ونحن نتتبع معا هذا المسار "الهجراتي" للرعيل الأول، لا بد من التنبيه إلى مسألة مهمة جدا: لقد انطلقت الهجرة في البداية على أساس العودة إلى الوطن في ما بعد؛ فجل المهاجرين الأوائل، إن لم نقل كلهم، لم يغادروا المغرب إلى أوربا بنية الاستقرار الدائم هناك.. لقد كانت الفكرة السائدة آنذاك هي بالدرجة الأولى إعالة الأسرة والعمل لبضع سنوات قصد توفير رأسمال لاستثماره في مشروع (أو مشاريع) داخل أرض الوطن.. والمنحدرون من البوادي كانوا يطمحون إلى توسيع مساحة أراضيهم الفلاحية وتطوير أساليب الاستغلال الزراعي؛ أما القادمون من المدن فكانوا يفكرون في الاستثمار في التجارة وقطاع العقار. المهاجرون ليسوا وحدهم من كانوا يعتقدون أن هجرتهم مؤقتة، بل حتى حكومات بلدان الاستقبال نفسها لم تكن لتفكر عكس ذلك؛ ففي هولندا، وحتى حدود الأمس القريب، كان يطلق على المهاجرين مصطلح: العمال الضيوف (Gastarbeiders)، ومن هذا المنطلق، فإن سلطات البلد لم تكلف نفسها، وعلى مدى العقود الثلاثة الأولى من انطلاق الهجرة، عناء وضع سياسة لإدماجهم داخل المجتمع؛ وهو توجه سيكلف الدولة والمجتمع ثمنا باهظا في ما بعد. وإذ كان هناك من بين المهاجرين الأوائل من عاد فعلا إلى أرض الوطن من أجل تحقيق الحلم الذي هاجر من أجله، فإن أغلبية المهاجرين، بل الغالبية العظمى منهم، بقوا هناك؛ ليقوموا في ما بعد باستقدام زوجاتهم وأبنائهم في إطار نظام التجمع العائلي، أو ليقوموا بتأسيس أسر جديدة في بلاد المهجر؛ لكن دون التخلي عن فكرة الرجوع التي ظلت مخزنة في أذهانهم، مع إرجاء تنفيذها إلى موعد "لاحق"!! ومع انطلاق موجة التجمع العائلي هذه أوائل سبعينيات القرن الماضي، سيفطن المهاجرون إلى ضرورة الحفاظ على الهوية الدينية والثقافية لأبنائهم وبناتهم، إذ سيقومون بإرسالهم إلى المساجد والنوادي التي أخذوا ينشؤونها من أجل تلقي دروس اللغة العربية ومبائ الدين الإسلامي أيام السبت والأحد، وأحيانا الأربعاء مساء (حيث يكون الدوام الدراسي في المدارس الابتدائية في الصباح فقط). وإذ كانت السلطات الهولندية مقتنعة بأن "عمالها الضيوف" وأبناءهم سيعودون لا محالة إلى أوطانهم، ومن أجل تسهيل عملية إدماج هؤلاء الأبناء في ما بعد عندما يعودون إلى المغرب، فقد تم إدخال تعليم اللغة العربية والثقافة المغربية في المدارس العمومية، في إطار ما كان يعرف بOETC (وهو النظام المعروف في كل من فرنسا وبلجيكا باسم ELCO). وللاطلاع أكثر على مضامين والمراحل التي قطعها هذا التعليم تم الاتصال بإبراهيم أبو الحرمة، وهو إطار تربوي معروف، اشتغل مفتشا تربويا بالمغرب قبل أن تجمعه الصدفة في سنة 1984 بالمؤرخ الهولندي هرمان أوبداين، الذي كان يعمل وقتها ملحقا ثقافيا بالسفارة الهولندية بالمغرب، وعرض عليه السفر إلى هولندا من أجل المساهمة في تأطير مشروع تعليم اللغة والثقافة الأصليتين. لدى وصوله إلى هولندا، وبعد تكوين لغوي وبيداغوجي سريع التحق أبو الحرمة للاشتغال في البداية كمعلم للغة العربية والثقافة الأصلية للتلاميذ المغاربة في مدارس أمستردام، قبل أن يتفرغ للعمل من أجل وضع وتطوير مناهج دراسية عربية خاصة بالتعليم الابتدائي.. كما عمل أستاذا للديداكتيك في مجموعة من الأكاديميات التربوية بهولندا، ثم أستاذا للغة العربية بالمدرسة العليا بأمستردام. وعن أهم المحطات التي تخطاها تعليم اللغة العربية والثقافة الأصلية يذكر أبو الحرمة: 1970 إطلاق مشروع OETC (تعليم اللغة والثقافة الأصليتين). 1974 بدأ المغرب في إرسال معلمين لتدريس اللغة العربية لأبناء الجالية المغربية في هولندا؛ في البداية عن طريق وزارة الخارجية ثم عن طريق مؤسسة الحسن الثاني لاحقا، إضافة إلى الكتب المدرسية (المغربية). 1980 إصدار الحكومة الهولندية لمذكرة توجهات سياسة الأقليات، اعتمدت مقاربتين: إعداد الطفل لغويا وثقافيا في حالة العودة إلى المغرب، وفي الوقت نفسه العمل على إدماجه داخل المجتمع. 1989 التخلي النهائي عن الأخذ بعين الاعتبار العودة إلى البلد الأصل وإدخال مشروعOET (تعليم اللغة الأصلية) ولكن بدون ثقافة؛ مع توظيف لغة المنزل من أجل المساعدة على الاندماج. 2001 تم إدراج اللغة العربية كلغة حية في مراكز لغوية داخل الأحياء. 2004 سيتم إلغاء تعليم اللغة الأصلية بشكل نهائي في. "ورغم الإكراهات التي عرفها هذا التعليم، وخاصة ما يتعلق بقلة الأطر"، يقول أبو الحرمة، "فقد أعطى نتائج إيجابية على مستوى التصور الذاتي الإيجابي؛ فالتلاميذ كان يتم تسجيلهم باعتبارهم مغاربة، ما ساعد على خلق وعي ذاتي لديهم بخلفيتهم الثقافية، وتقديم تصور إيجابي حول لغتهم الأصلية".. وبحسب أبو الحرمة فالشخص الذي يعرف ماضيه يمكنه السير بسهولة نحو المستقبل. وبإلغاء هذا التعليم ستبقى المساجد والجمعيات المغربية هي الفضاءات الوحيدة الخاصة بتدريس اللغة العربية والثقافة والدين. وهنا لا يفوت أبو الحرمة التنويه بالدور الكبير الذي تقوم به المساجد في هذا المجال، ولكن تبقى النتائج التي تقدمها لا ترقى إلى المستوى المنشود. "بسبب تخوف الآباء من الاستلاب الذي قد يتعرض له أبناؤهم من الثقافة الغربية، يتم التركيز خلال الدروس المقدمة على الدين والعبادات، وغالبا بشكل قسري، ما يجعل الأطفال يتوقفون عن الذهاب إلى المسجد مباشرة بعد وصولهم سن 12، هذا إضافة إلى أن القائمين على العملية التعليمية، وبسبب عدم إلمام غالبيتهم باللغة الهولندية، وعدم توفرهم على المؤهلات الديداكتيكية الضرورية، فهم لا يعيرون أي اهتمام للمعرفة المسبقة للتلميذ وللحمولة اللغوية الهولندية التي يأتي بها"، يقول أبو الحرمة، ليشيد بالمقاربة التي طرحها مجلس الجالية المغربية بالخارج مؤخرا، والمتعلقة بضرورة إلمام أساتذة التربية الإسلامية بلغة وثقافة بلدان الاستقبال، قائلا: "لأول مرة ألاحظ أن هيئة مغربية بهذا الحجم تركز على المعطى اللغوي للطفل المغربي بالخارج كمنطلق لتعليم مبادئ الإسلام واللغة العربية". "ومما يؤثر سلبا على مردودية هذا التعليم كونه لا يخضع لأي مراقبة أو تفتيش من أي جهة رسمية، إضافة إلى كون برامج التدريس غالبا ما يتم استيرادها من الخارج، وهي بالتالي ليست لها علاقة بالمحيط السوسيوثقافي للتلميذ.. وإن كانت هناك محاولات لخلق برامج محلية فهي تبقى مجهودات فردية ومحدودة"، يضيف أبو الحرمة. إن واقع تعليم اللغة العربية بهولندا (ولا أظن أن الأمر يختلف كثير اختلاف مع البلدان الأوربية الأخرى) واقع يحتاج إلى إعادة نظر، فرغم الجهود الجبارة والتضحيات الكبيرة التي يتم تقديمها من طرف القائمين عليه فإن نتائجه لا ترقى إلى مستوى طموحات الآباء والأمهات؛ لذا وجب أن تتضافر جهود الفاعلين والمؤطرين في المساجد والجمعيات المغربية بالتعاون مع الجهات المعنية (الوزارة المكلفة بالمغاربة المقيمين بالخارج، مجلس الجالية المغربية بالخارج، مؤسسة الحسن الثاني، وزارة التربية والتعليم، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية)، من أجل وضع وبلورة إستراتيجية تعليمية تقدم اللغة العربية (والأمازيغية أيضا) والثقافة المغربية كلغة حية وثقافة راقية تعتز بها الأجيال الصاعدة وتفتخر بالانتماء إليها.