاقتناء أكبر عدد ممكن من المحميين والاتجار فيهم بدون قيد ولا شرط طرح مشكل تدبير نفوذ كل دولة على حدة. وأما الدولة المغربية فقد كانت في حالة عجز تام، حيث لم تستطع التصدي لهذا التصعيد الخطير الذي آلت إليه أمور الحماية القنصلية على أرضها. وفي ذلك يقول المؤرخ شارل أندري جوليان: «أدت المغالاة في تمديد وتوسيع قانون الحماية إلى تعرض وجود الدولة المغربية للخطر، وقد بينت هذه المغالاة أنه أمام تحالف المصالح لم تعد هناك أية مقاومة دبلوماسية ممكنة. ولم يصدر أو يحدث أي نداء ضمير لكبح جماح هؤلاء المخربين، لقد كان الأوروبيون يتصرفون وكأنهم في بلد استعمروه فعلا، وكل الوسائل كانت بالنسبة لهم مباحة". وفي سنة 1877، كان المحميون المغاربة حسب لوائح المندوبيات والقنصليات الأجنبية يعدون بالآلاف؛ وهو ما دفع بمحمد بركاش، المندوب السلطاني بطنجة آنذاك، إلى تقديم ورقة احتجاج إلى ممثلي الدول المعنية. وقد تضمن هذا الاحتجاج مشروع إصلاح لنظام الحماية، بالإضافة إلى اقتراح يرمي إلى انعقاد مؤتمر بالمدينة نفسها سنة 1879. والواقع أن الدول المعنية نفسها كانت في أمسّ الحاجة إلى ترتيب أوراق نفوذها على أرض الإمبراطورية الشريفة التي لم يعد يبقى منها إلا الاسم. وبعد مشاورات فيما بين ممثليها تم الاتفاق على انعقاد مؤتمر لهذه الغاية سنة 1880 ليس في طنجة، كما اقترح المغرب، ولكن في مدريد كما أرادت تلك الدول. مؤتمر مدريد حول قانون الحماية (16 ماي-31 يوليوز 1880) حضر أشغال مؤتمر مدريد حول نظام الحماية الأهلية بالمغرب ممثلون عن اثنتي عشرة دولة وهي: إنجلترا، وفرنسا، وإسبانيا، وألمانيا، والبرتغال، وهولندا، وبلجيكا، والسويد، والنرويج، والدانمارك، والنمسا–هنغاريا و... المغرب طبعا ! وهكذا، اتفق ممثلو هذه الدول على إعفاء المحميين من الخضوع للقوانين المغربية، وبالتالي الإعفاء من الضرائب ما عدا ضريبة فلاحية وأخرى على الأبواب والممتلكات الحيوانية، علما بأن الوعاء الضريبي وعناصر العملية الجبائية كانت تتم تحت إشراف المسؤولين الأجانب كما نصت على ذلك المواد 2 و12 و13 من الاتفاقية. وكانت الحماية نوعين: حماية تجارية تهم السماسرة والوسطاء، وحماية فلاحية تسمى مخالطة. وبإمكان السلطات القنصلية توظيف جندي–ترجمان واحد، وخادمين اثنين، وكاتب واحد عند الاقتضاء. وهؤلاء جميعا يصبحون بعد توظيفهم «محميين» وفقا للمادة 3. ويحق لكل الممثلين الأجانب رؤساء البعثات أن يوظفوا تراجمة ومستخدمين من بين رعايا السلطان (المادة 2). وكانت الحماية لا تشمل ممتلكات المحمي وكيانه الجسدي فحسب، بل حتى أفراد عائلته، ولكنها لم تكن وراثية مع استثناء وحيد سبق أن نصت عليه الاتفاقية الفرنسية-المغربية بتاريخ 19 غشت 1863 «لصالح عائلة بن شمول التي قدمت أبا عن جد ولا تزال تقدم سماسرة وتراجمة لفائدة ميناء طنجة» (المادة 6). وكان على ممثلي الدول الأجنبية، كل فيما يخصه، أن يقدموا للحكومة المغربية سنويا لائحة بأسماء المحميين لديهم (المادتان 7و8). وتنص المادة 11 على حق الملكية لفائدة كل الأجانب بالمغرب. وبسخرية مفضوحة تؤكد المادة 16 أنه «لا تمنح في المستقبل أية حماية غير قانونية أو شبه رسمية». وخصصت المادة نفسها (16) حماية فوق العادة من أجل «مكافأة خدمات متميزة أسداها مواطن مغربي لفائدة دولة أجنبية، أو بفضل أعمال أخرى استثنائية». وقد تم تحديد عدد هذه الفئة الأخيرة في 12 "محميا استثنائيا" لكل دولة! وتنص المادة 17، ما قبل الأخيرة، على واجب اعتراف المغرب لكل الدول الممثلة في مؤتمر مدريد بحق تمتعها بامتياز «الدولة الأكثر رعاية". لقد اعتبر هذا التدخل في السيادة المغربية على أنه سياسة «الوضع الراهن» فيما يتعلق بما كان يسمى حينها «المسألة المغربية»، أي أن الأطراف المتفاوضة في مدريد اتفقت على ما يشبه الحد الأدنى في استغلال نفوذها عن طريق الحماية القنصلية بالمغرب، وذلك في انتظار تسوية استعمارية شاملة ونهائية. وبطبيعة الحال لم يكن الشارع المغربي غير مكترث بفضيحة الحماية الأجنبية التي لطخت سمعة البلاد والعباد. غضب الشارع المغربي راجت شائعة في طنجة، حيث كثافة المحميين في الأوساط اليهودية المغربية لافتة للنظر، ومفادها أن إنجلترا وإسبانيا ربما قد تتخليان عن حق «الحماية». وعبر اليهود المحميون عن استنكارهم الشديد لهذا القرار السياسي المزعوم. ويبدو أن مصدر هذه الشائعة كان هو الرابطة الأنجلو-يهودية التي كانت تتخذ من لندن مقرا لها، ولم يكن من المستبعد أن المستر درمونهاي، ممثل بريطانيا لسنوات طويلة بالمغرب، هو الذي كان وراء تحريك الرأي العام المحلي بطنجة عن طريق نشر البلبلة في صفوف الجالية اليهودية، لأسباب تكتيكية تستهدف التقليص من النفوذ الفرنسي المتنامي والمنافس بطبعه لإنجلترا. ومهما يكن من أمر، فإن سلوك اليهود المغاربة وتهافتهم بكثرة على الحماية الأجنبية استفز الرأي العام الوطني المسلم، إلا أن الأوساط الأوروبية كانت ترى في موقف المسلمين من هذه القضية تعبيرا واضحا عن تعصب المغاربة ومعاداتهم للسامية !... وما هي إلا أطروحات واهية كثيرا ما رددتها الدعاية الكولونيالية المغرضة، ووصف بول لوبوف مجريات هذه الأحداث على الشكل التالي: «عندها اعتقد المسلمون المغاربة أن بوسعهم القيام بكل شيء وأطلقوا العنان لتعصبهم الديني ضد السكان اليهود الذين غالبا ما كان يوظف المحميون من بينهم، ويقال إن شيخا يهوديا تم إحراقه حيا في فاس. ويتهم الرأي العام المغربي اليهود بارتكاب جرائم مختلفة حاقدا في الوقت ذاته على كل المحميين. وتبعا لذلك، اندلعت قلاقل أصبح معها الوضع الأمني في غاية الاهتزاز». ويلاحظ بول لوبوف أن ردود فعل الشارع المغربي لم تكن موجهة فقط ضد المحميين اليهود، بل كذلك ضد المحميين المسلمين، مما يرفع كل لبس بشأن تعصب المغاربة الديني المزعوم: «إن غضب المسلمين ضد إخوانهم في الدين الذين احتموا بالأجنبي وصل إلى حد أنه عندما استولينا على الجزائر كان زعيم من الأهالي يفقد نفوذه بمجرد إعلان تحالفه معنا. وأما الآن (1904) فإن كل الزوايا الدينية التي عبرت عن إخلاصها للسلطات الفرنسية وجدت نفسها مرغمة على ربط علاقات سرية معنا (...) وهكذا تبخر نفوذ شريف وزان في اليوم نفسه الذي منحه ورديكا، ممثلنا بطنجة، الحماية الفرنسية". وتجند علماء مغاربة لتغيير هذا المنكر ونددوا أيما تنديد بهذه السلوكات المخالفة لتعاليم الدين الإسلامي والمنافية للأخلاق الفاضلة التي كان المغاربة دائما يتحلون بها. وجاءت كتاباتهم على شكل فتاوي وتوجيهات تربوية لإرشاد المواطنين وتحذيرهم من مغبة السقوط في هاوية الحماية الأجنبية اللعينة. وهكذا كتب علال بن عبد الله الفاسي: «الويل والثبور لمن احتمى بالباصبور»، وأسهم العربي المشرفي بكتاب «الرسالة في أهل باصبور الحثالى»، وأضاف المأمون بن عمر الكتاني «هداية الضال المشتغل بالقيل والقال»، وتطرق محمد بن إبراهيم السباعي إلى «كشف المستور عن حقيقة كفر أهل باصبور»... وتمت مقاطعة العديد من هؤلاء المحميين المغرورين بأنفسهم والضالين عن سواء السبيل، لكن بدون جدوى. وبدأت كل الدلائل تشير إلى أن المغرب أصبح قاب قوسين أو أدنى من انهيار عام يشمل كل مكوناته ويهدد بتمزيق هويته عن آخرها. وبعدما ازداد تهافت المغاربة على الحماية الأجنبية جريا وراء ما تحققه لهم من مزايا نفعية ضيقة الأفق، بدأت الدول المتنافسة في البحث عن الكيف لا الكم، من خلال استمالة العناصر من ذوي النفوذ المادي أو المعنوي، حتى إذا انضووا تحت حماية الدولة الأجنبية ضمنت هذه الأخيرة امتداد نفوذها بشكل أنجع الى شرائح اجتماعية كانت تبدو متحفظة أو مترددة في قطع الخطوة الحاسمة في اتجاه طلب الحماية. وحدث أن وقعت قبائل مغربية كلها في هذه المصيدة. وكانت عائلة حاييم بن شمول، التي أشارت إليها بالاسم المادة 6 من الاتفاقية، تمثل أعلى مرتبة يصبو إليها المحميون. وكان بن شمول يعمل ترجمانا بالقنصلية الفرنسية بطنجة، وعضوا بارزا في الرابطة الإسرائيلية العالمية، وعضوا نشيطا في تنظيم ماسوني، وممثلا محليا لعدد من الشركات الملاحية والبنكية. وممولا رسميا للجريدة الفرنسية الصادرة بطنجة تحت عنوان «انبعاث المغرب». وفي كتاب ذي نزعة معادية للسامية ألفه إدوار دريمون تحت عنوان: «فرنسا اليهودية» سنة 1886، تم توجيه انتقاد حاد إلى ابن شمول بصفته «الرأس المدبر للسياسة القنصلية الفرنسية بالمغرب». لهذا، كان ابن شمول يتمتع بحماية وراثية بصفة استثنائية، وكان حاصلا على وسام «جوقة الشرف». ويقابل ابن شمول عند الإيطاليين يهودي مغربي آخر كان اسمه إسحاق تولدانو. ولم تكن السلطات المغربية في وضع يمكنها من تغيير مجرى الأمور ومقاومة الغزو الأجنبي ودسائسه، وأصبحت البلاد من جراء تعرضها لأساليب التغلغل المتنوعة لقمة سائغة في فم الاستعمار الغربي. *أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة – طنجة