باحث مغربي مقيم بهولندا www.tijaniboulaouali.nl س: نعلم أن أغلبية المهاجرين المغاربة من ذوي الأصول الأمازيغية خاصة من سوس والجنوب الشرقي والريف، إلى ماذا يعزى ذلك؟ ج: إن أغلب المناطق التي ينحدر منها المهاجرون المغاربة تنتمي إلى ما يطلق عليه تاريخيا المغرب غير النافع، وهي تقع جغرافيا خارج المجال الحضري للمدن العتيقة، التي نالت دوما حظها من التنمية، وما دام أن مناطق المغرب غير النافع، التي تتمثل في الريف والجنوب الشرقي وقسم هام من سوس والأطلس، كانت باستمرار عرضة للتهميش في شتى أبعاده السياسية والاقتصادية والتعليمية والتجهيزية، فما كان على ساكنتها إلا التفكير في إيجاد مخرج من ذلك المستنقع، لا سيما وأن الأنشطة الأخرى لم تعد تكفي؛ فالتجارة تتراجع أمام استفحال المنافسة الشرسة، والصناعة التقليدية تتقهقر أمام غزو السلع الأجنبية للأسواق المغربية، والفلاحة تتدهور باستمرار ظاهرة الجفاف وشح المياه... وهكذا كان المخرج المثالي من تلك الوضعية المتردية هو الهجرة أولا نحو المدن المغربية الكبرى، ومن ثم نحو دول أوروبا الغربية كفرنسا وبلجيكا وهولندا، وفيما بعد إسبانيا وإيطاليا. س: باعتباركم مقيما بهولندا، إلى أي حد يحضر هاجس الانتماء الهوياتي لدى الأجيال الثلاثة المهاجرة خارج البلاد؟ ج: بعدما بدأ المهاجرون المغاربة يستقرون بشكل قانوني واجتماعي في الدول الأوربية التي هاجروا إليها، وذلك انطلاقا من ثمانينيات القرن المنصرم، إذ سمحت لهم قوانين بعض الدول الأوروبية باستقطاب عائلاتهم عن طريق التجمع العائلي والزواج، بعد ذلك سوف تطفو معطيات جديدة على السطح، أهمها مسألة إدماج المهاجرين في بوتقة المجتمع الغربي، هذا الإدماج الذي لم يراع لا عقيدة المهاجرين ولا ثقافتهم ولا لغاتهم ولا طبيعة تفكيرهم، سوف يزرع في نفوسهم جملة من المخاوف، كفقدان الهوية الأصلية التي يحملونها، والانصهار في أتون الثقافة الغربية، كما جرى للعديد من المهاجرين الأفارقة الذين استقروا بالولايات المتحدةالأمريكية، أو المهاجرين الشاميين الذين توجهوا نحو بعض دول أمريكا الجنوبية، كالبرازيل والأرجنتين والمكسيك، فلم يتبق من هوياتهم الأصلية إلا بعض الأسماء المحرفة تركيبا ونطقا! هذه الوضعية الجديدة التي لم يتوقعها المهاجرون المغاربة الأول، وهي وضعية تجعل بعضا منهم يعتقد أن الانفلات منها لا يكون إلا بالعودة إلى الوطن، وتجعل فئة منهم ترى أنه يتحتم على أجيال المهاجرين التكيف الإيجابي مع الواقع الغربي، والاستجابة لمقتضيات قانون إدماج المهاجرين في المجتمع الغربي، ولو كان ذلك على حساب الهوية الأصلية، في حين تظل أغلبية المهاجرين تعيش في نوع من التشاؤم، لأنها تظل موزعة المشاعر والجهود بين غرب تحيى فيه رغم أنفها، ووطن تتوق إلى العودة إليه، لكن كيف السبيل إلى ذلك، أمام رغبة الجيل الأخير الأكيدة؛ جيل الأبناء، في البقاء في وطنهم الذي ولدوا وتربوا ودرسوا فيه! س: الدولة المغربية ذهبت في طرح دعم التعريب وفتح مدارس الوعظ والإرشاد الديني بأوربا، هل هي سياسة صحية في نظركم؟ ج: عندما نتحدث عن الشأن اللغوي أو الثقافي للمهاجرين المغاربة في الغرب، الذين يشكل الأمازيغ أغلبيتهم، يطفو على سطح الواقع إشكال عميق، وهو يتعلق باللغة الأم لهؤلاء المهاجرين، علما بأن البحث العلمي الحديث توصل إلى أن الطفل كلما كان ضعيفا على مستوى لغته الأصلية، كلما فشل في استيعاب اللغة الأجنبية الأخرى التي يدرس بها في المدرسة، وهذا ما حدث بالذات للطفل المغربي الأمازيغي، الذي عومل طوال أكثر من عقدين زمنيين في الغرب عامة، وفي هولندا خاصة، على أن اللغة العربية أو العامية المغربية هي لغته الأم، في حين أن لغته الأصلية هي اللغة الأمازيغية بإحدى تعابيرها الثلاثة! وقد يذهب البعض إلى أن للدولة المغربية باع في ذلك، وأنها هي التي تساهم بصيغة مباشرة أو غير مباشرة في تعميم سياسة التعريب بين أوساط الجالية في الخارج، غير أن هذا التفسير يظل بعيدا عن الواقع، ربما قد ينطبق ذلك على الدولة التركية مثلا، أما فيما يخص المغرب، فيبدو أنه أصلا لم يعر الاهتمام اللازم لرعاياه المهاجرين، إلا في السنوات الأخيرة، عندما استشعر أهمية العملة الصعبة التي تدرها الجالية على خزينة الدولة وعلى الاقتصاد المغربي عامة، فبدأنا نسمع عن مؤسسة محمد الخامس للتضامن واستقبال المهاجرين، والمجلس الأعلى للهجرة، وإشراك المهاجرين في التنمية، وتنظيم عمليات العبور التي عادة ما يطلق عليها (مرحبا!)، وغير ذلك! أما فيما يتعلق بدعم المغرب تعريب المهاجرين، فيظل نسبيا، يقتصر على بعض المؤسسات الثقافية والمساجد المعروفة خصوصا بفرنسا. في حين اختارت أغلب مساجد الهجرة طريق تعريب أبنائها عن طواعية وعن طيب خاطر، ليس من باب التنقيص من الأمازيغية أو تهميشها، وإنما من باب الحفاظ على الهوية الأصلية، التي عادة ما يختزلها المهاجرون فيما هو ديني، هؤلاء الذين يظلون مشتتين بين تعلم اللغة الهولندية؛ لغة العمل والتعامل الإداري والتخاطب اليومي، وبين تعلم اللغة العربية؛ لغة العبادة والتجاوب مع قضايا العالم الإسلامي الكبرى، في حين يبقى حيز جد ضئيل للغة الأمازيغية، التي تستعمل بأسلوب عشوائي داخل البيوت، أو في بعض النوادي التي يرتادها المغاربة الأمازيغ، كالمساجد والأسواق والمقاهي... وغير ذلك. س: لماذا في نظركم تدعم الحكومة برامج تعريب المهاجرين، في حين لا تحظى الأمازيغية بنفس الدعم مع العلم أن الأمازيغ هم من يشكل غالبية المهاجرين؟ ج: في اعتقادي، إن تردي وضعية اللغة الأمازيغية، لا ينبغي ربطه بدعم الحكومة المغربية لبرامج تعريب المهاجرين، فالدولة المغربية كانت أصلا لا تملك استراتيجية واضحة المعالم بخصوص جالياتها في المهاجر، لذلك ففهم تلك الوضعية، لا يتم إلا باستيعاب عنصرين أساسيين: أولهما؛ أن طريق التعريب وتدريس العربية في المساجد وبعض الجمعيات الثقافية والمدارس الحكومية الهولندية، اختاره المهاجرون أنفسهم من دون أي دافع خارجي، وإنما جراء عوامل ذاتية، كالحفاظ على الهوية الدينية الأصلية، والخوف من الذوبان في ثقافة الغير. وثانيهما؛ يمكن تحميل معظم المسئولية للمثقفين الأمازيغ، الذين ينشطون من خلال مختلف الجمعيات الثقافية، التي تتلقى الدعم المادي الضخم من الدولة الهولندية، لتغطية وتمويل أنشطتها الثقافية، فعوض ما تفكر في إحياء اللغة الأمازيغية لدى المهاجرين، ووضع برامج لتدريس الأمازيغية، كما هو الحال لدى الأتراك والأكراد وغيرهما، فإنها تبذر تلك الأموال في السهرات الغنائية والأنشطة التافهة! س: من وجهة نظركم الخاصة كيف يمكن ربط المغاربة بثقافتهم الأصلية دون أن يؤثر ذلك على نفسيتهم وشخصيتهم؟ ج: الآفة التي يعيشها المغاربة في المهجر، أنهم منقسمون ومشتتون، فكيف يمكن ربط المنقسم والمشتت بأصله؟ حسب ظني، الحل الأول هو محاولة تجميع المغاربة وتنظيمهم في تمثيلية أو تمثيليات كبيرة، تتحدث بلسانهم، حتى الدولة الهولندية لاحظت ذلك، وأدركت أنه من الصعوبة بمكان مخاطبة المغاربة، فطلبت منهم في أكثر من مناسبة، تأسيس هيئة أو إطار يمثلهم لدى مختلف الجهات، إن محليا أو وطنيا، ولا يتأتى هذا الحل إلا بتضافر الجهود الصادقة التي يشارك فيها الجميع، مؤسسات ومثقفين وسلطات، بعد ذلك يمكن طرح استراتيجية متكاملة لربط المغاربة بثقافتهم الأصلية. وهذا لا يعني أنهم غير مرتبطين بأصولهم، بل المغاربة هم أكثر المهاجرين ارتباطا بالوطن والدين والعادات والتقاليد، إلا أن ذلك يتم بكيفية فردية وعشوائية، تفتقر إلى التوجيه والتنسيق. س: هل تمتلكون تصورا لإشراك الجالية في اتخاذ القرار وتمثيليتهم داخل البرلمان بغرفتيه؟ ج: أصبحت الدولة المغربية في المرحلة الأخيرة، لا تفكر في المهاجرين إلا بشكل رقمي وحسابي، فهم لا يستمدون قيمتهم من انتمائهم الوطني أو الثقافي أو الديني، وإنما من مدى ما يحولونه من عمولات صعبة إلى الأبناك المغربية، لذلك فإننا عندما نتصفح وسائل الإعلام المغربية، ونقرأ ما ينشر حول الجاليات المهاجرة، ندرك أن الهاجس المادي يحضر بشدة، إذ ثمة تتبع دقيق واكتراث معتبر، بكم من الأموال التي تم تحويلها من الخارج؟ هل زادت نسبتها أم انخفضت؟ وكيف يمكن إغراء المهاجرين للاستثمار في الوطن؟ وكيف يمكن إغراق المهاجرين في الديون عن طريق القروض البنكية التي لا تريد أن تتوقف؟! وهلم جرا. أما المشاكل المتنوعة التي يتخبط فيها المهاجرون، فلا نجد لها أثرا في تصريحات الوزراء والمسئولين الكبار، فهذا شأن خارجي يخص الدول التي اختاروا الإقامة فيها! إن إشراك المهاجرين في اتخاذ القرار، لا يتم إلا إذا تخلت الدولة المغربية عن هذه النظرة المعيارية المزدوجة والمتناقضة، وسارعت إلى التصالح مع ماضيها الأسود، الذي غيب تماما أجيال الهجرة التي اختارت المنفى، وركبت الأهوال، وخاضت المجاهل، من أجل وطنها الذي كان يرزح تحت وطأة الفقر والتجويع والاضطهاد، ولا يكون ذلك التصالح كما نعهد دوما، بكيفية شكلية أو رمزية، وإنما بكيفية عملية وميدانية، تكرم المهاجر وتعلي من شأنه.